صـــــراع الإثنينية

بقلم: البابا شنودة الثالث

عندما خلق الله الإنسان‏,‏ خلقه بارا قديسا بسيطا‏,‏ لا يعرف سوي الخير فقط‏.‏ ولما سقط الإنسان في الخطيئة‏,‏ بدأ يعرف الشر إلي جوار الخير‏.‏ وفقد بساطته وبراءته‏,‏ وعرف أنه عريان‏,‏ واستحي من عريه وتغطي‏..‏ ومن ذلك الحين وقع الإنسان بين شقي الرحي‏,‏ أعني الخير والشر‏.‏ ودخل في صراع بينهما‏,‏ وبين الحلال والحرام‏,‏ وما يليق وما لا يليق‏.‏
عاش الإنسان في صراع الإثنينية‏.‏ أمامه الاثنان‏,‏ فأيهما يختار‏.‏ وأمامه النتيجتان‏:‏ البركة أم اللعنة‏,‏ المكافأة أم العقوبة‏,‏ الحياة أم الموت‏.‏
وأول صراع عاشه الإنسان‏,‏ هو الصراع بين الروح والجسد‏.‏ فالروح تشتهي ضد الجسد‏,‏ والجسد يشتهي ضد الروح‏.‏ والإنسان في حيرة‏.‏ إلي أي منهما ينقاد‏.‏ وكما قال أحد الأدباء الروحيين‏:‏ كنت أصارع نفسي وأجاهد‏,‏ حتي كأنني اثنان في واحد‏:‏ هذا يدفعني‏,‏ وذلك يمنعني‏..‏ إنه صراع داخلي‏.‏
إنه صراع سببه معرفة الخطية‏,‏ ثم محبة الخطية‏.‏ وقد يكون أحيانا صراعا بين الشهوة والضمير‏,‏ وهو صراع أثناء حياتنا في هذا العالم فقط‏,‏ الذي نوجد فيه بالجسد‏,‏ ونحاط بالمادة‏,‏ ونحارب بالخطية‏.‏ أما في العالم الآخر‏,‏ في الأبدية السعيدة‏,‏ فسوف نعود إلي بساطتنا الأولي‏,‏ ولا نعرف سوي الخير فقط‏.‏ وتنزع منا تماما معرفة الخطية‏.‏ ولا يوجد حينئذ صراع بين الروح والجسد‏.‏

أما علي الأرض فلا يزال صراع الإنسان قائما مع الإثنينية‏.‏ إنه صراع مع نفسه‏,‏ حتي يصل إلي ضبط النفس‏..‏ صراع مع رغباته‏,‏ ومع أفكاره‏,‏ ومع حواسه‏.‏ وينتهي الصراع حينما يصير الإنسان واحدا‏,‏ وليس جبهات داخلية تقاوم إحداها الأخري‏.‏ كما قال أحد الأدباء‏:‏ إذ اصطلح العقل والجسد والروح فيك‏,‏ حينئذ تصطلح معك السماء والأرض ولكن الصراع الداخلي هو مرحلة للمبتدئين‏,‏ أو للذين لم يتحرروا بعد من الداخل‏.‏ فإن تحرروا يكون منهجهم هو النمو في النعمة‏,‏ وليس الصراع بين الخير والشر‏.‏
فإذا كان الإنسان لم يتحرر من شهوات العالم والجسد‏,‏ فلابد أن يقع في الخوف‏:‏ إنه يشتهي‏,‏ ويخاف أن شهوته لا تتحقق‏.‏ فإن تحققت يخاف أنها لا تستمر‏.‏ وإن استمرت‏,‏ يخاف من نتائجها‏.‏ وفي حالة الخطية‏,‏ يخاف أن تنكشف‏,‏ ويخاف من العقوبة ومن الفضيحة‏,‏ ويخاف‏,‏ من غضب الله عليه‏.‏ وقد يخاف من كيفية الاعتراف بخطئه‏.‏ وإن ترك الخطية‏,‏ قد يخاف من إمكانية العودة إليها‏.‏ إن حالة الإثنينية ترتبط دائما بالخوف كما ترتبط بالشهوة‏.‏ وهكذا قال القديس أوغسطينوس عبارته المشهورة‏:‏ جلست علي قمة العالم‏,‏ حينما أحسست في نفسي‏:‏ أنني لا أشتهي شيئا‏,‏ ولا أخاف شيئا‏.‏

الخوف مرتبط إذن بالشهوة والخطية‏.‏ ونقصد هذا المعني للخوف‏,‏ وليس الخوف الطفولي من الظلام أو الأرواح‏.‏ فالانسان الروحي لا يخاف أبدا‏.‏ إنه يشعر بوجود الله معه‏,‏ يحميه ويقويه ويخلصه‏...‏ الإثنينية إذن تقود إلي الصراع وإلي الخوف وإلي أخطاء أخري كثيرة‏,‏ الإثنينية تقود إلي الرياء‏.‏ حيث يصبح الشخص اثنين‏:‏ أمام نفسه شيئا وأمام الناس شيئا آخر‏...‏ فأمام الناس يلبس ملابس الأبرار والقديسيين‏.‏ وهو أمام نفسه عكس ذلك تماما‏.‏ حينما يكون وحده قد يسلك بإهمال أو بخطأ أو بما لا يليق‏.‏ وأمام الناس ربما يحرص علي أن يكون مدققا في تصرفاته‏.‏
وبالإثنينية يكون إنسانه الداخلي غير إنسانه الخارجي‏.‏ ربما تكون كل أفكاره ومشاعره ونيته غير ما يظهر للناس‏.‏ وبسلوكه أمامهم‏,‏ محال أن يظنوا أن له أفكارا خاطئة‏.‏ حقا لو كشف الله كل الأفكار والمشاعر‏,‏ كم يكون خجل أصحابها‏,‏ ودهشة الناس‏!!‏ وبالإثنينية قد يكون قلب الإنسان غير لسانه‏.‏ فهو يقول ما يعجب سامعه‏,‏ وقد يكون قلبه غير ذلك أو عكس ذلك‏!‏ وقد يصلي بشفتيه بينما يكون قلبه مبتعدا عن الله تماما‏.‏

إنسان آخر تندرج به الإثنينية إلي التملق أو النفاق‏.‏ فقد يكون في قلبه كارها لرئيسه‏,‏ حاقدا عليه‏.‏ ومع ذلك يكلمه بكلام المديح والملق‏...‏ وفي هذا يكون ذلك الشخص قد صار اثنين‏:‏ الإنسان الداخلي فيه يختلف عن الخارجي‏,‏ بل يتناقض معه إلي أقصي حد‏.‏ فمتي يصير الإنسان واحدا‏,‏ قلبه واحد مع لسانه‏.‏ وبمثل إنسان في المواضع المقدسة‏,‏ أو في عبادته أو في خدمته‏,‏ يكون بمنتهي الرقة واللطف والأدب‏.‏ أما في بيته أو في العمل فيكون بمنتهي الشدة والعنف والقسوة‏.‏ إنه إنسانان مختلفان‏.‏ كذلك في معاملاته لا يجوز أن يكون اثنين‏,‏ أو بوجهين‏,‏ أو يلعب علي حبلين‏!‏ كأن يعامل شخصا برقة وبإخلاص وباحترام‏...‏ ومن خلفه يدبر له مكيدة‏,‏ أو يتكلم عليه بالسوء‏.‏ أو يكون معه بكل القلب أو يبدو كذلك‏,‏ فإذا انقلب الجو انقلب معه‏.‏ وكما يقول المثل العامي‏:‏ معاهم معاهم‏,‏ عليهم عليهم‏.‏
والذي يعيش بالإثنينية‏,‏ لا يكون له ثبات‏.‏ فهو غالبا يكون كثير التغير‏,‏ وأحيانا كثير التردد‏.‏ وقد يتحول من حال إلي حال‏.‏ وقد تتصارع أفكاره‏.‏ أو تتصارع أذنه مع عقله‏.‏ ولا يعرف هل يصدق أذنيه ويتبعهما‏,‏ أم يصدق قلبه واقتناعه الداخلي‏.‏
الإثنينية قد تقود إلي انقسام الشخصية‏.‏ وإذا استمرت ربما تقود إلي ازدواج الشخصية‏,‏ وصاحبها قد يري في أحد الأيام بصورة‏,‏ وفي يوم آخر بصورة مغايرة‏.‏ وتقول أنت عنه في نفسك‏:‏ ليس هذا هو الشخص الذي عرفته بالأمس‏.‏ إنه شخص آخر تماما‏!!‏ والإثنينية قد تقود إلي التحايل‏.‏ إذ يريد الشخص غرضا سليما‏,‏ وفي سبيل تحقيقه يلجأ إلي وسيلة خاطئة‏.‏ وهنا يجتمع فيه الخير والشر بعمل واحد‏.‏ والوسيلة الخاطئة تشوه الخير الذي يريده‏.‏ ولكنه التحايل في الوصول‏.‏
في اليوم الأخير‏.‏ حينما يكشف الله الخفيات‏,‏ تري أين يخبيء الناس وجوههم؟‏.‏

نقلا عن الاهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع