بابل القديمة بين الأسطورة والحقيقة

هشام منور

بقلم: هشام منور
تعدّ مدينة بابل القديمة في بلاد ما بين النهرين (العراق) واحدة من أهم كنوز البشرية من حيث مكانتها التاريخية وما تحتويه من تحف وآثار جعلت منها محور الكثير من الأساطير التي جعلت منها أحياناً مركزاً للمعاصي والفجور ومحطاً لعقوبة إلهية حلت بها، أو مركزاً للعلم وموئلاً للعلماء في عصرها ولفترة طويلة من الزمن. إلا أن القيمة الحقيقية لبابل القديمة حالياً لا تزال تكمن فيما خلفته للبشرية من آثار ومنحوتات شاهدة على تاريخ غابر ومتحضر، على الرغم مما يشهده عراق اليوم من أزمات وإشكالات.

فقد أقامت هيئة المتاحف الحكومية في ألمانيا مؤخراً معرضًا شاملاً عن بابل القديمة تتضمن عرضاً لأهم تحفها وتحليلاً لأهم الأساطير المتشكلة حول مكانتها وقيمتها التاريخية. وقد عرضت في المعرض أكثر من ثمانمائة قطعة أثرية مستعارة من المتاحف الحكومية في برلين، ومتحف اللوفر ومجمع المتاحف الوطنية في باريس، والمتحف البريطاني. وتنوعت المعروضات بين تماثيل ومنحوتات وقطع معمارية ووثائق كتابية.

وقد حاول المعرض تذكير زواره بقصة السبي البابلي المترسخة في المخيال الجمعي الأوروبي، إذ يسير زوّار المتحف في زحمة شديدة عابرين شارع الطقوس، الذي تعلو جانبيه جدران مُبلَّطة ببلاط أزرق. ويتَّجهون نحو بوابة مدينة بابل التي شُيِّدت قبل ألفي وستمائة. وقد قام علماء آثار ألمان في بداية القرن الماضي بإحضار بقايا هذه البوَّابة إلى برلين. ومنذ عام 1930 تعدّ بوابة عشتار المرمَّمة أروع ما في قسم الشرق الأدنى في متحف (بيرغامون) في برلين.
 ويرى القائمون على هذا المعرض أن الغاية من إقامته نزع الصورة النمطية التي حاول من خلالها النظام العراقي البائد رسمها حول بابل القديمة والتي ربط بها شرعية نظامه، ومحاولة تحسين صورتها السائدة لدى مخيال المواطن الغربي وكيف أنها كانت مرتعاً للفسق والمجون والفجور ورمزاً لها. فمن خلال حوالي تسعمائة قطعة أثرية، يحاول المعرض تقديم معلومات عن الحياة اليومية في حضارة متطوِّرة جدًا. وتنقل الكتابات المسمارية والزينة والحلي واللّقى المكتشفة في المدافن والوثائق والمجسَّمات المعمارية صورة مجتمع استطاع تحقيق الكثير من الإنجازات الفلسفية والتقنية والجمالية. والتذكير بأنَّ حضارة ما بين النهرين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتكوّن العلوم مثل علم الفلك والرياضيات.

ويحاول المعرض أحياناً تبيين أثر الإرث العلمي البابلي في الشرق القديم في كلّ من تاريخ الثقافة اليونانية واليهودية والإسلامية. وقد عرضت بعض هذه المكتشفات في معرضين في باريس ولندن، ثم نقلت إلى برلين، وتمّ تخصيص جناح واسع يُعنى بموضوع نشأة أسطورة "بابل الزانية" وإشاعتها. وفي هذا السياق تبيِّن بعض أعمال الفنانين المعاصرين وبعض الأعمال الشعبية أنَّ صورة بابل ما تزال سلبية إلى يومنا هذا. وقد حاول منظم المعرض، موريتس فولّن شرح سبب انتشار هذه الصورة المشوَّهة عن بابل وشيوعها أكثر من ذكر مجتمع بابل العلمي القديم.
وقد ردّ كثير من الباحثين سرّ انتشار هذه الأسطورة إلى أثَّر الكتاب المقدَّس في تكوين هذه الصورة السائدة عن مجتمع بابل الفاسد والذي حُكم عليه بالهلاك. إذ اعتبرت وجهة النظر المسيحية الإنجازات البابلية في مجال فن البناء والتعايش الذي كان سلميًا بين أفراد الشعب البابلي متعدِّدي الأعراق، استكبارًا من قبل أهالي بابل ووصفتها بالفشل. وهو يدعونا إلى إعادة التفكير والنظر في حقيقة هذه الأسطورة، لاسيما وأنَّ الكثير مما حقَّقه البابليون طيلة قرون من الزمن، تعتبره المجتمعات المعاصرة بمثابة المُثل العليا التي ترنو إليها.

وأكَّد منظِّمو المعرض في برلين أنَّ العراقيين يجب أن يفتخروا في العراق المعاصر بهذا الإرث الأثري والفكري، فالعراق بلد له إرث حضاري كبير. إلا أن آخر التقارير الواردة من العراق إبان الغزو الأمريكي له عام 2003 أنَّ هذا الإرث يجب أن تتم حمايته من الإهمال والسرقة والاندثار. إذ أقام الأمريكيون عام 2003 وسط مواقع الحفريات والتنقيب عن الآثار في بابل معسكرًا مؤقتًا لقواتهم. ونتيجة لذلك أصيب الموقع بأضرار بالغة. وتكمن المفارقة في تبرير الجيش الأمريكي لإقامة معسكرهم وسط الآثار البابلية، فقد زعم الأمريكيون أنَّ قواتهم تمركزت هناك في الأصل من أجل حماية مواقع الحفريات من اعتداءات الغرباء واللصوص، متجاهلين حقيقة ما لوجود عدد كبير من القوات العسكرية في موقع أثري من أضرار جسيمة تلحق باللقى والمكتشفات والآثار العراقية التي باتت نهباً لمحترفي سرقة الآثار على الرغم من الادعاء الأمريكي العجيب.
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع