نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
حين تنعدم البطولة أو حين لا تنجم عن استحقاق فإنها تغتصب، وحين تكون الهزيمة والانكسارات النفسية هي بؤرة النشاط السياسي فإن الضرورة والواجب الوطني يحتم صناعة نصر حتى ولو كان من ورق، فما يهم هو أن لا تنعدم البطولة وأن لا ينضب معين النصر، إن الفشل أمام العدو يستلزم تشكيل عدو على مقاس النصر المزور والبطولة المصطنعة، والفشل أمام الذات يستوجب ترحيله إلى جبهات خارجية. وإذن لابد من بطولة في الحياة السياسية.
ومع أن العصر الحديث تجاوز البطولة الورقية والمستمدة من الفحولة واستعراض العضلات ليحل محلها بطولة الانجاز والتنمية والتقدم إلا أن غالبية الدول العربية لازلت تعتمد على نفخ العضلات طريقا وحيدا لاستعراض البطولة، حيث تعوض مسلسل الاخفاقات بانتصارات وهمية هنا وهناك.
وحيث لا يمكن لزعيم عربي أن يقر بأن ثمة اخفاق فلابد إذن من التمويه والهروب إلى الأمام باصطناع أزمات خارجية كفيلة باضفاء وهج ومشروعية وطنية، النظام هنا يلجأ إلى غش مفضوح في امتحان الذاكرة الجماعية ليؤسس تاريخا وطنيا مشحونا بملاحم بطولية كارتونية، لكن المصيبة أن هذه البطولات تستنزف ثروات الوطن العربي خاصة إذا ما كانت تقترن بموازنات ضخمة للتسلح، فانفاق الدول العربية على السلاح جعل منها سوقا رابحة لشركات التسلح، فإضافة إلى التوترات السياسية البينية المزمنة في الوطن العربي وغياب الرقابة الشعبية القادرة وحدها على الحد من سفه الأنظمة واستهتارها بمقدرات الشعوب فإن هاجس البطولة يتيح لسماسرة السلاح فرص استثمارية ناجحة، وهو ما أشار إليه الكونغرس الأميركي حيث أشار إلى أن الدول النامية وخاصة الدول العربية في القترة ( 1998- 2005م ) هي أكبر مستورد للسلاح في العالم.
لكن هذه الشركات تحتاج إلى وفرة في المال حتى يتسنى لها عرض منتجاتها عالية الكلفة وهي مرغمة على الدخول في اتفاقيات مع دول غير ديمقراطية حتى لا تتكدس هذه الأسلحة في مخازنها وتتكبد جراء ذلك خسائر فادحة. فالكلفة العالية لصناعة السلاح تحتاج لكريم سخي يضخ المال دون حسيب أو رقيب والمؤهل لذلك طبعا هي الدول النفطية الريعية التي بإمكانها وحدها أن تبيع النفط لوفرته بثمن بخس، وفي المقابل تشتري السلاح بأثمان باهظة.
فضمن معادلة "النفط مقابل السلاح" التي حلت محل "النفط مقابل التنمية" كان مواتيا لدول الخليج أن تحتل الأسبقية في ميدان التسلح، وفيما تمثل موازنات الدفاع في دول الخليج 67% من إجمالي النفقات العسكرية بالمنطقة كلها، فإن المملكة العربية السعودية تمثل وحدها 40% ، مما جعلها تحتل المرتبة السابعة على مستوى العالم، حيث يبلغ حجم الانفاق العسكري السعودي حوالي 29.5 بليون دولار.
هذه الأرقام تكشف قبل كل شيء عن أن الدول الخليجية لازلت تشعر بوجود تهديدات خارجية أو داخلية قد تؤدي إلى انكشاف أمنها العسكري والسياسي، لكنها في الآن نفسه تتسق مع التوجه الأميركي الجديد الذي يحث الدول الخليجية على الاكتفاء الذاتي في الحماية الأمنية والدفاع، وكل ذلك يجب أن يأتي ضمن سياق تنمية عسكرية شاملة وحسب تحليل استراتيجي أعده معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تتلخص هذه التنمية في ثلاثة عوامل: تطوير عمليات الشراء المحسنة، التركيز على التدريب والتعليم العسكري وقدرات الصيانة وحدوث تغير أساسي في منظور التهديدات الأمنية الاقليمية، فبعد سقوط العراق باتت ايران هي التحدي الأساسي لأمن الخليج مع أن ايران التي تشكل مصدر قلق ربما كان وهميا لم تكن تنفق وفقا لتقرير المعهد الاستراتيجي الدولي في لندن على التسلح أكثر من 7.2 بليون دولار أي أقل بكثير من دولة خليجية كالإمارات التي وصل انفاقها العسكري إلى 9.5 بليون دولار ناهيك عن العربية السعودية.
خلف هذا الاستنزاف إذن ثمة توجيه أميركي يحث على مزيد من التسلح، والحجة دائما وأبدا هي ايران. روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي يؤكد ذلك بتصريحه لقناة الجزيرة في أيلول الماضي، حيث يقول بالحرف الواحد: "كلما استطاع أصدقاؤنا العرب وحلفاؤنا تقوية قدراتهم الأمنية، كلما أدى ذلك إلى زيادة قوة تعاونهم مع بعضهم ومعنا، وأنا اعتقد أن هذا يرسل إشارة إلى الإيرانيين بأن الطريق الذي يسيرون عليه لا يدعم الأمن في إيران ولكنه يضعفه في الواقع".
من هنا نفهم حقيقة ما يجري في اليمن، فإذا كان الهدف من التسلح وكل تلك الجيوش الجرارة المزودة بترسانة هائلة من السلاح "وطبعا كلها مستوردة" هو صد ايران والوقوف ضد نواياها التوسعية فإن التمرد الحوثي سيمثل بطريقة غير مباشرة الفئة المتعدية التي يسقط عليها التهديد الايراني، وبالتالي وفي اتجاه للبننته يصبح اليمن ارض مواتية لتصفية الحسابات وخوض الحرب المباشرة ضد طرف وفصيل سياسي يمني يتهم بعمالته لايران وبالتالي فإنه مرشح لخوض هذه المعركة عنها بالوكالة.
الحوثيون في الأساس حركة سياسية اجتماعية مطلبية، ومطلبها الأساس كان يتمركز حول اهمال الحكومة المركزية في صنعاء للحقوق الاقتصادية والمعيشية في صعدة ناهيك عن خشيتها من بروز مؤشرات لتوغل فئات معادية ذات أجندة طائفية، مما يعني أن لهذا الصراع جذور وخلفيات مطلبية مشروعة قبل أن يتصاعد ليصل إلى تهديد جدي لاستقرار دولة هي الأفقر من بين الدول العربية. إن أي دولة ذات سيادة لها الحق في ردع أي جماعة متمردة تعكر صفو الأمن والاستقرار، لا أحد يجادل في ذلك، ولكن الاقتصار على الردع والمعالجة الأمنية لا يمكن أن يقدم حلولا جذرية، فكما أن خلفية الصراع سياسية واقتصادية واجتماعية فإن الحل يجب أن يكون من ذات السنخ أي هو كذلك يجب أن يكون سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، هذه الدعوة لاقت رواجا واسعا داخل اليمن نفسها حيث ترافقت دعوة تحالف الأحزاب السياسية المعارضة إلى التزام سياسة الحوار بدل العنف في حل الأزمة مع مطالب واسعة من أصوات داخلية مستقلة تدعو إلى وقف القتال فورا والعودة إلى طاولة الحوار، والسؤال هنا: هل ستتجاوب الحكومة اليمنية مع هذه المطالب؟
المرجح هو أن الحكومة اليمنية باتت عاجزة عن السيطرة على الموقف، خاصة بعد التدخل السعودي المباشر والذي أعقبه تدخل ايراني "غير مباشر" مع التصريح الأخير لوزير الخارجية الايراني منوشهر متقي، ولذلك فإن ما بدا أزمة داخلية هو في الأساس فصل من فصول التوتر المتصاعد بين طهران والرياض المتصارعتين على النفوذ الاقليمي، فاليمن هو المرشح الأبرز لأكثر من سبب، فاضافة إلى تراجع الورقة اللبنانية بعد حدوث مصالحة مرتقبة بين الغرب وسوريا، فإن اليمن يمثل ساحة مألوفة للرياض لتصفية الحسابات مع الخصوم، وإذا كان البعض يلمح إلى أن ايران تحاول أن تستعيد المجد الساساني في اليمن فإن البعض الآخر يرى في التدخل العسكري السعودية حلقة من حلقات المرتع السياسي والأمني للسعودية في اليمن منذ خوضها معترك الصراع على أرضها مع جمال عبد الناصر في الستينات.
اليوم تمثل اليمن وظيفة أمنية مزدوجة ،فالحرب مع ايران بالوكالة من جهة، و ترحيل الخطر الارهابي المتمثل في القاعدة من جهة أخرى، ولكن بعد حدوث مواجهات بين حرس الحدود ومتسللين " لا أحد يعرف على وجه الدق أهم عسكريون أم مدنيون حيث أن سحناتهم تدل على أنهم فارون من جحيم الفقر إلى جنة مفترضة" وكذلك ما حدث في حوادث سابقة مع عناصر من القاعدة أدركت الرياض أن مهمةً من مهام البطولة يجب أن تنجز. فحشدت الجنود واستنفرت وسائل الاعلام التي سرعان ما استجابت بنشيد البطولة والوطنية وتخوين كل من يجرؤ على نقد السياسة الرسمية. فالدفاع عن الأرض حق وضرورة وطنية، هذا صحيح، ولكن أن تحشد كل هذه الجحافل لسحق مجموعة من الحفاة والمتسللين فإن هذا يتطلب اعادة نظر ومراجعة، وهو ما كان فعلا مع الموقف الحكيم الذي اتخذه الملك السعودي حين أعلن بشكل مضمر عن انتهاء العمليات العسكرية بعدما نجحت عمليات التطهير.
http://www.copts-united.com/article.php?A=10141&I=266