بقلم: د. أيمن الجندى
الأولة بلدى، والتانية بلدى، والتالتة بلدى.
من حقى كإنسان أن أختار نمط الحياة الذى يناسبنى، أرتمى فى أحضان اللون الأخضر، أحلق مع أم كلثوم وعبدالوهاب، أبتعد عن كل ما يعكر صفوى. لكن من واجبى ككاتب أن أتعرف على الحياة الحقيقية، الواقع المعاش لأبناء وطنى إذا أردت أن يُكتب لقلمى النجاح.
كان الحنين يغمرنى لمصر، وكان زمن الرحلة هو بالضبط زمن المباراة المشؤومة بين مصر والجزائر فى الخرطوم. وبينما كانت الطائرة تحلق فى السماء وتغازل السحب كنا ندعو ونبتهل. مع الإقلاع كانت الابتسامات، ومع الهبوط كانت التنهدات. مصر قليلة الفرح، طويلة الحزن، أم الصابرين. بلدنا تسند ظهرها على شجرة التوت وتبكى. فوق قمة الأهرام تبكى، على هضبة المقطم تبكى، فى الجمالية والخيامية والعقادين. فى الغورية وخان الخليلى والحسين.
فى طريق العودة كانت الطرق خالية ومظلمة. رحت أرمق المدينة المنهكة، جاثمة فى حزنها الطويل. بائسة، مرهقة، متعبة. مصر التى تعاقبها الغزاة وجلدها الطغاة وأنهكها المستبدون. الجدة العجوز التى لم تزل تمنح الزرع، وتملأ الضرع، وتواسى المحزونين.
قرب وصولى لمدينتى «طنطا» اتصل بى شقيقى فى حزن: عرفت أنهم بيضربوا المصريين؟، فأجبته فى حزن أشد: «كالعادة، مهانون مستضعفون!!».
■ ■ ■
الأولة بلدى، والتانية بلدى، والتالتة بلدى.
فى الصباح التالى، لو كان ثمة صباح!، كان لا بد أن أذهب للقاهرة فورا للقاء مهم. وكان الوقت ضيقا لا يسمح بانتظار القطار، وإنما بركوب سيارة أجرة والنزول عند مدخل القاهرة واستقلال المترو لتجنب الزحام. بمجرد نزولى الشارع أُصبت بالدهشة والترويع. وبرغم أنى لم أغب عن مصر أكثر من شهر فقد نسيت (أو أردت أن أنسى) ما يحدث فى الشارع المصرى من قبح مطلق. عقلى اللعين فعلها، حذف الأجزاء السيئة، وأبقى الإطار المذهب للصورة. كنت فى خلال هذا الشهر قد نسيت تلال الزبالة وبحيرات المجارى. نسيت الشوارع المهدمة والأرصفة المتآكلة. نسيت الملامح المتعبة والثياب المتواضعة. نسيت بنات الدبلوم الجميلات اللواتى لا يملكن مليما، نسيت الشباب المتفجر رجولة الذى أذله الفقر وجيوبه الخاوية.
فى خلال هذا الشهر كنت قد نسيت ونسيت ونسيت.
رحت أتأمل الشوارع فى رعب، هذه ليست مدينة وإنما ساحة حرب. الشوارع مهدمة، الرصيف متآكل، التراب والقبح فى كل مكان، والناس سكارى وما هم بسكارى. حتى الزحام لا ينطوى على حميمية وإنما على غربة كاملة.
وكنت قد نسيت فى هذا الشهر أن هناك من يولد ويموت فقط لكى يُجلد بالسياط، دون أن يذوق طعم الفرح أو يعرف ما معنى الأمان.
■ ■ ■
الأولة بلدى، والتانية بلدى، والتالتة بلدى.
كان السائق أرعن يقود السيارة فى سرعة واستهتار، فى طرق متآكلة غير آمنة بالمرة. يمرق بين لوريات النقل وميكروباصات الأجرة، ويعرض حياته -وحياتنا- للموت ألف مرة. يصنع هذا لأن حياته رخيصة وحياتنا رخيصة. ونظرت إلى الوجوه غير المبالية حولى، شاحبة وبائسة ورخيصة، كلها ترحب بموت يخلصنا من حياة رخيصة.
عند مدخل القاهرة نزلت. كان المترو فى الجانب الآخر من الطريق، والشارع مسدوداً بأسوار حديدية ارتفاعها أمتار. والوضع فوضى، اختلط الحابل بالنابل والشقاء بالشقاء. وعبثا ما أبحث عن مخرج إلى مدخل المترو. أمرونى أن أهبط النفق فهبطت. السلالم من الأسمنت المتآكل كأسنان عجوز خربتها السنون. قاع النفق مظلم تماما ويمتلئ بالمجارى، والشحاذون يتسولون من الشحاذين، وأنابيب غير منتظمة فوق رأسك، وطابور البؤس البشرى ينتظم للخروج من النفق إلى نفق أشد. نفق الحياة المصرية كلها.
لا أريد أن أوغل فى التفاصيل فكلكم تعرفونها، بل هي- للأسف- حياتكم اليومية. آسف إذا كنت أرتمى فى أحضان اللون الأخضر، آسف إذا كنت أحلق مع أم كلثوم وعبدالوهاب، آسف إذا ابتعدت عن حياتكم الحقيقية. عذرى الوحيد أننى أشد بؤسا وأكثر عجزا.
■ ■ ■
الأولة بلدى، والتانية بلدى، والتالتة بلدى، ولكن أين بلدي؟.
النيل ينبع من دموعى، وعلى أكتاف أجدادى ارتفعت أحجار الهرم ليلتحق الفرعون بالسماء. وعلى جماجم الأحبة ارتفع مجد أبن آمون يطاول السحاب. حفاة عراة جياع يحفرون مجرى القناة بأظافرهم لينعم السادة بأوبرا عايدة فى المسرح المذهب.
لماذا يا مصر تخذلين عشاقك وتركعين للطغاة؟
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=10786&I=280