الصحوة الدينية" بجيش إسرائيل.. أسباب داخلية وأخرى خارجية

العربية نت

كشفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أواخر ديسمبر/كانون الأول 2008 عن ترسخ توجّه ديني بات يلعب دوراً في الحياة العسكرية الإسرائيلية والنظرة لطبيعة الصراع مع المحيط العربي والإسلامي.

المؤشرات على تنامي هذا التيار، الذي يقارن البعض بينه وبين ما يسمى بتيار الصحوة الدينية الإسلامية، عديدة وتتجلى في عدة مظاهر وسلوكيات وتتخطى ذلك إلى طبيعة التكييف القانوني والأخلاقي للحرب نفسها، الأمر الذي يدفع إلى التفكير في أسباب ذلك التنامي للمد الديني في إسرائيل على حساب الاتجاه العلماني الذي ظل مسيطراً على الجيش لعقود.


ورغم التكتم الذي فرضته إسرائيل على عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة فإن تسريبات من هنا وهناك لجنود عادوا من الجبهة توضح مدى حالة تغلغل المد الديني داخل صفوف الجيش. ففي تصريحات نقلتها صحيفة إسرائيلية لأحد الجنود قال إن حاخامين بالجيش قالا لهم رسالة محددة وهي أن "هذه العملية حرب دينية".

جنود يصلّون بالقرب من دباباتهم على حدود غزةونقلت الصحيفة عن الجندي قوله إن الحاخامين أبلغوهم أنهم "يخوضون حرباً دينية ضد الأغيار (غير اليهود)". ويضيف الجندي أن الرسالة كانت واضحة للغاية وهي أن الشعب اليهودي جاء إلى هذه الأرض (فلسطين) بمعجزة وأن الله أعاده مرة أخرى لهذه الأرض وأنه يحتاج الآن لأن يقاتل حتى يطرد الأغيار الذين يتدخلون لمنع فتح اليهود لهذه الأرض المقدسة.

ثمة مؤشرات أخرى على تنامي التيار الديني داخل الجيش الإسرائيلي مثل ميل غالبية الضباط والجنود الإسرائيليين لارتداء القلنسوة اليهودية الشهيرة حتى في حفلات التخرج من المعاهد والكليات العسكرية العليا بدلاً من ارتداء الزي العسكري التقليدي.

ومن المشاهد التي كانت مألوفة خلال الحرب الإسرائيلية على حزب الله في يوليو/ تموز/ 2006 مشاهد لجنود إسرائيليين في ساعات الصباح الأولى يؤدون الصلاة والتراتيل قرب مركباتهم وآلياتهم العسكرية.
 
 
تحول تدريجي

ورغم الطابع الديني الذي استندت إليه جماعات الضغط الصهيونية في تبرير سعيها لإقامة دولة إسرائيل بأنها تهدف لخلق دولة يهودية خالصة في أرض الميعاد فإن الدولة في تركيبها وهيلكها الرئيسي وعمادها الأول كانت دولة علمانية, بل إن الحزب الذي هيمن على الحياة السياسية في إسرائيل منذ قيامها في مايو /آيار 1948 وحتى أواخر السبعينات هو حزب العمل، وهو حزب علماني صرف وكان من أحد اسباب تعاطف القوى الاشتراكية والعلمانية في دعم الدولة الوليدة، وعلى سبيل المثال فقد كان الاتحاد السوفييتي السابق أول من اعترف بقيام دولة إسرائيل.

وشهدت السنوات الأخيرة من السبعينات وما تلاها ظهوراً ولو خافتاً للأحزاب ذات الطابع الديني، إلى أن وصلت حالياً لأن تكون هذه الأحزاب هي المكون الرئيسي في أي حكومة إسرائيلية، في ظل تآكل الأحزاب الكبرى وعلى رأسها العمل، فارضة بذلك أجندة دينية على الحكومات التي شاركت فيها، ركزت تحديداً على زيادة المخصصات المالية للتعليم الديني ومخصصات رجال الدين وخلافه، ولكنها بقيت لحد بعيد غير مؤثرة في شؤون الجيش وإدارة السياسة الخارجية.
 
 
أسباب تنامي المدّ الديني داخل الجيش

تحتاج معرفة تنامي التوجه الديني داخل صفوف الجيش الإسرائيلي لدراسة وبحث وافيين للوقوف على أسباب تلك الظاهرة من ناحيها وآثرها في العقيدة القتالية للقوات الإسرائيلية من ناحية ثانية.

ونحاول هنا المرور سريعاً على العوامل التي ساعدت في ذلك التحول.

أولاً: هناك عوامل تتعلق بتغير طبيعة العدو المفترض للقوات الإسرائيلية.

وتحت هذا العامل سنلحظ بيسر أن طبيعة العدو المفترض تغيرت مباشرة بعد حرب أكتوبر 1973 وتعزز التغير بعد الغزو الإسرائيلي الأول للبنان عام 1978 فيما عرف باسم (عملية سلام الجليل).

وحتى حرب أكتوبر 1973 كانت القوات الإسرائيلية تواجه جيوشاً نظامية لدول عربية وتدور معاركها في ميادين قتال مفتوحة، وهي ميادين كانت كلها خارج حدود الدولة الإسرائيلية. مع ظهور حزب الله كقوة قتالية في مواجهة إسرائيل بعد الغزو الإسرائيلي الثاني للبنان عام 1982 تشكلت أول ملامح التحول في طبيعة العدو المفترض لدولة إسرائيل بحكم البنية الدينية والعقائدية الواضحة لحزب الله، والذي انعكس في أداء الحزب ابتداء من الخطاب الإعلامي ووصولاً لأساليب إدارة العمليات العسكرية وحتى تأويل نتائجها.

ومع مرور الوقت تنامت أعداد وعدة التيارات ذات الصبغة الدينية في الشرق الأوسط لتظهر حماس والجهاد كقوى رئيسية في خط مواجهة مختلف هذه المرة داخل حدود إسرائيل وليس خارجها، وتقلص دور منظمة التحرير الفلسطينية في إدارة الصراع عسكرياً مع إسرائيل عقب اتفاقيات أوسلو وظهور تنظيمات إسلامية ذات بنية ممتدة دون حدود جغرافية واضحة مثل تنظيم القاعدة والذي وإن لم يشكل في البداية تهديدات جدية لإسرائيل في أي ساحة قتال داخلي أو خارجي إلا انه استخدم إسرائيل وقهرها للشعب الفلسطيني كذريعة لحروبه وعملياته القتالية، فضلاً عن أنه شكل مصدر إلهام للعديد من التنظيمات الإسلامية الجهادية الصغيرة باعتبارها حلاً وحيداً وأخيراً لتسوية نهائية وكاملة للصراع مع إسرائيل بعد فشل النظم الرسمية العربية في حسم الصراع سواء بالحرب أو بالسلام.

ثانياً: شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة عاملاً آخر يضاف لأسباب نمو التوجه الديني داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ولو بطريق غير مباشر.

فبعد هذه الهجمات أعلنت الولايات المتحدة حرباً مفتوحة المدة والمساحة لتشمل خريطة العالم كله ضد عدو شبحي، وهو ما عرف باسم الحرب على الإرهاب. وجدت إسرائيل في تلك الحرب الجديدة فرصة ذهبية للهروب من أي التزامات تتعلق بعملية السلام أو التسوية، وأعلنت نفسها حتى دونما دعوة شريكاً للولايات المتحدة في حربها الجديدة الواسعة الجبهات والمفتوحة المدة.

ثالثاً: عززت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي كانت شرارتها الأولى دينية بالأساس بدخول رئيس الوزراء الأسرائيلي الأسبق أرييل شارون لساحة المسجد الأقصى ما شكل استفزازاً لمشاعر المسلمين, عززت الطابع الديني للصراع واتسعت لتأخذ تلك الهبة العفوية في بدايتها لانتفاضة مسلحة دامت سنوات أسقطت آلاف القتلى من الطرفين وتشهد ولادة سلاح جديد أثار كثيراً من الجدل واللغط حتى في التكييف الشرعي والفقهي له بين العلماء المسلمين وهو سلاح العمليات الانتحارية، كما يسميها البعض والاستشهادية كما يسميها الإسلاميون وقطاعات واسعة من الشارع العربي والإسلامي، وهي ما كانت تسميه حركات التحرر والحركات الثورية سابقاً بالعمليات الفدائية أو عمليات مقاومة. وبقيت التسمية والتكييف الشرعي محل جدل وخلاف حتى تاريخه، ولكنها كرست حقيقة التحول في التعامل مع الصراع من جانب الطرفين وكيفية إدارته.

استمرت وتيرة الصعود في هذه التحول متزامنة مع مناخ دولي فرضته أمريكا بالحرب على الإرهاب والذي يستهدف بالأساس جماعات أصولية إسلامية لتجد إسرائيل نفسها في أول حرب دينية صريحة خلال المواجهة مع حزب الله في يوليو /تموز 2006 والتي حرصت إسرائيل على أن تسوقها للعالم على أنها ليست حرباً من أجل حماية أمن إسرائيل ومنع الهجمات عليها فقط بل حرباً ضد الإرهاب بالأساس ولحماية العالم من خطره. وذهبت إسرائيل لأبعد من ذلك بالترويج لانها تحظى بمباركة ودعم من أطراف عربية في حربها ضد حزب الله وأنها تحمي نظماً عربية من مخاطر مد إسلامي يهدد كياناتها.

الحرب على غزة جاءت نموذجاً مصغراً للحرب على حزب الله مع اختلاف موازين القوى والقدرات العسكرية بين حزب الله وحماس واختلاف الجوار الجغرافي لميدان المعركة هذه المرة، ولكنها اندرجت من الجانبين إسرائيل أو حماس على أنها حرب دينية حتى وإن كانت الشعارات والمؤشرات الدينية اقل ظهوراً في الجانب الإسرائيلي عنها في جانب حماس. وانتهت لدى حماس بما اعتبرته "نصراً إلهياً" تماماً كما أعلن حزب الله في نهاية حرب يوليو/تموز مع إسرائيل, لكن التسريبات التي تخرج من وقت لآخر من جنود شاركوا في تلك الحرب تبين إلى أي مدى يلعب الدين دوراً في توجيه الجيش وتسويغ مبررات الحرب وتزيين أهدافها.

نظرة للمحيط الجغرافي الأبعد تضع أعيننا على من هو العدو المفترض التالي لإسرائيل, نقصد إيران وهي الدولة التي ترتدي صبغة دينية كاملة في مستوى بنية النظام وخطابه الإعلامي وتصورها الخاص لإدارة الصراع مع إسرائيل.

وهو التصور الذي تحاول إيران فرضه عن طريق وكلاء إقليميين دون الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل سعياً لتحقيق مكاسب تصب في مصالح إيرانية أوسع وأبعد من كونها سعياً لنصرة القضية الرئيسة محل الصراع في المنطقة وهي القضية الفلسطينية. هذا العدو المفترض القادم وبقاء الحرب الأمريكية المفتوحة ضد الإرهاب حتى وإن تغيرت أساليبها بالتقليل من التدخل المسلح المباشر ولكنها تبقى حرب قائمة بوسائل أخرى.

بهذه الأجواء وبتنامي نفوذ ودور الأحزاب الدينية داخل إسرائيل يمكن القول بشكل حاسم إن هذا التحول نحو صبغة دينية داخل الجيش الإسرائيلي سيزداد ويترسخ في السنوات القليلة المقبلة.

ومثل أي تحول في أي مجال فإن هذه الظاهرة ستكون لها آثارها في العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي وأساليب إدارة القتال والتكييف القانوني والأخلاقي لوقائع القتال ونتائج المعارك المحتملة.