هل تعتذر دار الإفتاء عن فتوى تعدد الزوجات في المسيحية؟!

هاني دانيال

يبدو أن الفتوى الأخيرة الخاصة بتعدد الزوجات في المسيحية والتي أثارت ضجة مؤخراً، ربما تفتح المجال للحديث عن أمور مسكوت عنها أهمها هي النظرة للآخر المختلف دينياً وكيف تتعامل المؤسسات الدينية مع بعضها في القضايا الخلافية،وكيف توجد مراكز أبحاث تتسبب بجهلها في ظهور معلومات خاطئة يترتب عليها ضجة مثل ما أثير مؤخراً.
جريدة الدستور تلقت الفتوى وصنعت حولها نقاش موسع وفيها انتقد القمص صليب متى ساويرس عضو المجلس الملي تدخل دار الإفتاء في العقيدة المسيحية، ونفس الأمر أصدر الدكتور نجيب جبرائيل رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان بياناً ينتقد فيه تدخل دار الإفتاء في الشئون المسيحية.
من جانبه حاول القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير كاهن كنيسة مسطرد توضيح حقائق الأمور في هذه الفتوى على قناة الحياة الفضائية ولكن الفتاة لم تسمح له بالوقت اللازم في الوقت الذي أثبت فيه الشيخ جمال قطب رئيس لجنة الفتوى السابق بالأزهر أنه يجهل الكثير عن العقيدة المسيحية.
وأكد أن ما صدر هو معلومات عن مركز أبحاث وليس فتوى، وأكد أنه من حق الأزهر ودار الإفتاء مناقشة الأمور المسيحية مثلما تقوم الكليات الإكليريكية بدراسة المذاهب الإسلامية وفروقها دون أن يفرق بين الدراسة في كليات اللاهوت وبين نشر معلومات عقائدية للعامة وأكبر خطأ أن يتم توصيل معلومات لاهوتية وعقائدية خطأ للعامة.
وقبل الدخول في تفاصيل الموضوع نود أن هنا نقدم للقارئ نص الفتوى التي أثارت جدلاً والرد عليها.

الفتوى جاءت تحت اسم الشبهة، ونصها "جاء في القرآن: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء : 3] ونحن نسأل: أليس تعدد الزوجات مخالفا لسُنَّة الله منذ بدء الخليقة؟ فقد خلَق الله حواء واحدة لآدم واحد. وفي تعدد الزوجات إفساد لأخلاق الرجل بالمظالم، وتأخير لنجاح الأولاد، وإهانة للزوجات، وتدمير للتقدم الاجتماعي والسلامة القومية. ونحن نكرِّم الرجولة باحترام الأمهات والأخوات والبنات والزوجات، ومن يفسد البيت يفسد الإنسانية؟"
وجاء النص كما يلي "عدم خَلْق الله زوجة أخرى لسيدنا آدم عليه السلام غير أمنا حواء ليس دليلاً على حُرْمَة التعدد لأن آدم وحواء كانا فردين ليس معهما في الكون أحد، ولم يأمر الله أحداً من عباده بأن يقتدي بهما في ترك التعدد لاستحالة تحقق هذا الاقتداء، كما أن كون التعدد حاجة لبعض الناس لا تقتضي أن يعدد الخلق جميعا أزواجهم.
وفرق كبير بين المنظومة الإسلامية وغيرها، فالتعدد جزء من هذه المنظومة التي ضيَّق الله فيها على عباده من جهة، وبسط لهم من جهة أخرى، فحرَّم النظر إلى المرأة الأجنبية، وحرَّم الخلوة، وحرَّم الزنا، وأباح تعدد الزوجات.
وقد أفرطت منظومات أخرى في حرية الإنسان وأضحت لا تؤمن بالله ولا بأحكامه ولا تشريعاته فأتت بما يدمر ولا يعمر.

وتعدد الزوجات أمر مقرر في الكتب السماوية كلها، فالتوراة فيها إثبات التعدد عن كثير من رسل الله، منهم؛ نبي الله إبراهيم ([1]) ويعقوب ([2]) وداود ([3]) -عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام- أمَّا الإنجيل فإنك لا تجد فيه نصًّاً يُحَرِّم التعدد؛ لذلك لم تكن الكنيسة تُحَرِّم تعدد الزوجات حتى القرن السابع عشر ([4]) بل ومن الطوائف المسيحية مَنْ يعمل بتعدد الزوجات حتى الآن كالطائفة المارونية وطائفة المرمون وبعض أتباع لوثر -البروتستانت- ولم تُحَرِّم المسيحية التعدد إلا بقانون مدني لا بنص من الكتاب المقدس. ([5])

يُضَاف إلى ذلك أن أمر تعدد الزوجات ليس من تشريع الأديان السماوية فحسب، بل هو أمر مستقر في سائر الحضارات، فالثابت تاريخيًّاً أن تعدد الزوجات ظاهرة عرفتها البشرية منذ أقدم العصور بل كانت هذه الظاهرة مُنْتَشِرة بين الفراعنة، وأشهر الفراعنة على الإطلاق وهو رمسيس الثاني كان له ثماني زوجات، وعشرات الجواري، وأنجب أكثر من مائة وخمسين ولداً وبنتاً وأسماء زوجاته وأولاده منقوش على جدران المعابد حتى اليوم.

وكان تعدد الزوجات شائعاً أيضاً في الشعوب ذات الأصل "السلافي"، وهى التي تُسمَّى الآن بالرُّوس والصِّرب والتشيك والسلوفاك، وتضُمُّ أيضاً معظم سكان ليتوانيا وأستونيا ومقدونيا ورومانيا وبلغاريا.

ولكن الإسلام قد قيَّد هذا التعدد بألاَّ يزيد على أربع، وجعله مشروطاً بالعدل بين الزوجات، ولم يأمر كل مسلم بالتعدد، ولكنه جعل التعدد مباح، فمن كانت له قدرة عليه ويستطيع الوفاء بحقِّه جاز له.

فالإسلام لم يُنشئ التعدد، وإنما حَدَّده، ولم يأمر بالتعدد على سبيل الوجوب، وإنما رخَّص فيه وقيَّدَه لمن كان في حاجة إليه وليس في تعدد الزوجات ما ذكر السائل من الْمَثَالب، بل إن له فائدة عظيمة في ظل ما يشهده العالم من الانحلال الأخلاقي كتعدد الصديقات والعشيقات الذي لا حلَّ لها سوى هذا التشريع الإلهي الحكيم.
والإسلام حين شرع التعدد لم يغفل عن ضرر قد يقع على الزوجة الأولى من جرَّاء هذا التعدد ولكنه وازن بين المصالح المترتبة على التعدد والمصلحة المستفادة من البقاء على زوجة واحدة فدفع أشد المفسدتين وجلب أعظم المصلحتين.
الحكمة من التعدُّد في نظر الإسْلام:
هناك فوائد عدة من أجلها شرع الله التعدد، منها: الفائدة الاجتماعية، ومنها: تحقيق مصالح الدين والمجتمع، والحفاظ على الأخلاق.
أمَّا الفائدة الاجتماعية فتظهر في حالتين لا يُنْكِر أحدٌ وقوعها:
1- عند زيادة النساء على الرجال، كما هو الشأن في كثير من البلدان.
2- عند قلَّة الرجال عن النساء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة أو الكوارث العامة.
وأمَّا تحقيق مصالح الدين والمجتمع والحفاظ على الأخلاق فتتحقق في صور منها:
1- أن تكون الزوجة عقيم لا تلد، والزوج يُحِبُّ إنجاب الأولاد والذرية ولا يوجد عنده مانع.
2- أن تُصَاب الزوجة بمرض مُزْمِنٍ أو مُعْدٍ أو مُنفِّر، بحيث لا يستطيع الزوج أن يعاشرها معاشرة الأزواج، فالزوج هنا بين حالتين: إما أن يُطلِّقَها، وإما أن يتزوج عليها ويبقيها في عصمته وتحت رعايته، ولا يشك أحد في أن الحالة الثانية أكرم وأنبل، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء.
3- أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الأسفار، ويتعذر عليه نقل زوجته وأولاده كلما سافر.
4- أن يكون عند الرجل من القُوَّة الجنسية ما لا يكتفي معها بزوجته، إمَّا لشيخوختها، أو لضعفها، أو لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها المعاشرة -وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها-.

لقد كان تعدد الزوجات -إذاً- معروفاً ومُنتَشِراً في سائر أنحاء العالم قبل أن يبعث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين.
وكان التعدد مطلقاً بلا أية حدود أو ضوابط أو قيود ولم يكن هناك كما يتضح من الأمثلة السابقة حد أقصى لعدد الزوجات أو الجواري.
ولم يكن هناك اشتراط على الزوج أن يعدل بين زوجاته، أو يقسم بينهن بالسوية -كما أمر بذلك الإسلام-.
فلما جاءت الشريعة الإسلامية قيَّدت التعدد بالقدرة فلا يجوز لمن لا يملك القدرة على النفقة ومُؤَنِ النِّكاح أن يُقْدم على هذا التعدد بل إن التعدد في حقه حرام ليس هذا فحسب بل أمرت الشريعة في حال التعدد بوجوب العدل بين الزوجات وإلا حرم التعدد أيضاً.


واعتمدت الفتوى على بعض المصادر وهي:
([1]) سفر التكوين 21/9
([2]) سفر التكوين 29/16: 32
([3]) أخبار الأيام الأول الإصحاح 2، 3، 4
([4]) راجع كتاب الأديان في كفة الميزان للدكتور محمد فؤاد الهاشمي ص 109 وكان نصرانياً وأسلم.
([5]) مكانة المرأة في الإسلام، محمد عطية الإبراشي، دار الشعب ص 65 نقلاً عن كتاب للمرحوم السيد أمير علي القاضي الهندي بعنوان The Spirit of Islam  ص 224

المهم هنا نود أن نؤكد أن مركز أبحاث دار الإفتاء قدم معلومات خاطئة مزج بين طائفة المارونية والتي تتبع الكاثوليك وبين جماعة المورمون التي تعد بدعة مسيحية وليس طائفة.
الطائفة المارونية لا تعرف تعدد الزوجات،بل انه متداول في مصر عبارة"هذا زواج كاثوليكي" أي أنه جواز لا طلاق فيه حتى ولو هناك علة الزنا وفي لبنان باعتبارها أكبر دولة في المنطقة بها طائفي مارونية يقولون هناك"هذا زواج مارونى" بنفس المعنى السابق.
ويؤمن البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بشريعة الزوجة الواحدة وعدم وجود تعدد في الزوجات،خاصة وأن الحقيقة الجديدة الخاصة بالزواج أثبتها الوحي في رواية الخلق التي أوردها الكتاب المقدس، وهي تعبير عن الحكمة البشرية الأصلية التي يستمع فيها إلى صوت الطبيعة ذاتها، وقد أراد الله أن يشرك الإنسان رجلاً وامرأة في عمله الخاص، عمل الخلق ولهذا باركهما بقوله لهما:"أنميا وأكثرا، وأملأ الأرض".
إن تكامل الجنسين، أي الرجل والمرأة، في قصد الله وخصبهما، إنما هما من طبيعة الزواج وجوهر المؤسسة الزواجية وعلاوة على ذلك إن اتحاد الرجل والمرأة رفعه المسيح إلى كرامة سر.

إن الكنيسة تعلم أن الزواج المسيحي هو علامة فاعلة لاتحاد المسيح بالكنيسة على ما يقول بولس الرسول. هذا المعنى المسيحي للزواج، لا ينتقص في شيء من القيمة الإنسانية العميقة للاتحاد الزواجي بين الرجل والمرأة بل يثبته ويقويه.
من ناحية أخرى المورمون عبارة عن مصطلح يطلق على أتباع كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة وهي كنيسة لها أكثر من 12 مليون عضو في العالم أسسها جوزيف سميث، تأسست هذه العقيدة الدينية في عام 1830 على يد جوزيف سميث المعروف عند أتباع الكنيسة بالنبي، من أعضاء يعدون على أصابع اليد انتشرت وتوسعت هذه الحركة الدينية حيث وصل عددهم إلى حوالي 5 مليون شخص في الولايات المتحدة بالإضافة إلى مليون آخر متفرقين في أنحاء مختلفة في العالم حسب إحصاءات عام 2000.

 قبل الحرب العالمية الثانية كان الدخول والإيمان بهذه العقيدة الدينية مقتصراً على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبعض الدول الإسكندنافية ولكن وفي السنوات الأخيرة انتشرت هذه العقيدة الدينية في دول العالم الثالث ففي المكسيك على سبيل المثال يوجد حوالي 850،000 عضو في كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة وقد اعتنق معظمهم العقيدة منذ بدايات 1975.

في كوريا الجنوبية لم يكن هناك عضو واحد منتمي لكنيسة المورمون في عام 1950 ولكن إحصاءات 2000 تشير إلى وجود 71،000 مؤمن بهذا الاتجاه الديني ويرجع هذا الانتشار إلى حملات وبرامج منظمة لنشر أفكار الكنيسة المورمونية.
يبيح المورمون تعدد الزوجات ويجيزون للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء لأن في ذلك إعادة لما شرعه الله، ولا يسمحون بذلك إلا لذوي الأخلاق العالية على أن يثبتوا قدرة على إعالة أكثر من أسرة. وقد مارس يوسف سميث هذا التعدد.
كما استمرت هذه العادة حتى عام 1890م، في حين أنهم تخلوا عن التعدد نتيجة للضغط الشديد الذي قوبلوا به من الطوائف الأخرى وكذلك بغية تمكنهم من الانضمام إلى السلطات الاتحادية، وعلى الرغم من التحريم الرسمي العلني إلا أنهم يمارسون التعدد سراً.

ومن ثم يظهر بوضوح كامل تدخل مركز الأبحاث بالدار في أمور مسيحية خاصة دون الإلمام بالشأن المسيحي،ونتيجة لمواقف مماثلة كانت تحدث في السابق يطالب البعض الكنيسة بالاعتذار، فهل ستضطر دار الإفتاء للاعتذار للكنيسة عن هذا الخطأ غير المقصود أم سيكون هناك عناد والتمسك بأفكار غير صحيحة ومعلومات مضللة؟!

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع