حسن كمال
بقلم : حسن كمال
الدعوة لتطبيق الشريعة دعوة سياسية و ليست دعوة دينية
تمهيد
بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين كأكبر تيار للإسلام السياسى و الأصولية فى مصر ولم يتبقى سوى حزب النور السلفى كممثل وحيد للإسلام السياسى فى لجنة الخمسين لتعديل الدستور الحالى , أزعجنا بشدة إنضمام أحزاب مدنية لحزب النور فى الدفاع عن أيديولوجية الإسلام السياسى القائمة على المادة الثانية فى الدستور. مما أثار قلقنا الشديد على الخطاب المدنى فى مصر وهو الذى دفعنا لكتابة هذة الورقة البحثية لإظهار الحقيقة الغائبة فى المادة الثانية بالدستور.
تنتشر دوما دعاوى متعددة تتجمع حول فكرة واحدة وهى ضرورة تطبيق ( الشريعة الإسلامية ) .
فبعض هذة الدعاوى يرى أن البلاد الإسلامية تخلفت و أنها تعيش فى جاهلية, نتيجة لأخذها بأسباب الحضارة الغربية ( العالمية ) و أن تطبيق الشريعة سوف ينهض بها نهضة عظيمة ويرفعها من التخلف الذى تعيش فيه. ويرى بعض أخر من أن البلاد الإسلامية لن تنهض حقا إلا إذا عاشت كما كان يعيش السلف الصالح فى عصر النبى ( محمد ) و عصر الخلفاء الراشدين .
وعلى الجانب الأخر يطالب التيار المدنى ( مجازا ) بالإكتفاء بتطبيق مبادىء الشريعة الإسلامية , بل و يزيد على تيار الإسلام السياسى لخلق مبادرات للحفاظ على مواد الشريعة الإسلامية فى الدستور ليثبت إنه أحفظ على الشريعة من حزب النور السلفى الذى اعتقدنا إنه الممثل الوحيد لتيار الإسلام السياسى فى لجنة الخمسين لتعديل الدستور , ولذا من الأهمية أن نوضح حقيقة لفظ الشريعة الإسلامية .
الشريعة فى القرآن
الشريعة , فى القرآن الكريم , وفى اللغة العربية , تعنى : الطريق , السبيل , المنهج. و شريعة " أى طريقة أو منهج ". و قد ورد لفظ الشريعة فى القرآن الكريم مرة واحدة سورة الجاثية 45 : 18 ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) , ثم ورد فعل له إشتقاق ثلاث مرات فى سورة الشورى 42 : 13 ( شرع لكم من الدين ماوصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا ) .
ثم بعد ذلك فى سورة المائدة 5 : 48 ( لكل جعلنا منك شرعة ومنهاجا ) و فى سورة الشورى 42 : 21 ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) .
ولفظ الشريعة على هذا النحو المذكور فى هذة الآيات الثلاث يفيد معنى المنهج أو السبيل أو الطريق. فالمقصود من الأيات أن الله يقول للنبى : ثم جعلناك ( يا أيها النبى ) على نهج أو على سبيل أو على طريق من الأمر فأتبع ما جعلناك عليه. و يقول الله : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك. ويقول الله : لكل جعلنا منكم ( يا أيها الأنبياء والرسل) طريقا ومنهاجا , فطريق كل نبى غير طريق الآخر, وسبيل كل رسول إنما يساير عصره ويوافق المجتمع الذى أرسله إليه.
وهذا المعنى الذى ورد فى القرآن عن لفظ الشريعة – بنصة أو بفعله – هو بذاته المعنى اللغوى الوارد فى قواميس اللغة. فكلمة شرع - لغة – تعنى ورد. والشرع والشريعة : هى مورد الماء , أى : مدخل الماء. ( القاموس المحيط : مادة شرع ).
فالقرآن الكريم لم يستعمل لفظ الشريعة – أبدا – فى معنى وضع أحكام للعبادات أو قواعد للمعاملات . وعليه فلفظ الشريعة لا يعنى فى اللغة – ولا فى الإستعمال القرآنى – معنى التشريع أو القانون , وعندما نص القرآن الكريم على لفظ التشريع لم يذكر لفظ الشريعة ولا أحد مشتقاتها ( ومنها كلمة التشريع ) , و إنما وردت بعض الأحكام التشريعية بلفظ "الأمر" فى سورة الأعراف 7 :29 ( قل أمر ربى بالقسط ) أو "الفرض" فى سورة النساء 4 :24 ( فما أستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) أو "الوصية" فى سورة الأنعام 6 :151 ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ).
الدين واحد و الشرائع شتى
تسعى دوما جماعات الإسلام السياسى , وأنضمت له مؤخرا أحزاب مدنية ( مجازا ) على أن الإسلام هو دين الدولة فى المادة الثانية وذلك بنبرة إستعلاء على كافة الأديان والعقائد الأخرى . ولذا يجب أن نوضح أن الدين غير الشريعة , فالدين واحدا لكل الأنبياء و كانت الشريعة مختلفة بإختلافهم . ولذا فمن الأهمية أن نلقى الضوء على مفهوم الإسلام كديانه فى القرآن والمقصود بلفظ الإسلام كما جاء فى القرآن دون تزييف من جانب جماعات الإسلام السياسى , وذلك فى سورة آل عمران 3: 19 ( إن الدين عن الله الإسلام ), ولكن ما هو هذا الدين !!
فهو الدين الذى نادى به نوح , الذى قال فى سورة يونس 10 : 72 ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) , و هو الدين الذى كان عليه إبراهيم فى سورة آل عمران 3 : 67 ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) و فى سورة الحج 22 : 78 ( هو سماكم المسلمين من قبل ) . و هو دين بنى إسرائيل فى سورة البقرة 2 : 133 ( قالوا نعبد إلهك وإله آبائك و إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) .
و هو الدين الذى بشر به المسيح فى سورة آل عمران 3 : 52 ( فلما أحس عيسى منهم بالكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) وهو الدين الذى دعا إليه محمد فى سورة آل عمران 3 : 84 ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون ) .
فلذا الدين واحد عند الله, وإنما الشريعة تختلف لدى الرسل و الأنبياء, لكل منهم شريعة, فأتفق الإيمان لدى جميع الأنبياء والرسل واختلفت مناهجهم فى الدعوة إليه فى إتباعه, فتوحد الدين عندهم جميعا وتفرقت الشرائع , لكل منهم شريعة ففى سورة سورة المائدة 5 : 48 ( لكل جعلنا منك شرعة و منهاجا ).
فلكل نبى منهج فى الدعوة إلى الله و سبيل يأخذ المؤمنين إليه وطريق يضعهم عليه, وهذا المنهج أو السبيل أو الطريق يختلف بإختلاف الرسل و الأنبياء وبإختلاف العصر الذى يظهر فيه الرسول أو النبى والمجتمع الذى يتوجة إليه والقصد من دعوته على العموم. فشريعة موسى هى الحق : فهى تضع الحقوق و الواجبات وتحدد الجزاء لكل آثم, ثم تدعو إلى إعمال الواجبات دون تخفيف وتطبيق الجزاء فى شدة وصرامة.
و شريعة عيسى هى الحب : الحب الذى يدعو صاحب الحق – بدافع المحبة – ألا يبحث عن حقة بين الناس , ومن كان له الحق فى جزاء ألا يفكر فى توقيع هذا الجزاء. أما شريعة محمد هى الرحمه : الرحمة الذى تزاوج بين الحق و الحب و تمازج الجزاء بالعفو. وعن النبى قال ( أنا نبى الرحمه ) فشريعة محمد هى الرحمة التى تضع مع الجزاء عفوا ومعروفا, و تدعو إلى أن يكون ضمن التعامل فضل و تقوى. فالإسلام هو دين الأنبياء و الرسل جميعا, و الرحمة هى شريعة محمد. ونحن لا نختلف تماما على تطبيق الشريعة بمفهوم الرحمة التى هى جوهر حقوق الإنسان بشكل أساسى.
لفظ الشريعة فى الفقة الإسلامى
و مع هذا التحديد اللفظى و الوضوح التعبيرى للفظ الشريعة فى القرآن كما أوضحناه سلفا, ولكن هذا اللفظ قام الفقة الإسلامى بتغييرة ليحمل معنى غير المعنى المقصود به فى القرآن الكريم. ويجب الإشارة لنقطة هامة أن الأعمال و الأراء و الأقوال الفقهية الإسلامية , إنما هى أعمال الناس و آراء الناس و أقوال الناس , لا يسوغ بأى حال أن تحلل شيئا أو تحرم شيئا .
لقد استعمل اللفظ فى الإسلام - أولا – بمعناه الذى يفيد أن شريعة الإسلام هى سبيل الإسلام أو منهاجه. ثم نقل بعد ذلك إلى كل أحكام الدين , فأصبحت الشريعة تعنى كل ما ورد فى القرآن من سبل للدين ونظم للعبادات و تشربعات للجزاءات أو للمعاملات . ثم أصبح أخيرا يعنى كل أحكام الدين ونظم العبادات وتشريعات الجزاءات و المعاملات, وما جاء فى السنة النبوية , وما تتضمنة آراء الفقهاء وتفاسير المفسرين ونظرات الشراح وتعاليم رجال الدين.
فمصادر الأحكام الشرعية – التى يطلق عليها تجاوزا لفظ الشريعة – هى فى نظر علماء المسلمين أربعة : القرآن , السنة , الإجماع , القياس. ومن هنا بدأ إستعمال لفظ الشريعة بمعنى القانون , وذلك خلافا لحقيقة معناه الحقيقى فى اللغة , وما استعمل فية فعلا فى القرأن الكريم , كما أوضحنا سلفا.
و يجب أن نشير أخيرا فى مسألة الفقة الإسلامى لنقطة فى غاية الأهمية وهو أن ( أحكام و أراء الفقة هى إجتهادات بشرية لا إلهيه ) , فهى صدرت فى أزمنة سابقة لمعالجة مشكلات مجتمعية مختلفة, ومتفاوته فى خطابها من التطور السياسى والإقتصادى والإجتماعى والثقافى . وتعريف الفقة الإسلامى بأن الشريعة الإسلامية هى القرآن والسنة والإجماع والقياس ليس من القرآن بل هو تعريف قام بوضعه الفقة حتى يصبح أيديولوجية جماعات الإسلام السياسى وتقوم بخداع الشعب لإيهامهم بأن هذا هو الإسلام ولكنه هو أيديولوجية الإسلام السياسى .
المادة الثانية فى الدستور
جاء الدستور المصرى الصادر فى 1923 بمادته 149 أن ( الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ) و يلاحظ هنا إنه تم ذكرها اعتبارا من المادة 149 فى باب " أحكام عامة " و بالرجوع للأعمال التحضيرية لدستور 1923 لم يكن مطروحا وقتها مسأله النص على وجود دين رسمى للدولة بإعتبار أن الدين هو دين سكانها, إلا أن شيخ الأزهر فى ذلك الوقت اقترح فى الأعمال التحضيرية أن يكون الإسلام هو دين الدولة الرسمى , وتم التصويت على المقترح و الموافقة عليه دون أن تأخذ حظها فى أى مناقشات , ولكنها تدخل فى مفهوم النظام العام و الآداب العامة . فلفظ الأداب العامة و النظام العام يرتبط بمفهوم الفكر الدينى عن الإسلام فى المادة الثانية بشكل كبير ولذا فمصطلح النظام العام و الأداب العامة من صميم أيديولوجية الإسلام السياسى تستخدمة لفرض رأيها بأسم الدين .
وجود المادة الثانية فى الدستور يمثل تهديدا خطيرا لحرية الإعتقاد فبالبرغم إنه كان هناك المادة 46 من دستور 1971 التى تنص ينص على ( تكفل الدولة حرية العقيدة و حرية ممارسة الشعائر الدينية ) إلا أن المحكمة الدستورية العليا قامت بتفسيرة بشكل مختلف , حيث أضافت إنه يجب مراعاه ما يسمى " بالقيم الأدبية " فى إطار حرية الإعتقاد , و قصرت التمتع بهذا الحق لأصحاب الديانات السماوية الثلاث؛ فهم وحدهم الذين لهم الحق فى إقامة الشعائر الدينية.
و قد تكرر نص المادة الثانية بحرفيته فى دستور 1930 بمادته 138 والتى نصت على أن ( الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ) وتكرر ذات النص بحرفيته فى دستور 1956 المادة رقم 3 , و أيضا فى دستور 1964 المادة رقم 5 .
و بعد تولى الرئيس الراحل / محمد أنور السادات , زمام السلطة قام بإحياء تيارات الإسلام السياسى الأصولية بشكل كبير " التى قامت بإغتياله بعد ذلك ! " , فتبنى السادات أفكارها بمثابة أيديولوجية للدولة , و عمل على أسلمة الدولة و المجتمع . فأصدر فى عام 1971 دستورا جديدا حيث, و للمرة الأولى , برزت مبادىء الشريعة الإسلامية "مصادر رئيسيا " للتشريع . فنص المادة هو " الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادىء الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع ". وعلاوة على ذلك كان ذلك نقطة تحول دستورى فى المنطقة ليتبعها فى وقت لاحق فى الدساتير العربية , حيث كان من مقتضى ذلك أن انتشرت فى البلاد العربية دعاوى عريضة تطالب بسرعة تطبيق الشريعة الإسلامية فى المجتمع .
فى الإسفتاء على التعديلات الدستورية التى جربت فى 22 مايو 1980 أدخل السادات تعديلا دستورىا أخر ليجعل مبادىء الشريعة الإسلامية " المصدر الرئيسى " للتشريع , فى إطار التزيد و الإبتزاز لتعديل نص مدة الرئاسة لمدد أخرى . و بدأ السادات جميع خطاباته العامة " باسم الله " و أعلن نفسة وبكل فخر " رئيسا مسلما لدولة مسلمة ".
و طوال فترة السبعينات تم إستهداف المسيحين بشكل عام من قبل الجماعات الإسلامية والتى تم إنشاؤها فى الأصل من قبل محمد عثمان إسماعيل " مستشار السادات و كان فى ذلك الوقت أيضا محافظ أسيوط من 1973 – 1982 " , حيث تم إرهاب الأقباط وخاصة فى أسيوط و بقية صعيد مصر و الأسكندرية على يد تلك الجماعات الإسلامية, كما تم إستهداف العلمانيين و اليساريين المسلمين أيضا. و فى عام 1977, أراد السادات أن يسن قانونا حول الرده, وكان غاضبا من ردود الفعل السلبية للمسيحين , الذين تخوفوا من أين يكون هذا وسيلة تمويه لتغيير الديانة القسرى. وعلى أثرها وقعت مجزرة كبيرة أستهدف فيها المسيحين وهى أحداث الزاوية الحمراء وتم قتل فيها حوالى 81 مسيحى على مرأى و مسمع من رجال الشرطة على يد الجماعات الإسلامية . و خلع السادات البابا , وقام بوضعة تحت الإقامة الجبرية فى أحد الأديرة بالصحراء.
تفسير المادة الثانية فى القضاء الدستورى
المشرع الدستورى قام بتفسير المادة الثانية حيث أورد تعبير ( مبادىء الشريعة الإسلامية ) لا أحكام الشريعة الإسلامية , فمبادىء الشريعة الإسلامية كما يراها هى تمثل المقاصد العليا وهى ثابته بعكس الأحكام وهى متغيرة وهى تخضع للإختلاف الفقهى فى استنباطها . ففرقت المحكمة الدستورية العليا بين مبادىء و أحكام الشريعة المستمدة من نصوص قطعية الثبوت و الدلاله وما بين المبادىء و الأحكام ظنية الثبوت و الدلالة.
بمعنى أن أى تشريع صادر من السلطة التشريعية يتناقض مع ماهو قطعى الدلالة والثبوت فهو غير دستورى بينما فى المواضيع الأخرى فإن المشروع لدية حرية إعتماد أى تشريع أخر مادام لا يتعارض مع المقاصد العامة للشريعة ( مبادىء الشريعة ) .
و لا شك أن القضاء الدستورى خلط بين مفهوم الشريعة وفقا للمفهوم الإصطلاحى للفقة حيث أستند فى تعريفة للشريعة على تعريف الدكتور / عبد الرازق السنهورى . فبنظرة تاريخية, إنه وردا خطابا للقاضى المصرى عند تطبيق قواعد القانون المدنى المصرى الصادر فى أربعينات القرن الماضى, و ظل يمثل أحد المصادر التى يأخذ منها.
إن مبادىء الشريعة الإسلامية ( وليس أحكامها التفصيلية ) هى كما قال أستاذنا الدكتور ( عبد الرازق السنهورى أمام مجلس الشيوخ المصرى اثناء مراجعة نص المادة الأولى من القانون المدنى هى (( المبادىء الكلية للشريعة الإسلامية التى لايوجد خلاف بشأنها بين الفقهاء )) .
ومع الإحترام الكامل للدكتور / عبد الرازق السنهورى , فى تفسيرة لمفهوم الشريعة فهذا رأى وإجتهاد بشرى يخصة وحدة فقط , و لا يجوز بأى حال من الأحوال فرض هذا الرأى الشخصى للسنهورى على المجتمع المصرى بأكملة و فرضة على دول أخرى فى الشرق الأوسط بإنه هو الدين ومن خارج عن ذلك المفهوم فهو ضد الدين .
المادة الثانية فى المنظومة القانونية
الشريعة الإسلامية وفقا لمفهوم الفقة الإصطلاحى الذى اوضحناه سلفا وليس وفقا للمفهوم الحقيقى فى القرآن , قد ظهر على المستوى القانونى من قبل السنهورى باشا ( أبو القانون المدنى ) فى مصر و العراق و سوريا و الأردن , و مدرسته فى التقنين أصبحت مصدرا لجميع القوانين المدنية و التجارية , فضلا عن قوانين الأحوال الشخصية وتضمين المرجعية الإسلامية للتشريع فى أغلب – إن لم يكن – جميع الدساتير العربية للأسف الشديد.
فالنص على مبادىء الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع فى مصر ظهر على مستوى القانون المدنى المصرى فى أربعينيات القرن الماضى , و ظل يمثل أحد المصادر التى ياخذ منها . فمبادىء الشريعة الإسلامية ( وليس أحكامها التفصيلية ) كما قال عبد الرازق السنهورى أمام مجلس الشيوخ المصرى أثناء مراجعة نص المادة الأولى من القانون المدنى هى ( المبادىء الكلية للشريعة الإسلامية التى لايوجد خلاف بشأنها بين الفقهاء ) ويلاحظ هنا بإنه تم ربطها بالفقهاء , على عكس مفهوم الشريعة فى القرآن كما أوضحنا سلفا.
وقعت أكدت – للأسف - الجمعية العامة لمحكمة النقض المصرية هذا المفهوم الملتبس للشريعة , كما وقع المشرع الدستورى فى نفس الخطأ وهو الخلط بين المفهوم الحقيقى للشريعة فى القرآن و المفهوم الإصطلاحى للشريعة فى الفقة. وذلك فى تعديل المادة الثانية من الدستور لعام 1980 . فمن واقع تقرير الجمعية العامة لمحكمة النقض الذى أعدته تعليقا على تعديل المادة الثانية فى الدستور عام 1980 بأن ( إذا كان دستورنا قد نص على اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع فليس معنى ذلك أن ينبذ تشريعنا المدنى العتيد الصادر فى عام 1948 والذى استغرق فى اعداده أكثر من 20 سنة .. ووضعت أحكامه بعد طول بحث و تبصر )
وقد سايرت محكمة النقض المصرية و القضاء الإدارى فى نفس الخطأ فى فهم مصطلح الشريعة بين القرآن و الفقة , حيث أعتبر أن الشريعة هى التراث, أى انها الأحكام العامة فى القرآن و السنة , كما أنها الأحكام التى ينتهى إليها القياس و الإجماع . و قد جاء فى حكم لمحكمة النقض المصرية عام ( 1982 ) : أن ما نص عليه الدستور فى مادته الثانيه من أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع , ليس واجب الإعمال بذاته , و إنما هو دعوة للشارع بان تكون الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى فيما يشرعة من القوانين " . وقد جاء كذلك فى حكم للمحكمة الإدارية العليا لعام 1982 ( أن الشريعة الإسلامية هى تراثنا العظيم الذى نعتز به , و إن من العبث التنكر له أو الإستغناء عنه ).
للإطلاع على منطوق هذة التقارير و الأحكام بالتفصيل برجاء الرجوع لكتاب ( أصول الشريعة " ص 182 – 193 للمستشار / محمد سعيد العشماوى ) .
و قد يؤخذ على المشرع فى التعديل الدستورى إنه خلط بين الشريعة و الفقة , و هو خلط كان نتيجة عدم تحديد الفارق بينهما فى التراث الإسلامى , و الذى أدى لخلط فى مفهوم القضاء المصرى و الدستور على مفهوم الشريعة بإنه هو المفهوم وفقا للفقة والذى يرى أن الشريعة هى القرآن و السنة والإجماع و القياس . بينما وفقا لتقرير لجنة الجمعية العامة لمحكمة النقض تناولت تفسير الشريعة بأن يكون ( القرآن و السنة و الإجماع و الفقة , وبجانبها توجد عدة مصادر يختلف فيها الرآى من فيها من مذهب لأخر مثل المصالح المرسلة والعرف والاستحسان .. الخ) . والمصادر التى رأت اللجنة أنها مصادر للشريعة هى فى الواقع مصادر الفقة وليست مصادر الشريعة.
و هكذا أطلق لقظ الشريعة – فضلا عن القرآن و السنه – على القياس و الإجماع , و هما فقة : أى إجتهاد من الفقهاء , اختلفوا فيه باختلاف الأزمنة و الأمكنة, كما اختلفوا فيه فى الزمان الواحد و المكان الواحد . و قد أدى ذلك كله لتقنين الفقة لا لتقنين الشريعة , و الإلتزام بضوابط هذا الفقة لا الالتزام بضوابط الشريعة, مما أدى إلى لا محالة إلى أن يصبح النظام القانونى كله أسير التراث و حبيس أحكامة.
من كل ما سلف يظهر بوضوح أن المشرع المصرى , و الجمعية العامة لمحكمة النقض , ومحكمة النقض, و المحكمة الإدارية العليا , قد خلطوا جميعا بين الشريعة و الفقة , فلم يتحدد عندهم بوضوح جلى ما هى الشريعة و ما هو الفقة و إنما تناولوا الشريعة على إنها الفقة وتكلموا عن الفقة على أنه الشريعة . مما أدى إلى إضفاء نوع من القداسة على الفقة على أنه هو الشريعة .
المادة الثانية فى الفكر السلفى
ترى العديد من قواعد الحركة السلفية أن أسلمة الدولة و المجتمع هى مكون أساسى فى مشروعها الأيديولوجى لإقامة الدين و المجتمع المصرى ؛ ولذا فهم يسعون لأن تكون أحكام الشريعة الإسلامية و ليس المبادىء لتكون مصدر رئيسى للتشريع , وهذا يعتبر تكريس أحكام فقهية كمصدر لتقنين القوانين والتشريعات على أعتبار أن أحكام الفقة هى من الشريعة الإسلامية وفقا للمفهوم الإصطلاحى للشريعة فى الفقة الإسلامى و ليس القرآن .فالتصور السلفى عن الشريعة الإسلامية هى قاعدة أيديولوجية أساسية لتمكينهم من الهيمنة الإجتماعية والثقافية والسياسية .
و لن يكتفى الفكر السلفى أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع فقط , ولكنه يعتبرها إطارا عاما لحركية النظام السياسى ككل , حيث يعتبر " المادة الثانية " مرجعية عليا فى للنظام السياسى للدولة , و أيضا نظام عام و إطار ضابطا لجميع الإجتهادات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية , و القانونية . و إنطلاقا من هذا التصور السلفى لمفهوم الشريعة الإسلامية لا يتقصر حديثة فقط على التشريع و مصادر أحكامة ,
بل يزيد على ذلك حتى تكون الشريعة الإسلامية حاكمة لكل شئون و مناحى الحياة كمرجعية و كمبدأ إنشاء و تأسيس لجميع الأنشطة السياسية لجهاز الدولة و للنظام السياسى. لتكون بذلك نظرة شمولية للتيار السلفى تخصهم وحدهم يقومون بفرضها على المجتمع المصرى بأسم الدين ومن يعترض على ذلك فهو كافر أو مرتد أو ملحد , فتلك أيديولوجية الإسلام السياسى التى تعتبر أيديولوجية فاشية بشكل كبير.
برجاء مراجعة برنامج حزب النور السلفى للتعرف على مدى شمولية ايديولوجية الإسلام السياسى والاصولية فى البرنامج الحزبى الذى يسعون الأن من خلال تواجدهم فى لجنة الخمسين لتعديل الدستور لوضع حجر الأساس لبرنامجهم الشمولى الذى يواجهون من يعترضهم بالكفر و الإلحاد.
المادة 219 فى دستور 2012
نجحت جماعات الإسلام السياسى من خلال هيمنتها على الجمعية التأسيسة لدستور 2012 من إيجاد نص متزايد وفضفاض لمعنى مبادىء الشريعة الإسلامية و الذى هو بالأساس أراء فقهية بشرية بشكل عام, ولكن الإسلام السياسى يسعى دوما لصبغ كل ماهو بشرى ليصبح جزء من الدين لتقديسة كالدين. حيث تنص تلك المادة على أن " مبادىء الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية , وقواعدها الأصولية و الفقهية , ومصادرها المعتبرة , فى مذاهب أهل السنة و الجماعة " .
و بالإطلاع على تفسير تلك المادة فى فكر جماعة الإخوان المسلمين وفقا للبيان الصحفى الصادر من الجماعة حول الشريعة الإسلامية و هوية الأمة فى 31 اكتوبر 2012 , هو أن المقصود بأدلتها الكلية كل ما جاء فى القرآن و السنة الصحيحة, و المقصود بالقواعد الأصولية و الفقهية هى القواعد المستنبطة من عموم الأدلة الشرعية التى لا خلاف عليها و التى تحقق مقاصد الشريعة , و المقصود بالمصادر المعتبرة هى القرآن و السنة و الإجماع و القياس . و هو ذاته تكريس لمفهوم الشريعة الإسلامية وفقا للفقة الذى يخص الفقة وحدة ولا وجود له فى القرآن الكريم.
دول ليس لها دين رسمى
و قد تدعى جماعات الإسلام السياسى دوما بأن الدولة يجب أن يكون لها دين رسمى يعبر عن دين الأغليبية لشعبها , و ان فكرة أن الدولة ليس لها دين هى فكرة شاذة أو غير مستصاغة , و لذا فنورد قائمة بأسماء الدول التى ليس لها دين رسمى فى دستورها حتى يكفوا عن تزييف الوعى العام .
( ألبانيا , أنغولا, أنتيغوا وبربودا, أستراليا, النمسا, أذربيجان, بلجيكا, بليز, بنين, البوسنا والهرسك, بوتسوانا, البرازيل, بوركينا فاسو, بورما, بورندى, كاميرون, كندا, كيب فيردى, الجمهورية الأفريقية الوسطى, تشاد, تشيلى, , جمهورية الكنغو الديموقراطية, جمهورية الكنغو, ساحل العاج, قبرص التركية, جمهورية التشيك, دومينيكا, الإكوادور, غينيا الإستوائية, أريترتيا, أستوانيا, إثيوبيا, فيجى, فرنسا, الغابون, غامبيا, ألمانيا, غانا, غرينادا, غينيا, غينيا-بيساو, غويانا, هنغاريا, الهند, أندونيسيا, إيرلندا, جاميكا, اليابان, كازخستنا, كينيا, كيريباتى, كوريا الجنوبية, كوسوفو, قيرغستان, لاتفيا, لبنان, ليسوتو, ليبريا, ليتوانيا, لوكسبموبرغ, مقدونيا, مدغشقر, مالاوى, مالى, جزر مارشال, موريشيوس, المكسيك, اتحاد جمهوريات ميكرونيشيا, منغوليا, الجبل الأسود "مونتينيغرو", موزمبيق, نامبيبا, نورو, نيبال, هولندا, نيوزيلندا, نيكارغوا, النيجر, نيجريا, بالاو, غينيا بابوا الجديدة, الفلبين, رومانيا, روسيا, راواندا, سان مارينو, ساو تومى وبرينسيبي, السنغال, صريبيا, سيشيليس, سيراليون, سنغافورة, جمهورية سلوفاكيا, سلوفينيا, جزر سليمان, جنوب أفريقيا, سانت كيتس ونيفيس, سانت لوسيا, سانت فينسينت وغرينادينس, سورينام, سوازيلاند, السويد, سويسرا, تايوان, طاجكستان, تنزانيا, توغو, تونغا, ترينيداد وتوباغو, تركيا, تركمنستان, توفالو, أوغندا, أوكرانيا, الولايات المتحدة الأمريكية, الأورغواي, أوزبكستان, زيمبابوي) ..
التوصية والخاتمة
فى نهاية الحديث نوصى بإلغاء أن ( الإسلام دين الدولة ) فى الدستور , وذلك بعد إظهار حقيقة لفظ الإسلام فى القرآن الكريم والذى ينطبق على كافة الشرائع وليس شريعة محمد وحدها , و أن الدين هو دين سكانها و ليس دين الدولة . و أيضا نوصى بحذف ( مبادىء الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع ) الذى يتم تعريفة وفقا لمفهوم الفقة ومنهم السنهورى باشا فهو تعريف خاص به وحدة و إجتهاد شخصى. فقد أكدنا بالأدلة والبراهين المفهوم الحقيقى للشريعة فى القرآن الذى هو المنهج أو الطريق وانه المقصود به فى القرآن هو الرحمة و ليس مفهوم الشريعة وفقا للفقة .
فنؤكد أن الخلط فى دعاوى تطبيق الشريعة التى ينادى بها جماعات الإسلام السياسى و التى أنضمت لها أحزاب مدنية ( مجازا ) , لا تقصد معنى الشريعة الحقيقى فى القرآن كما أوضحنا سلفا , و إنما ترمى إلى معنى اللفظ فى الفكر الدينى , بعناصرة الأربعة : الكتاب و السنة و الإجماع , والقياس . فكأن المعنى بتطبيق الشريعة تطبيق النظام الفكرى الإسلامى الذى هو أراء و إجتهادات بشرية, لا بالفهم الحقيقى الوارد فى القرآن. و أن هذة الدعوات هى أدلجة للإسلام وفقا للمشروع الإسلام السياسى الذى هى ليست من الإسلام , أن هذا المشروع الأيديلوجى الإسلامى يستخدمونة فقط للحشد الجماهيرى ليس أكثر فى الإنتخابات من أجل الوصول للسلطة لكسب مزيد من الأصوات و خداع الشعب بأسم الدين .
فتطبيق الشريعة الإسلامية لا يعنى تطبيق قواعد المعاملات التى وردت بالقرآن أو فى السنه أو فى أراء الفقهاء وشرح الشارحين, فذلك يعنى تطبيق أحكام الشريعة - التى هى كانت وقتية وليست مؤبدة - لا تطبيق الشريعة. أما تطبيق الشريعة فيعنى إعمال الرحمة و جعلها منهجا عاما فى كل شىء بحيث تهيمن الرحمة على كل حكم و أن تطبع كل قاعدة و أى تطبيق أو تفسير , وأن تكون هى الأساس فى النص واللفظ والتعبير. فشريعة الرحمة تعنى التيسير على الناس ورعاية المصالح العامة والموازنة بين الحقوق والنظر إلى ظروف العصر وعدم التضييق على المؤمنين. ونحن لا نجد مانعا أن يكون تطبيق الشريعة بمعنى تطبيق الرحمة والتى تعتبر جوهر حقوق الإنسان .
و عليه ( فالشريعة تعنى المنهج ) و شريعة محمد هى الرحمة . وتطبيق الشريعة يعنى إعمال منهاجها فى الرحمة على كل حكم وفى كل واقعة بحيث تصبح الرحمة أساسا للدولة ومنهاجا للمجتمع ونبراسا للناس , والتى تتفق بشكل أساسى مع مفهوم حقوق الإنسان التى تستهدف الإنسان بشكل عام .
فإذا كان المقصود بتطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للمفهوم الحقيقى للشريعة فى القرآن الكريم وهو ( الرحمة ) و التى هى بهذا المفهوم الحقيقى لا تختلف مع الإعلان العالمى لحقوق الإنسان , فلا نجد مشكلة فى ذلك لأن هدفنا بالأساس هو الإنسان والتى يعتبر إعمال الرحمة فى تطبيق القانون هو جوهر حقوق الإنسان.
المراجع
1. الإسلام السياسى , للمستشار / محمد سعيد العشماوى.
2. أصول الشريعة, للمستشار / محمد سعيد العشماوى.
3. الشريعة الإسلامية و القانون المصرى , للمستشار / محمد سعيد العشماوى.
4. جوهر الإسلام , للمستشار / محمد سعيد العشماوى.
5. نقد الخطاب الدينى , للدكتور / نصر حامد أبو زيد
6. التفكير فى زمن التكفير , للدكتور / نصر حامد أبو زيد.
7. الإسلام السياسى و حقوق الإنسان فى المنطقة, مجلة رواق عربى العدد 60 لعام 2012( مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ).
8. حقوق الإنسان عبر الثقافات, مجلة رواق عربى ( مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان).
9. دستور يعيد النظام القمعى من جديد , مجلة رواق عربى العدد 63 لعام 2012 ( مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ).
10. العلمانية وسياسات الدولة تجاة الدين ( الولايات المتحدة الأمريكية , فرنسا , تركيا ) أحمد ت . كورو " الشبكة العربية للأبحاث و النشر " .
11. الإطار الدستورى لتطبيق نص المادة الثانية فى الدستور, المستشارة / تهانى الجبالى .
http://www.copts-united.com/article.php?A=110120&I=1654