درس من أوباما في مسئولية الدولة عن صحة أبنائها

بقلم : سعد هجرس

 هل نكون أمريكيين أكثر من الأمريكان؟‮!‬ 
لست من المغرمين بـ‮ "‬النموذج الأمريكي‮" ‬أو المبهورين بكل ما هو أمريكي‮. ‬لكن الأمر الغريب هو أن أولئك الذين يتعبدون في محراب‮ "‬ماما أمريكا‮" ‬لا يستوردون لنا من بلاد العم سام إلا ما هو سيئ،‮ ‬بل ربما الأسوأ علي الإطلاق‮. ‬أما الأجمل والأذكي والأرقي في الولايات المتحدة الأمريكية فلا علاقة لهم به من قريب أو بعيد‮. ‬وعلي سبيل المثال نجدهم يعتبرون‮ "‬توافق واشنطن‮" ‬إنجيلهم و"مدرسة شيكاغو‮" ‬محرابهم باعتبارهم منبر النيوليبرالية وأكثر طبعات الرأسمالية توحشا،‮ ‬ويقومون بالترجمة الحرفية لهذه‮ "‬الأصولية الرأسمالية‮" ‬الفجة ويحاولون فرضها علينا وغرسها علي ضفاف النيل وإسباغ‮ ‬هالات‮ "‬الحكمة‮" ‬علي سياسات‮ "‬تقديس‮" ‬عشوائية قوي السوق التي تسفر عنها،‮ ‬وهي السياسات التي كانت أحد أهم أسباب الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي مؤخراً‮ ‬وجرت الاقتصاد العالمي وراءه إلي نفق الأزمة‮.‬

هؤلاء أنفسهم صمتوا صمت القبور عندما تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن الحاجة إلي إصلاح نظام الرعاية الصحية في أمريكا،‮ ‬ثم عندما خاض معركة بالغة الضراوة‮ - ‬ولايزال‮ -‬‭ ‬مع شركات التأمين الصحي والقوي الأكثر يمينية في أمريكا‮. ‬وتعالوا نبدأ القصة المسكوت عنها من أولها عندما طرح أوباما هذا الموضوع ووضعه كأولوية متقدمة في برنامجه الانتخابي‮.‬ وقتها قال الكثيرون إنه‮ "‬كلام انتخابات‮" ‬شأنه شأن‮ "‬كلام الليل‮" ‬المدهون بزبدة والذي‮ "‬يسيح‮" ‬بمجرد طلوع النهار،‮ ‬لكن الرجل كان يعني ما يقول،‮ ‬فبعد أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة أعاد فتح الملفات رغم التحذيرات والمخاوف قائلا إن‮ "‬وسائل الإعلام تركز معظم اهتمامها علي الأصوات العالية،‮ ‬لكن ما لم نسمعه هو أصوات الملايين من الأمريكيين الذين يكافحون كل يوم مع نظام‮ ‬غالباً‮ ‬ما يعمل لصالح شركات التأمين الصحي أكثر مما يعمل من أجلهم‮".

‬ثم اتضح أن أوباما لم يكن يردد شعارات جوفاء،‮ ‬بل كان يتحدث عن ملايين من البشر،‮ ‬وعن أناس من لحم ودم،‮ ‬قابلهم واستمع إلي معاناتهم وعاش معهم،‮ ‬مثل‮ "‬لوري هيشكوك‮" ‬التي قابلها في نيو هامبشاير،‮ ‬وهي سيدة أمريكية تحاول بدء مشروع خاص تتكسب منه لكن لأنها مصابة بفيروس الكبد‮ "‬سي‮" ‬الذي يعاني منه ملايين المصريين لا يمكنها أن تجد شركة تأمين تغطي رعايتها الصحية‮.‬ ومثل رجل أمريكي فقد التأمين الصحي أثناء تلقيه علاجاً‮ ‬كيميائياً‮ ‬لان شركة التأمين اكتشفت أن لديه حصوات في المرارة،‮ ‬التي لم يكن يعرف عنها شيئا عندما تقدم للحصول علي البوليصة‮. ‬ولأن علاجه تأخر بسبب هذه المناكفات مع الشركة‮..

‬فإن الرجل المسكين مات‮!! ‬وبسبب هذه المعايشة الحميمة للناس‮ "‬العاديين‮" ‬تحرك الرئيس الأمريكي بقوة من أجل تمرير مشروع إصلاح التأمين،‮ ‬ولم يتحرك هذا الهدف معلقاً‮ ‬في الهواء بل حدد له برنامجا زمنياً‮ "‬في العام الحالي‮"‬،‮ ‬فشعارات الإصلاح تصبح بلا قيمة إذا لم تكن مقترنة بجداول زمنية محددة وعاجلة وإذا لم تكن مرتبطة بآليات محددة تضمن تنفيذها‮.‬ لذلك نجد أنه اقترح أربعة طرق توفر مزيداً‮ ‬من الأمان لجميع الأمريكيين‮:‬ أولا‮: ‬إذا لم يكن لديك تأمين صحي سيكون أمامك خيار التمتع بتغطية صحية عالية الجودة معقولة التكلفة لك ولأسرتك،‮ ‬تستمر معك سواء انتقلت من وظيفتك أو‮ ‬غيرتها أو فقدتها‮.‬ ثانيا‮: ‬سيضع الإصلاح تكاليف الرعاية الصحية الهائلة تحت السيطرة‮.‬ ثالثا‮: ‬من خلال تحسين فاعلية برنامج الصحة الفيدرالية‮ "‬ميديكير‮" ‬سيكون هناك ضمان لذهاب مزيد من أموال الضرائب مباشرة لكبار السن بدلا من إثراء شركات التأمين،‮ ‬وستقلل أعمال الاصلاح المقترحة من المبالغ‮ ‬التي يدفعها كبار السن لشراء الأدوية‮.‬ رابعاً‮: ‬سيقدم الإصلاح لكل أمريكي إجراءات حماية للمستهلك الأساسي التي تجعل شركات التأمين مسئولة في النهاية،‮

‬وأوضح أوباما‮ -‬‭ ‬بهذا الصدد‮ -‬‭ ‬أن بحثا قوميا أجري عام‮ ‬2007‭ ‬أظهر أن شركات التأمين تمارس التمييز ضد ما يزيد علي‮ ‬12‭ ‬مليون أمريكي في الأعوام الثلاثة السابقة،‮ ‬لا لشيء إلا لأنهم كانوا يعانون من حالات مرضية أصيبوا بها في أوقات سابقة،‮ ‬وكان تصرف الشركات إما برفض تغطية الشخص أو برفض تغطية مرض أو حالة معينة أو بطلب دفع مقابل مالي أعلي‮. ‬وتعهد أوباما بوضع‮ "‬نهاية لتلك الممارسات‮" ‬حيث‮ "‬سيمنع هذا البرنامج الاصلاحي شركات التأمين من رفض التغطية بسبب التاريخ الطبي للشخص‮. ‬ولن يكون باستطاعتها وضع حد قسري علي قدر التغطية التي يمكن ان يتلقاها الشخص في أي عام أو طول حياته‮.. ‬ولن يفلس أي شخص في أمريكا لأنه أصيب بالمرض‮". ‬والأهم من ذلك ما قاله أوباما عن أنه‮ "‬سيطلب من شركات التأمين تغطية الفحوص الروتينية والرعاية الوقائية والفحوص الدورية،‮ ‬مثل إجراء الأشعة علي الثدي ومنظار القولون‮.

‬فلا يوجد سبب لعدم اكتشافنا لأمراض مثل سرطان الثدي والبروستاتا مبكرا‮. ‬إن ذلك أمر منطقي فهو ينقذ حياة الناس ويمكن أيضا أن يوفر المال‮".‬ أما استمرار الوضع الحالي‮ "‬فمن شأنه أن يفقد‮ ‬14‭ ‬ألف أمريكي تأمينهم الصحي يوميا،‮ ‬وأن تستمر تكاليف التأمين المميز في الارتفاع،‮ ‬وأن تستمر شركات التأمين في التربح بالتمييز بين المرضي‮". ‬وباختصار فإن الإصلاح لنظام الرعاية الصحية الذي يقترحه أوباما يفيد‮ ‬46‭ ‬مليون أمريكي لا يتمتعون بالتأمين الصحي حاليا،‮ ‬ويفيد أيضا الأمريكيين الذين لديهم تأمين ما‮. ‬ومن أجل إقناع الرأي العام الامريكي بهذا البرنامج الاصلاحي طاف أوباما بعدد من الولايات ليتحدث مع المواطنين وجمعيات المجتمع المدني وكل من يعنيه الامر قبل أن يرسل مشروعه إلي الكونجرس‮. ‬وشارك بنفسه في مناظرات ساخنة مع خصومه الجمهوريين واليمينيين الأكثر تطرفا الذين نظموا مظاهرات ومسيرات احتجاجية للاعتراض علي مشروعه بدعم من شركات التأمين الكبري صاحبة المصلحة في إجهاض المشروع‮. ‬لكن هذا لم يوقف النقاش الجاد،‮ ‬والحاد،‮ ‬حتي وصل المشروع إلي مجلس النواب الأسبوع الماضي للتصويت لصالحه بفارق بسيط،‮ ‬بأغلبية‮ ‬220‭ ‬صوتا مقابل‮ ‬215‭ ‬صوتا‮.

‬وستنتقل المعركة إلي مجلس الشيوخ حيث من المتوقع أن يكون الصراع أكثر حدة،‮ ‬وتعقيبا علي ذلك قال أوباما‮: "‬بفضل العمل الجبار لمجلس النواب أصبحنا علي بعد خطوتين فحسب من تحقيق إصلاح التأمين الصحي في أمريكا‮". ‬وهو ما يعتبره المراقبون أكبر تغيير في السياسة الصحية منذ إنشاء برنامج‮ "‬ميديكير‮" ‬للرعاية الصحية للمسنين عام‮ ‬1965‭.‬ هذا يحدث الآن في أمريكا‮.. ‬وقد يسأل سائل‮: ‬ما شأننا نحن في مصر بذلك؟‮! ‬صحيح أن هناك اختلافات كبيرة بين أوضاع قوة عظمي مثل أمريكا وبلد ينتمي إلي العالم الثالث مثل مصر‮..

‬لكن الحديث بإسهاب عن هذا النموذج الأمريكي في الرعاية الصحية حافل بالعديد من الدروس المفيدة لنا،‮ ‬ومن أهمها أن أمريكا هي أكبر بلد رأسمالي في العالم،‮ ‬ومع ذلك فإن هذا لم يمنع رئيسها من مواجهة كبريات الشركات الرأسمالية العاملة في مجال التأمين الصحي،‮ ‬والوقوف في وجه أطماعها لأن صحة الناس مسألة‮ "‬أمن قومي‮" ‬ولان تحسين الرعاية الصحية‮ "‬يشكل خطوة مهمة وضرورية نحو تقوية وتعزيز اقتصاد البلاد‮" ‬بنص تعبير أوباما‮. ‬فهناك دور للدولة لا يمكن التنازل عنه لشركات لا يهمها شيء سوي تكديس الأرباح والمكاسب‮. ‬ونرجو من إخواننا الذين يعكفون علي صياغة مشروع قانون جديد للتأمين الصحي في مصر المحروسة أن يتأملوا أقوال،‮ ‬وأفعال،‮ ‬الرئيس الأمريكي أوباما الذي لا يمكن اتهامه بـ‮ "‬الشمولية‮" ‬أو‮ "‬الانغلاق‮" .. ‬وغير ذلك من الكلاشيهات البالية‮. ‬أم أنهم يريدون أن يكونوا أكثر رأسمالية من رئيس أكبر دولة رأسمالية في العالم؟‮!

نقلا عن : الوفد‬

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع