بقلم : نبيل عبد الفتاح
يعاني العقل السياسي المصري وعملياته التفكيرية الشائعة من مجموعة أمراض متوطنة, وأخري مكتسبة من أنماط العفوية والفهلوة والمجانية واللا مسئولية الشائعة في اتخاذ المواقف والقرارات والسلوكيات الرسمية والوظيفية منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي, حتي العقد الأول من الألفية الجديدة الذي شارف علي الانتهاء. ثمة ضرورات موضوعية وحياتية تتطلب رصد بعض علل التفكير السياسي والبيروقراطي الشائعة, لأن استمراريتها, ستؤدي إلي انفجار متلاحق للأزمات, والكوارث الاجتماعية والسياسية, بل وفي أساليب تعامل الصفوة السياسية الحاكمة والمعارضة_ معا_ مع مشكلاتنا المتفاقمة.
الانفجار السكاني المتزايد, مع تردي مستويات ونوعية المورد البشري المصري, بات يمثل عبئا ضخما علي إمكانيات إدارة الدولة ومؤسساتها, في ظل تدني نوعية التعليم, والخدمات الصحية والسكانية والإسكانية.
مصر تعد كتلة سكانية مترهلة, تنطوي علي فرصة تنموية أهدرها ولا يزال نمط تفكير سياسي وديني وضعي, لا يواجه المشاكل بالتحليل العلمي, والتخطيط المستقبلي والتكاملي بين القطاعات السكانية والتعليمية والصحية والثقافية, وسوق العمل. نتعامل مع مشاكلنا من خلال التفكير اللحظي والعفوي والالتقاطي لفكرة مشوشة هنا, وصياغة لفظية مجازية هناك, تقال للجمهور, وللقيادات السياسية والبيروقراطية العليا, في محاولة للإيحاء بالجدية والعمل والحركة نحو الإنجاز في هذا الصدد لا بأس من حشد بعض الأرقام ـ صحيحة أو خاطئة ـ لإكساب الخطاب السياسي والقرار بعضا من الوجاهة والجدية, بينما الواقع التنفيذي ينطق بالأخطاء المهنية والفنية والإدارية الفادحة التي تؤدي إلي كوارث. الانفجار السكاني لم تستطع الصفوة المصرية التصدي لأسبابه من خلال مشروعات تنموية جادة تركز علي التطوير النوعي للتعليم وقاعدته ومناهجه وسياساته في إطار تكاملي مع القطاعات الأخري. ومن ثم تحول إلي كارثة حقيقية في بلد محدود الموارد الطبيعية, ومتخلف في بنياته الزراعية والصناعية والخدمية,
بل والهياكل الأساسية من طرق, وصرف صحي, ومياه ومياه في طور الندرة. ترتيبا علي ما سلف تبدو لنا' الكارثة المالتوسية' رابضة في الأفاق, وهي الوجه الآخر للفكر العشوائي, والمحلي الذي يركز علي الآني فقط, ومواجهة أعراض الأزمات الظاهرة علي نحو لحظي, حتي لا يساءل الوزير, أو الموظف الكبير أو يتعرض لمساءلات وانتقادات الصحف, وبعض أعضاء البرلمان!
كتلة سكانية_ تبدو عبئا علي ذاتها ودولتها أيا كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية لا يكفي في شأنها اللجوء إلي بعض الاستعراضات الإعلامية, ولا الاستعانة ببعض النجوم السينمائية أو التلفازية من الممثلين والممثلات أو المطربين والمطربات الشباب! نزعة تتسم بالخفة السياسية والبيروقراطية لأنها ترمي إلي البروز في المشهد الإعلامي المتلفز والصحفي, بينما تبقي المشكلات تتفاقم, تحت وطأة التفكير اللحظي الذي لا ينظر إلي جذور وتطور المشكلات وكيفية مواجهتها علميا وتخطيطيا... إلخ.
يؤدي التفكير الجزئي المحدود- بلا إطار أو رؤية سياسية وتنموية كلية_ إلي توليد الأزمات من بعضها بعضا, وبديلا عن تطوير تفكيرنا وأجهزة الدولة وسياساتها, وحل مشاكلنا, ينتج أزمات أخري تتشابك وتتعقد, ويصعب علي صانع القرار في قمة النظام, أو في الدولة, أو في المعارضة أن يجد حلا لها. يترافق مع الفكر الجزئي المسطح, النزعة الشعاراتية التي تطرح لتشويه الوعي السياسي شبه الجماعي للجمهور, ومن فرط تكرارها وتلاوتها تشوه وتأكل وعي منتجيها ومستهلكيها معا, بل وتصبح عائقا إزاء التفكير النقدي, أو مراجعة هكذا شعارات خشبية فارغة. مرض آخر هو سيولة اللغة السياسية وميوعتها, والجري الدائم وراء الكلمات الكبيرة والصياغات الجوفاء الممتلئة بالعمومية وعدم الانضباط.
اللغة السياسية الهاربة من معانيها, والتي يرحل عنها مفهوم المسئولية الشخصية والسياسية, تشكل سمت الحقل اللغوي الكتابي والشفاهي الشائع لدي غالب الصفوة السياسية والمثقفة, وبين غالب الجمهور ووسط العوام والدهماء. اللغة السائلة, والمرسلة, هي تعبير عن غلبة النزعة الشفاهية في التفكير والتدفق اللساني غير المنضبط وغير المنتج دلاليا, والذي لا يطور عمليات التفكير, وتسلسل المعاني.
أحد أخطر جوانب الخلل في غالب تفكيرنا ـ لا كله ـ عامة, والسياسي بخاصة, تتمثل في اللا منهجية والانطباعية والوقوع في غواية التعبيرات المرسلة التي تطلق علي عواهنها! ناهيك عن فتنة المأثورات والأمثولات و'الحكم' والمحفوظات التراثية والشعبية التي تجري علي ألسنة بعض الخاصة وغالب العوام. لغة سائلة تميل إلي توظيف بعض المفردات أو المقولات الدينية ـ الشائعة لإكساب اللغة الشفاهية والكتابات النظيرة لها, بعض' الوجاهة' و'التسويغ', وربما المشروعية, وذلك بقطع النظر عن مدي سلامة أو صوابية تضمين اللغة والشعار السياسي أو اليومي السوقي غالبا, مع استعاراته الدينية المصدر الإسلاموية, أو المسيحية!
خذ أيضا وأيضا لجوء غالب الصفوة المثقفة_ لا كلها_ ومعها بعض السياسيين في الحكم والمعارضة_ من التكنوقراط وكبار الموظفين في الجهاز البيروقراطي_ إلي الإنشائية الاصطلاحية, كجزء من' الماكياج اللغوي' والتزيين التجميلي للخطاب الشفاهي أو الكتابي ـ الشفاهي الأسلوب!
أمراض شائعة في تفكيرنا وتعبيراتنا اليومية, تجعل عملية رصد, ووصف وتحليل المشكلات والأزمات الكبري والصغري وما بينهما, معاقة سلفا, وتؤدي إلي ممارسات سياسية وإدارية رسمية معطوبة. لا يقتصر هذا النمط التفكيري والتعبيري المختل علي غالب الصفوة السياسية والمثقفة فقط, وإنما يشيع في أوساط العوام علي مستوي علاقاتهم بأنفسهم وتصديهم لمشاكلهم الخاصة, أو في علاقاتهم بالآخرين, أو مع الدولة وأجهزتها. أدت أمراضنا الفكرية_ الشفاهية الكتابية_ إلي تنميط لأساليب تفكيرنا التي كرست الفكر الرغائبي والأمنيات السياسية, والقفز علي الواقع, وعدم الإيمان بالعلم والمعرفة. أدي التداخل بين المجالات السياسية, والدينية والثقافية والأدبية, والعلمية إلي تكريس العقل النقلي والتكراري, وإضعاف قيمة المعرفة العلمية لصالح النزعة النقلية الدينية الوضعية,
بل وحاول بعضهم السيطرة علي الفضاء العام السياسي والثقافي والاجتماعي باسم سلطة وضعية دينية, تحمل مصالح وتواطؤات سلطوية تتسامح مع بعض هذه الممارسات في مواجهة العقل الناقد الذي يكشف ويهتك هذا النمط من المساندات والتوظيفات السياسية المتبادلة للديني في السياسي والثقافي والأدبي... إلخ.
من الأمثلة البارزة علي التواطؤات بين السياسي ـ الديني, مواقف بعض رجال الدين المسلمين والمسيحيين_ الأرثوذكس وآخرين ـ إزاء بعض الأعمال الأدبية ـ كرواية عزازيل أو فيلم بحب السيما ـ ومحاولة فرض المعايير والتقويمات وأساليب الفهم والتفسير الدينية الفقهية والدعوية الوعظية واللاهوتية بديلا عن التحليلات الألسنية, والنقدية والرمزية والتأويلية مع نصوص تخيلية تتأبي علي ذلك بامتياز!
ذهب بعض رجال الدين المسيحي مؤخرا ـ لا كلهم ـ إلي أن الرواية أو النص الشعري, أو الشريط السينمائي, هي انعكاس ميكانيكي للواقع المعيوش, وهو ما يشكل أحد تعبيرات الخلل المنهجي في التفكير حول الأعمال الإبداعية عموما.
هذا النمط الشائع من التفكير اليومي أثر سلبا علي الإنتاج الإبداعي في الفكر السياسي والاجتماعي, وفي الآداب والفنون والسينما, وفي البحوث الأكاديمية.
إن نمطية التفكير الشفاهي الكتابي الجزئي والشعاراتي واليومي والفهلاوي المحدث, أدي إلي إعادة إنتاج تصورات نمطية حول الدولة النهرية وعلاقاتها مع أنظمة اللامركزية الإدارية وأنظمة الحكم المحلي التنفيذي والشعبي, وفشل تجاربها.
أن النزعة السلطوية المركزية' الفهلاوية' تضع بعض الأنظمة والتشريعات والسياسات بوصفها شعارات دون تغيير جوهر التفكير السياسي, أو في التطبيقات علي أرض الواقع. من هنا لم يتحول الحكم المحلي, والأحزاب السياسية إلي مدارس للتدريب والتكوين السياسي, وإنتاج الكوادر السياسية والبيروقراطية, في البلاد. من ناحية أخري أدي هذا الفكر اليومي إلي عدم القدرة علي مواجهة واستيعاب ظواهر التشظي والتفكك التي ترافق التغير التقني والمعلوماتي والاتصالي للعولمة, وما بعد الثورة الصناعية الثالثة, وتجليات وتأثيرات الشرط ما بعد الحديث.
الفكر اليومي اللحظي لا ينظر إلا تحت أقدامه كما يقال في التعبير الشائع, ومن ثم لا يستطيع بلورة رؤية فلسفية إصلاحية كلية ينتظم في إطارها منهجيا التفكير القطاعي والجزئي في المجالات كافة, وعلي رأسها السياسة والتعليم والثقافة والاقتصاد والشئون الدينية.. إلخ. إن فكر الشظايا العشوائي بات أخطر أمراضنا السياسية والفكرية, ويعد مسئولا عن بعض من أخطر مشاكلنا السياسية والاجتماعية وفي المجال الديني. ثمة حاجة لتغيير جذري في أنظمة تعليمنا وإعلامنا وسياستنا لمواجهة أعراضنا الفكرية المتوطنة والمكتسبة.
نقلا عن جريدة الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=1021&I=28