أحد ضحايا صدام وحرب تصفية الحسابات

يحيى غازي الأميري

بقلم - يحيى غازي الأميري
بغداد: شيرزاد شيخاني

هنا في هذا المكان كان نصب الجندي المجهول يشمخ عاليا حتى منتصف الثمانينات قبل ان يزيحه صدام حسين ويقيم على أنقاضه احد اكبر تماثيله الموزعة في جميع أرجاء العراق) 1
 كتبت هذا المقال تلبية لطلب أحد أصدقائي الأعزاء حول مشاركته بالرأي حول موضوع نصب الجندي المجهول القديم، لمصممه الأستاذ المعماري القدير الفنان "رفعت كامل الجادرجي"2
حفز الموضوع الذاكرة لاسترجاع الصورة التي كانت قد خزنت في إحدى زوايا تجاويف رأسي، حول هذا الموضوع فراحت تنهال آلاف الصور والأحداث، فالعراق بلد الأحداث المرعبة الكثيرة، وعشت زمناً طويلاً في وسطها، فبقيت ساعات طوال أسترجع في ذلك الشريط المسجل، توقفت أمام صورة كثيرة ومواقف ترتبط بهذا الحدث تهديم وتخريب وقتل وإعدام الرموز والشواهد والمعالم التاريخية، وبعدها ذهبت إلى المعين الكبير شبكة الإنترنت وأدرت المحرك (جوجل) أستنجد به، عن محفزات تعيد المزيد للذاكرة من مواقف وصور، فوجدت الموضوع شيقاً رغم مرارته، فرحت أطوف العالم، في جوجل طبعاًَ مع نصب الجندي المجهول أو قبر الجندي المجهول أو ضريح الجندي المجهول، فكانت جولة طويلة شملت عدة نصب معمارية رائعة التصميم والهندسة قد ُشّيدت للجندي المجهول في تلك الدول ومنها، قبر الجندي المجهول في موسكو، إيطاليا ،فينا، باريس ،بولونيا، سوريا، فلسطين، مصر، وتطول القائمة، في مصر يوجد للجندي المجهول نصبان أحدهما في القاهرة والأخر في الإسكندرية.
 وخلال جولتي قرأت وشاهدت عشرات المقالات والصور وكيف تهتم تلك الدول بمعظم نصبها ورموزها المعمارية، لقد  أضاف لي الموضوع معلومات نافعة جديدة ممتعة، ومؤلمة بنفس الوقت.
أحضر بشكل مستمر أغلب الندوات الثقافية والسياسية التي تقيمها الجمعية الثقافية العراقية في مالمو، لما فيها من فوائد كثيرة ومتعة، ذات مرة كنت ضمن الحضور لندوة ثقافية سياسية، محور الندوة يتحدث عن تاريخ الصحافة العراقية، كانت محاضرة رائعة بغزارة معلوماتها وشيقة بطريقة إلقائها، وقد وصل الحديث عن دور الصحافة في محاربة  ومهاجمة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم (1914 ت - 1963) خلال فترة حكمه، قصدي وهو على رأس السلطة، وعندما سمح للحضور بالمداخلات والملاحظات، وأثناء محاضرته كانت قد تشكلت في رأسي صورة لكتابين صغيرين في الحجم والقطع، كنت قد قرأتهما في منتصف التسعينات من القرن المنصرم، قد أعارهما لي مشكورا صديق يعمل في إحدى مكتبات شارع المتنبي، وهما عبارة عن مجموعة من المقالات كانت قد نشرت في الجرائد الصادرة في تلك الفترة، ومنها جريدة الحرية  كما ورد في أحد تلك الكتب والكتابان، الأول أسمه (من يوميات قومي متآمر) والثاني (الإعصار الأحمر) من تأليف الدكتور شاكر مصطفى سليم، وكان آنذاك عند كتابتهما يحمل شهادة دكتوراة في الانثروبولوجيا من لندن، وكتاباته ودراساته مشهورة ومعروفة عن أهوار العراق وأحوال أهلها.
المهم قدمت مداخلتي في تلك الأمسية الثقافية، موضحاً أنه في تلك الفترة كانت الكثير من الصحف تشتم وتهاجم الصابئة بشكل علني، وليس الزعيم عبد الكريم قاسم، ومن المقالات على سبيل المثال من التي تمكنت الإطلاع عليها كتابين، تم طبعهما ونشرهما  في الأسواق في تلك الفترة، إذ كانت قد نشرت محتوياتهما في أول الأمر على شكل مقالات صحفية يومية، وصدرت بعدها في كتابين، ولو أن معظم الهجوم كان ينصب على علم عراقي صابئي مندائي بارز، وهو الدكتور "عبد الجبار عبد الله" (1911ت- 1969م) لكونه كان رئيس لجامعة بغداد وشملت شتائم ولعنات الأستاذ  الدكتور "شاكر مصطفى سليم" كل أفراد عائلة الدكتور المرحوم "عبد الجبار عبد الله" محاولاًَ تحريض الشارع القومي "العروبي والبعثي"، والحركات الرجعية المتحالفة معها من الذين تضررت مصالحهم من ثورة 14 تموز 1958، ضد الدكتور العالم الفذ "عبد الجبار عبد الله" بإتهامه بالشيوعية وترويج أفكارها وإدخال عناصرها بالعمل في الجامعة والمؤسسات العلمية حتى وصل إمتداد  تلك الشتائم والتهجم والتشهير والتحريض إلى أهله ومعارفه وأقاربه وديانته واذكر منهم الأستاذ المفكر والأديب الراحل "نعيم بدوي" (1911ت- 2002م ) وغيره من الذوات الذين ورد ذكرهم في كتاباته، وطالتهم شتائمه وتهجماته التحريضية، حتى من استعان بهم المرحوم د. عبد الجبار الدكتور من الأساتذة الأفذاذ، ومنهم الدكتور الأديب العالم اللغوي مهدي المخزومي (1910 ت- 1993م )، وهو الذي عهدت إليه عمادة كلية الآداب والعلوم في جامعة بغداد، وبالتأكيد كان لهذه الكتابات التحريضية وغيرها التأثير الكبير في إسقاط ثورة 14 تموز 1958 في إنقلاب 8 شباط الأسود 1963، والهجوم الكبير الدامي الذي حدث بعدها على اليسار العراقي والقوة الوطنية التقدمية ورموزها بل أصاب الخراب والدمار العراق وعموم شعبه، وقد أصاب أبناء الصابئة المندائيين على أيادي الانقلابين ومن تبعهم ولف لفهم من قتل وسجون واعتقالات مغرضة وبطش وتنكيل جائر الشيء المهول، إذ كان لتلك الكتابات التحريضية السافرة وغيرها التأثير السلبي على الصابئة!فأجابني الأستاذ المحاضر بعبارة تدل على الفطنة والذكاء وسعة الإطلاع، رسخت كلماته برأسي قال "طبيعي يهاجم الدكتور (عبد الجبار عبد الله) لكونه يعد أحد الرموز المهمة في حكومة (عبد الكريم قاسم)".
لقد سقت هذه المقدمة وما سوف يليها أدناه من ذكر حوادث التاريخ لتبين أن محاربة الرموز وإعدامها "تهديمها " وتبديلها وإستحداث غيرها موجودة في معظم حقب التاريخ في مختلف أنحاء العالم القديم والحديث، ولكنها تتخذ أشكال متعددة من الطرق والوسائل المختلفة في التنفيذ، فمثال لذلك العملة النقدية "المسكوكة " قديماً هي رمز لتك الدولة فيكتب على وجهيها الشعارات واسم الخليفة أو الملك أو السلطان وتاريخ السك ومدينة الضرب، وسوف نأخذ أحد الأمثلة على ذلك "الدولة العباسية" كان الخليفة "أمير المؤمنين"  في الدولة العباسية عند أول إعتلائه للخلافة يبدأ بجمع العملة الذهبية والفضية المضروبة بأسماء الخلفاء الذين سبقوه، ويدخلها إلى دار السك من جديد ليصهرها ويضرب إسمه وصفاته وما يريد كتابته على العملة الجديدة وبالتالي يبدأ بإزالة أول واهم معالم الشهرة للذين سبقوه ليبقى هو الاسم الأكثر تداولاً.
تهديم القديم وتشيد القصور والقلاع واستحداث المدن وابراز الرموز والشعارات والكتب الجديدة هي أمثلة كثيرة لصور أخرى لقادة بلدان، أو حركات فكرية، أو سياسية، أو دينية، مورست عند إستلامها السلطة وتمتعها بالجاه والسطوة والنفوذ.
وقد مر العراق على مدى العصور بتدمير كثير لعديد من المعالم والرموز والصروح، حتى الرموز والأضرحة والمعابد الدينية لم تسلم من ذلك، وخير مثال لذلك من يطلع على ما أصاب الأماكن والمراقد والرموز الدينية خلال الفترة التي سيطرت فيها الدولة البويهية "بني بويه" والتي دامت ما يزيد على المائة عام، وما نال أماكن ورموز المسلمين السنة خلالها، وكذلك ما أصاب الرموز والصروح للمسلمين الشيعة خلال فترة حكم الدولة السلجوقية "السلاجقة"، "بني سلجوق" والتي إستمرت أكثر من مائة عام أيضاً، ومن المعلوم أن الدولة السلجوقية هي التي أسقطت الدولة البويهية وكذلك ما قام به الخليفة العباسي "المتوكل على الله"3  الذي إذ أمر بإزالة ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) كما تشير إلى ذلك كتب التاريخ وورد في موسوعة ويكيبيديا، في صفحة الخليفة العباسي أبو الفضل جعفر المتوكل، أستل منها النص التالي كما ورد في المصدر: فقد (أمر بهدم قبر "الحسين بن علي" بكربلاء سنة (237هـ = 851م)، وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وحوَّل مكانه إلى حديقة كبيرة، ومنع الناس من زيارته، وتوعَّد من يخالفه بالسجن )4 لكونها تضم رفات رموز تحبها وتزورها وتقتدي بنهجها كثير من الناس فناصبها الخليفة الحقد والعداء!
لقد أحب أغلب الشعب العراقي الزعيم المرحوم عبد الكريم قاسم، وكان لمشهد مقتله الدرامي الذي عرض في التلفزيون في 9 شباط 1963 التأثير الكبير في زيادة حب الناس وتعاطفها معه، وبدأت تلك الصورة المحزنة لمشهد قتل الزعيم تتناقلها الناس، في أحاديثها اليومية، كان المشاهد المؤلمة المحزنة، وهي تصور مقتل زعيم أحبته جماهير واسعة من أبناء الشعب العراقي، مشهد لم يبرح الذاكرة، قتل الزعيم عبد الكريم قاسم في محكمة صورية قوامها عدد من الجلادين إستغرقت دقائق، وصورة الدم الذي يغطي وجهه ويقف أحد جلادي البعث بجانبه، وهو يرفع رأسه بسحبه من شعر رأسه، وفي يوم  من أحد أيام شهر "رمضان" وهو صائم، مات بهذا الشكل المحزن، مفجر ثورة 14 تموز، نصير الفقراء ومحرر الفلاحين ومصدر قانون رقم 80 وقانون الأحوال المدنية، مات الأمين الذي لم يختلس أو يسرق شيء من العراق!
وما أصاب البلد من بعدة من دمار وخراب، حيث إكتظت السجون والمعتقلات بأبناء الشعب الأبرياء وسالت أنهار من دماء آلاف من الضحايا الأبرياء، وتشردت وترملت وتيتمت وسبيت آلاف وآلاف العوائل، زاد حب وتعلق الكثير بعبد الكريم قاسم والرموز التي تركها، هذا المشهد مرتبط بمشهد محاولة إغتياله عام 1959 ومن حاول إغتياله! 
لو عدنا إلى بداية العداء الذي يكنه صدام حسين للزعيم عبد الكريم قاسم، كان حادث مشاركة صدام حسين في إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959 بتوجيه وتخطيط من حزب البعث، فقد بقيت صورة صدام حسين غير محبوبة من الشعب العراقي، عاد البعث ثانية عام 1968، وبدأ معها صدام يبسط هيمنته ويمد نفوذه للسيطرة بشكل تدريجي على كافة السلطات بمختلف الأساليب الفاشية  إلى أن إستلمها بصورة مطلقة.
لم يكن تهديم بناية الجندي المجهول هي المحاولة الأولى ولا الأخيرة في فترة حكم حزب البعث المتتالي، وعراب تنفيذ مخططاته الفاشية صدام حسين، فقد جرت محاولات مستمرة في طمس صورة الزعيم عبد الكريم قاسم، ومنجزات ورموز ثورة 14 تموز 1958، وإبدالها بأشياء تمجد شعارات البعث وأجندته أو بشخص صدام حسين بعد أن إستحوذ على كل شيء، مسلسل طويل، غير العلم العراقي وشعار الدولة، ألغى النشيد الوطني والسلام الجمهوري وأبدلوها بغيرها، غيروا كل الأسماء والكتب والمناهج التي تتحدث عن "عبد الكريم قاسم" والرموز التقدمية الأخرى، وحاول جاهداً صدام حسين إلصاق العديد من الصفات غير الصحيحة بالزعيم ونعته بنعوت كثيرة غير صحيحة وكاذبة، بقى طول فترة حكمه التأكيد المستمر على بث تلك السموم، بماكينته الإعلامية الضخمة، من اجل زعزعة الصورة المحبوبة التي رسمها الشعب في مخيلته له، وقد حاول جاهداًَ ًأن يقلد نفس أسلوب الزعيم "عبد الكريم قاسم" أن يكون خطيباًَ ومتحدثاًَ وزائراًَ ومتفقداًَ وراعياًَ للشعب، وأكثر من حضوره في المؤتمرات والمهرجانات والندوات واللقاءات الرسمية والجماهيرية، كما كان يفعل الزعيم "عبد الكريم قاسم" وزاد عليها صدام هو في ترأسه للقاءات والإجتماعات الحزبية والأمنية وعطاياه، ومنحه السخية لمن أيده ووالاه، أبدل إسم مدينة "الثورة" بإسمه، أدخل صوره الشخصية وتصريحاته "أقواله" في معظم الكتب والمناهج الدراسية والصحف والمجلات الصادرة في عموم الوطن، لبس الملابس العسكرية وأعطى نفسه أعلى الرتب العسكرية، واصبح القائد العام ورئيس الجمهورية وحتى رئيس الوزراء، كان أكثر ما أراد أن يقلد به "عبد الكريم قاسم" هو ملابسه العسكرية!
                                  
اخطوة بعد خطوة ألغى وأبدل رسومات العملة العراقية، وحطم قيمتها وأذلها وأذل شعبها معها، بعد أن كانت من أقوى العملات النقدية بقيمتها مقابل الذهب والعملات الأجنبية في المنطقة والعالم، فبعد أن كان الدينار الواحد يعادل ثلاث دولارات، أوصله إلى الدرك الأسفل حيث أوصله إلى أن تبدل كل 3000 دينار بما يعادل دولار واحد، وتساوي قيمتها الشرائية في السوق طبق بيض واحد، فيما كان راتب الموظف العراقي كله أيضاًَ 3000 دينار أي دولار واحد في الشهر، لقد غيرها وأصدر بدل عنها عملة لا قيمة نقدية لها، ممزوجة بعملة مزيفة ألصق على أغلبها صوره الشخصية. 
يتذكر العراقيون الأهزوجة أو "الهوسة" الشعبية العراقية المشهورة بداية حكم الزعيم "عبد الكريم قاسم" عاش الزعيم الذي زود العانة فلس"5  لم يبق أي قيمة شرائية تستعمل فيها العملة المعدنية الفلس والخمسة والعشرة فلوس وبقية العملات النقدية المعدنية، والتي تحمل شعار الجمهورية العراقية القديم، لقد كانت عملة 20 فلساًَ، والدرهم أي 50 فلساًَ، وأبو المية أي فئة مائة فلس مصنوعة من أحد المعادن الثمينة "الفضة "بنسبة 50% فحولها إلى معدن رخيص من أنواع "الستيل"!
بعد تأميم النفط، وإرتفاع أسعار النفط عالمياً، إرتفعت ميزانية البلد بشكل كبير جداًَ ومفاجئ، لقد أهدرت خزينة العراق الضخمة جداً، لشراء السلاح والحروب والسرقات والنهب، وبناء القصور الخاصة به وتوزيع الهبات على مواليه، لقد أهدرت مئات المليارات من الدولارات صرفت لشراء الأسلحة الحربية المختلفة والعدد والمعدات العسكرية والمصانع المتعلقة بالإنتاج الحربي، لتفتح باب الحروب على البلد على مصراعيها، لتلتهم بنيرانها الأرواح والمال والسلاح، مخلفة الموت والخراب والدمار والفقر والتخلف، لقد كانت فرصة سانحة كبيرة بيد صدام حسين وحزبه لو إستغلت لخدمة الشعب والبلد لكان العراق الآن في مصاف الدول المتقدمة المترفة التي تنعم بالرفاهية والتقدم!
إستغل قسم من تلك الثروة الهائلة بتغير العديد من معالم مدينة بغداد على مزاجه ورغباته، فحدث في بغداد وقسم من المحافظات التي تخصه وخصوصاًًَ في فترة نهاية السبعينات والثمانينات رغم دخول العراق في حرب طويلة ضروس مع الجارة إيران حدث جوانب "مناطق"، وترك أخرى ترزح تحت الفقر والإهمال المتعمد، ومثال ذلك محافظة بغداد وهي موضوع حديثنا فقد شيد القصور الفخمة والعمارات الحديثة، وشق الشوارع الفارهة، وعوض أهاليها "مالكيها"  تعويضات مجزية كبيرة وخصوصاً المناطق التي ساندت حكومة البعث الأولى والثانية، والتي عاش هو وأقاربه فيها، فيما كان الإهمال المتعمد حصة المدن التي خرجت لنصرة الزعيم والتي لم تساند البعث والتي ضمت القوى اليسارية والشغيلة "العمال والفلاحين" والفقراء والمظلومين وأغلب سكانها من النازحين من مناطق الجنوب العراقي والفرات الأوسط .
لقد دُمر الكثير من الأبنية التراثية المعمارية القديمة والحديثة، والعديد من المواقع الأثرية، خلال فترة حكم البعث وخصوصاً فترة البعث الثانية، وأكثرها فترة حكم صدام حسين، كان للحروب دوراً كبير في التدمير وفي هذا الخراب والتهديم والنهب، لقد طالت الحروب التدميرية التي شنتها القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبموافقة الأمم المتحدة عشرات الأبنية العمرانية البارزة القديمة والحديثة والجسور والمواقع الأثرية، إبتداءاًَ من حرب الخليج الثانية عام 1991، حتى حربها الأخيرة عام 2003 ، التي أسقطت فيه النظام الغاشم!  لتكمل ما أصاب البلد من تدمير وخراب في  حرب الخليج الأولى "قادسية صدام".
وبعد سقوط النظام الغاشم في 9  نيسان 2009 ساد البلد فلتان أمني كبير، وفوضى عارمة، وبرزت نزعة النهب والسلب والسرقات والتخريب وتصفية الحسابات والإنتقام، ونالت النصب والمباني والمنشآت، ودور العبادة والمراقد الدينية والآثار، حصتها من هذه الفوضى المدمرة وجميعها تعد رموز ومعالم ثقافية ودينية وتاريخية
ففي مقابلة صحفية مع وزير الثقافة، الأستاذ مفيد الجزائري، في جريدة الحياة،  بعنوان "حرب التماثيل تمنع عودة أبي جعفر المنصور وصراع سياسي لإزالة قوس النصر" بتاريخ 21/5/ 2007 والتي نشرت في جريدة الحياة وشبكة الزوراء الإعلامية، ومرافئ الموقع الخاص بالمجلس العراقي  للسلم والتضامن، وغيرها، بقلم ستار عمر، يقول وزير الثقافة العراقي الأسبق مفيد الجزائري «هناك صعوبات أمنية وفنية كبيرة تعيق إعادة بناء تمثال أبو جعفر المنصور، وغيره من التماثيل التي هدمت، كما توجد صعوبات أكبر في المحافظة على ما تبقى من آثار ونصب أخرى»، معتبراً ما حدث لآثار بغداد وأماكنها التراثية «خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها ابداً».
 وفي نفس المقالة يقول النحات العراقي كريم موسى لـ «الحياة» أن «التماثيل التي سرقت أو تحطمت في العاصمة كثيرة جداً ولأسباب عدة أهمها: السرقة للحصول على مادة البرونز التي تتكون منها، إضافة إلى بعض الإنفعالات الشعبية التي تقف وراءها تفسيرات تاريخية»، ويضيف: أن ما فقده العراق من تماثيل وآثار لا تقدر بثمن، منها أعمال خالد الرحال وإسماعيل الترك وجواد سليم، وبغداد ستفقد معالمها المميزة إذا إستمرت أعمال العنف التي تستهدف التماثيل.
ويؤكد كاتب المقالة في نهاية هذا اللقاء على أن الفوضى بدأت مع دخول القوات الأمريكية للعراق فكتب يقول: «وكانت القوات الأمريكية هي التي بدأت هذه الحماقة، عندما حطمت دباباتها البـوابة التاريخية ذات الطراز الآشوري للمتحف العراقي عام 2003».
حتى وزارة الدفاع، لم تسلم بناياتها من التحديث والتغير والتهديم، خلال فترة حكم البعث الثانية أعلن في مختلف وسائل الأعلام عن العديد من المسابقات لتنفيذ النصب الفنية الكبيرة، والمشيدات الضخمة الحديثة الطراز والموديلات، وقد شاركت أعداد كبيرة من فناني ومعماري العراق من المتواجدين آنذاك في تلك المسابقات، وكذلك فنانون ومصممون وإستشاريون ومهندسون معماريون وشركات من مختلف أنحاء العالم، وقد أجزى لهم العطايا والمنح والإمتيازات، وكان لنصب الجندي المجهول للفنان المرحوم "خالد الرحال" في ساحة الإحتفالات المجاور لنصب "قوس النصر" العملاق، البذخ الطائل من ملايين الدولارات وحضي كذلك تنفذها برعاية كبيرة، وتمت أغلب مرحل تنفيذها تحت توجيه مباشر من صدام حسين، وكذلك حصل على نصيب كبير من البذخ والرعاية "نصب الشهيد" الضخم المشيد على مساحة واسعة في جانب الرصافة من بغداد، النصب المتميز بقبته المشطورة، للفنان المرحوم إسماعيل فتاح الترك.
   وبعد إكتمال النصب الحديث للجندي المجهول جاء اليوم الذي أقتلع فيه نصب الجندي المجهول القديم، بعد أن طوقه، أحاطه ببنايات عملاقة حديثة، فندقى المريديان والشيراتون!
هذا النصب الذي إرتبط إرتباط وثيق بالذاكرة العراقية، فقد طبع على كروت التهاني "المعايدات" كما تسمى في اللغة الشعبية العراقية، وبعض الكتب المدرسية الرسمية والذي إرتبط  بتضحيات الجندي العراقي الباسل في ساحات الدفاع عن أرض الوطن وبعبد الكريم قاسم إذ كان قد شيد في زمنه.
أن إقتلاع وإعدام نصب الجندي المجهول القديم، هو لغرض إزالته من الأذهان بإبعاده عن المسرح، وعدم ترك أي صورة وأي أثر كبير بارز تركه الزعيم الراحل "عبد الكريم قاسم" يمكن أن يذكر به، خصوصاًَ وهو مكان زارته ويزوره الرؤساء والملوك والسلاطين والوفود والمنظمات الجماهيرية والسياسية في المناسبات الرسمية وغير الرسمية، لذا كان تخطيط مسبق ومدروس إعدام هذا النصب، وتشيد نصب عملاق أخر حديث، يلبي فيه رغباته الشوفينية والتسلطية والقمعية.
لقد قرأت العديد من المقالات التي تخص موضوع إعادة بناء الجندي المجهول القديم، وقد أعدت عدة مرات  قراءة تصريحات المهندس المعماري العراقي "حميد عبد" الذي يقيم في بريطانيا،  لـ"نيوزماتيك" والمنشور في العديد من الصحف العراقية والمواقع الصحفية الإلكترونية العراقية والمتضمن إن "رئاسة الوزراء كلفت المهندس المعماري "رفعت الجادرجي" بإعادة تنفيذ نصب الجندي المجهول القديم، الذي نفذه الفنان الجادرجي عام 1959، وقام النظام السابق بهدمه عام 1981، وبناء نصب آخر بدله في حي التشريع بجانب الكرخ من بغداد".
وإستقطع المقطع أدناه من تصريحه لأهميته وكونه يعطي ملخصاً مختصراً جيد لهذه المبادرة المهمة:-
(أوضح المهندس العراقي أن الفنان الجادرجي كان كلفه بمساعدته في تنفيذ النصب كونهما زملاء، ويسكنان في نفس المدينة لندن، مضيفا أن "فكرة إحياء صرح الجندي المجهول، كانت فكرة مثيرة بالنسبة لي، لأنه صرح تاريخي يرتبط بذاكرة كل العراقيين) حسب تعبيره.
ولفت عبد إلى أن "التصميم سيكون هو نفس التصميم القديم، وبنفس القياسات والفضاءات والزوايا والإنحدارات، التي كانت ولا تزال مبنية على أسس علمية ترجع جذورها إلى الحضارتين السومرية والرومانية "، مبيناً أن هناك  بعض التعديلات مثل إدخال التكنولوجيا عليه كالإضاءة الليزرية والألوان.
وقال المهندس المعماري العراقي (حميد عبد) إن "نصب الجندي المجهول سيكون موقعه بنفس المكان القديم في ساحة الفردوس، وعلى نفس الأساسات، إن وجدت، ونفس القياسات والإرتفاعات" مبيناً أنه "النصب صرح تاريخي ويجب إعادته كما تتم إعادة كنيسة أو جامع تاريخي" حسب تعبيره.
وأوضح عبد أنه "سيشرف على بناء النصب في بغداد، بينما يقوم الجادرجي بزيارة موقع العمل في أوقات محددة، وحسب ما تسمح به صحته، لأنه كبير بالسن ولا تسمح صحته بالسفر الكثير".
ولفت المهندس عبد إلى إن "العمل ينصب حالياًَ على إعداد ماكيتات جديدة للنصب"، مبيناًَ أن مكتبة المهندس الجادرجي لا تحوي ماكيتات تصميم نصب الجندي المجهول، لأنه بناه بشكل إرتجالي ولم يكن قد وضع له التصاميم الهندسية وقتها".
(يذكر أن المعماري الفنان رفعت الجادرجي كان قد نفذ نصب الجندي المجهول عام 1959 بتكليف من الزعيم العراقي السابق). 
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع