مبارك فى مذكراته : ضربوا طائراتى أمام عينى.. فأقسمت أن يشربوا من نفس الكأس

الوطن

 لا يمكن المضىُّ قدماً نحو تفاصيل العمليات التى قام بها سلاح الجو المصرى فى حرب أكتوبر بقيادة محمد حسنى مبارك، دون الاطلاع على رؤية مبارك للحظة التى تعرّض فيها سلاح الجو هذا للتدمير الكامل فى هزيمة يونيو.. إن مبارك فى مذكراته «كلمة السر» التى تنشرها دار «نهضة مصر» وتنظم حفلاً لتوقيعها يوم ٢ أكتوبر القادم يروى، فى فصل خاص، ماذا حدث له وكيف تلقى هذا الخبر الصاعقة، وأين كان، وكيف تصرف، ثم يحلل أسبابه.

 
إن المذكرات التى أملاها مبارك على المرحوم الإذاعى القدير محمد الشناوى، وحرر نسختها الأولى فى ١٩٧٨، ثم عثر عليها وحققها وحرر نسختها الجديدة وكتب مقدمتها فى ٢٠١٣ الكاتب السياسى عبدالله كمال، لا تذهب مباشرة إلى انتصار ٦ أكتوبر، وحقيقة الضربة الجوية التى قادها مبارك؛ دون أن تمر على عملية إعادة البناء التى تمت خلال ست سنوات.. بدءاً من اللحظة التالية لهزيمة ٥ يونيو.
 
يقول مبارك فى مذكراته: «فى هذا اليوم، الأشد حزناً فى مراحل حياتى، وقعت أعظم هزائمى الوطنية والشخصية، فقدتُ سلاحى أمام عينى، وخسرت بلادى سلاحها الجوى ومُنيت بهزيمة عسكرية كبرى.. فى هذا اليوم أيضاً تحقق أهم مكاسبنا وواحد من أكبر انتصاراتنا على أنفسنا».
 
يعود صاحب المذكرات إلى هذا اليوم، بينما يسجل مذكراته بعد تسع سنوات من حرب يونيو إلى ما حدث حقاً يوم الهزيمة:
 
الوقت: الساعة السادسة من صباح الاثنين، الذى قُدّر له أن يحمل فيما بعد ولبضع سنوات، على امتداد الوطن العربى كله، صفة «يوم الاثنين الحزين».
 
المكان: قاعدة بنى سويف الجوية. كانت حتى ذلك التاريخ، مقر لواء القاذفات الثقيلة المكونة من طائرات «ت ى 16».
بعد ليلة من النوم المتقطع، هاجمنى خلالها أرق غريب، لم أدرك سببه على وجه التحديد. لقد أرجعت هذا الأرق إلى إحساس بتوتر الموقف العسكرى بيننا وبين العدو، وما قد يؤدى إليه من تتابعات محتملة. كنت أشك أننا حسبنا بدقة ما سوف يُؤمّن قواتنا المسلحة عموماً، وقواتنا الجوية بالذات إذا ما وقعت مفاجأة مؤسفة. لقد تحول هذا الشك فيما بعد إلى يقين، أيّدته الأحداث والوقائع.
 
كنت منذ عودتى من بعثتى الدراسية إلى الاتحاد السوفيتى، أتولى قيادة لواء قاذفات ثقيلة، وهو منصب كان يجرّ علىّ الكثير من المتاعب التى تخلقها «الشللية»، التى كانت منتشرة بشكل مرَضى على مستوى القيادة قبل 5 يونيو 1967. كان سلاحى الوحيد فى مواجهة هذا الوباء (الشللية) هو الانهماك فى العمل إلى الحد الذى لا يسمح لى أنا شخصياً بالوقت الكافى للتفكير فى تصرفات الشلل المحدقة بى، أو محاولة الرد على «المكائد» التى تُحاك ضدى، طمعاً فى الموقع القيادى الذى أتولاه.
 
إيجابياً، كان هذا الانهماك فى العمل من جانبى يؤدى بالضرورة إلى تحقيق نتائج عسكرية، لا يستطيع أشد الطامعين أن ينكر أثرها على الارتفاع بمستوى القدرة القتالية للواء الذى أتولى قيادته.
 
أذكر، بينما أستعيد شريط الأحداث التى عبرتها فى تلك الفترة المؤلمة، أننى أمضيت على سبيل المثال، ستة أشهر كاملة فى بدء تشكيل اللواء وإعداده، لا أغادر مقر قيادتى على الإطلاق، ولا أذهب إلى بيتى ولو لحظات عابرة.. وكنت أقضى ساعات النهار وجزءاً كبيراً من الليل فى عمل متواصل، لا أسمح خلاله لنفسى إلا بوقت محدود من النوم الخاطف، الذى يهيئ لى متابعة العمل من جديد.
 
رغم هذا الجهد المتواصل فإننى كنت أفاجأ مع بالغ أسفى بأن الشلل التى تحاصرنى فى كل مكان أوجد فيه، كانت تنتهز أى فرصة يتصورون خلالها بأننى غفلت لحظة واحدة عن ألاعيبهم المعرقلة.
 
فى مثل هذا المناخ المؤسف، كنت أتابع بقلق بالغ، أخبار التطور السريع فى الموقف العسكرى، وبجهد كبير كنت أسيطر على القلق الذى لو استسلمت له فإنه يؤدى بالمقاتل إلى أوخم العواقب، خصوصاً إذا كان يتولى موقعاً قيادياً له أهمية خاصة. وبمواصلة العمل، لا أعتقد أن أحداً قد فوجئ فى مقر قيادة اللواء، عندما رأونى أباشر مهمتى بمكتبى فى تلك الساعة المبكرة جداً من صباح الاثنين 5 يونيو عام 1967.
 
ويتكلم مبارك عن طبيعة المهام التى كان يكلف بها نفسه فى هذا المناخ: كانت أمامى يومياً مهمة قد يعتبرها غيرى من الزملاء قادة الألوية الجوية، مهمة عادية، بل ودون مستوى اهتمام قائد اللواء شخصياً، وهى مصاحبة مجموعة من الطيارين فى طلعة تدريب عادية. فى منهجى كان الأمر مختلفاً تمام الاختلاف: إن القائد الذى لا يُعنَى بالتدريب المستمر، الذى يحفظ لرجاله مستوى دائم الارتفاع والتجديد من القدرة القتالية، ولا يُشرف بنفسه على هذه المسئولية، ويتولى متابعتها شخصياً، قائد مقصر فى أداء واجبه.. أو هو لا يعرف حدوده ومسئولياته القيادية.
 
هكذا كنت فى غاية السعادة، وأنا أستقبل خمسة من طيارى القاعدة فى بنى سويف جاءوا يعلنون رغبتهم فى الطيران، لأنه مضى عليهم وقت طويل لم يطيروا. استجبت على الفوز لرغبة المقاتلين الخمسة، ووعدتهم بالاشتراك معهم، وتحددت بالفعل الساعة 9:5 (التاسعة وخمس دقائق) من صباح الاثنين 5 يونيو موعد الطلعة التدريبية المرتقبة.
 
كان كل شىء يبدو هادئاً وعادياً فى هذا اليوم. ولم يلُح فى الأفق العسكرى على الأقل ما ينذر أو يشير مجرد إشارة إلى احتمال وقوع الكارثة أو ما هو قريب منها.. ولم يرد للقاعدة من القيادة الجوية فى القاهرة، أى توجيه بمهام غير عادية، لهذا مضت الأمور فى مجراها الطبيعى بالنسبة لنا.
 
أقلعت الطائرة الأولى فى الموعد المحدد تماماً ودون تأخير أو تقديم ثانية واحدة. كان بعض الزملاء يعتقدون أن تلك الدقة نوع من «الحذلقة أو الحنبلية».. لم يكن الأمر كذلك. وهذه الدقة الزائدة فى احترام الجداول الزمنية للعمليات الجوية يعود إلى أن الحرب الحديثة، أثبتت، بتجاربها المتعددة، أن احترام الطيار المقاتل للجدول الزمنى المحدد لتفاصيل مهمته القتالية أمر لا فكاك منه، بل إن هذا الالتزام الحرفى هو الضمان الوحيد لنجاح المهمة التى عُهد للطيار بإتمامها.. وربما كان احترام الطيار المقاتل لهذا الجدول الزمنى، هو مفتاح النجاة، لا بالنسبة له وحده، بل بالنسبة لقواته الجوية بأسرها. لا أبالغ حين أقول إن تأخر الطيار دقيقة واحدة أو تقدمه عن الموعد المحدد له، قد يتسبب فى حدوث كارثة على المستوى الاستراتيجى للشعب الذى سلم للطيار أمانة الدفاع عن سمائه ضد العدو الجوى.
 
فى الساعة 9:15 كنا نصعد بطائراتنا الخمس، فوق سحاب منخفض لم يتجاوز ارتفاعه ثلاثمائة متر.. بعد خمس دقائق اهتزت أجهزة اللاسلكى فى طائرتى، بخبر وقع علىّ كالصاعقة. تم إبلاغى بأن القاعدة الجوية التى أقلعت منها منذ لحظات قد هوجمت. فعلتها إسرائيل إذن. قاعدتى الجوية تُضرب وأنا معلق فى الجو، عاجز عن صنع أى شىء، وقاذفاتنا الثقيلة التى يعرف العدو جيداً قدرتها التدريبية الرهيبة، تُدمر الآن وهى جاثمة على الأرض لا حول لها. وأبشع من هذا.. تلك الصفوة من خيرة الرجال، الذين أجهدت نفسى، وأجهدوا أنفسهم معى فى تدريبهم تدريباً متواصلاً للارتفاع بمستوى قدراتهم القتالية، استعداداً للحظة اللقاء بالعدو.. وها هى اللحظة قد حلت.. ولكن فى غير وقتها المناسب، وفى الظروف التى اختارها العدو، ورتب لها.. تُرى ما مصير هؤلاء المقاتلين الشجعان، الذين فاجأتهم طائرات العدو، وهم على الأرض؟
 
كان هذا بعد وقوع أول ضربة جوية معادية بخمس وثلاثين دقيقة كاملة. تساءلت: كيف ولماذا أضاع مركز العمليات الرئيسى هذا الوقت الثمين، دون أن ينذر باقى المطارات التى لم تكن قد تعرضت للقصف، فى أولى موجات الضربة الإسرائيلية التى بدأت فى التاسعة إلا الربع؟ خمس وثلاثون دقيقة بالكمال والتمام، كانت كافية لإنقاذ جزء لا يستهان به من قواتنا الجوية، بل كانت كافية مع حسن القيادة وسلامة التخطيط والتوجيه لتغيير نتيجة الضربة الجوية القاصمة، وبالتالى تغيير سير المعارك كلها، سواء فى الجو أو على مسرح العمليات البرى.
 
يأكلنى الغيظ والكمد، وأستغيث بجهاز اللاسلكى فى طائرتى، ولكن الجهاز لا ينطق. لا أحد يسمعنى. لا أحد يسعفنى حتى ولو بأطيب التمنيات. إن مركز العمليات صامت تماماً، وبرج المراقبة فى قاعدتى الجوية التى غادرتها مع رجالى الخمسة كان هو الوحيد الذى يرد علىّ محذراً من الهبوط بسبب تدمير الممرات معلناً عجزه عن إعطائى أية تعليمات بالاتجاه إلى مطار آخر يكون ما زال صالحاً للهبوط.
 
مرت بنا لحظات من الصمت الكئيب، ونحن نطير بلا هدف.. إلى أين نذهب؟ وفى أى مطار يستقر بنا المطاف؟ لم نكن نعرف، ولم يكن أمامنا وقتها إلا أن نطير ونطير حتى يفرغ الوقود من طائراتنا فتقع كارثة أو معجزة.. وفجأة دبت الحياة فى جهاز اللاسلكى.. اتصال من مركز العمليات، وكان يطلب طلباً غريباً، بدا لى وقتها، وكأنه نوع من السخرية المرة، ونحن معلّقون فى الجو، بلا هدف نسعى إليه، وبلا مطار نثق فى بقاء ممراته سليمة وصالحة.
 
كان مركز العمليات قد ظن أنه بدأ يستجمع شتات «قدرته» على السيطرة، أو لعله فقدها نهائياً، فإذا به يطلب منا تنفيذ الخطة «فهد». كدت ألعن محدثى. أى «فهد» هذا الذى يطلبون منى تنفيذه بعد أن ضُربت قاعدتى الجوية، وطائراتها على الأرض، وأنا معلق فى الجو مع زملائى؟! ولم أجد فى هذا الطلب الهازل ما يستحق عناء التفكير فى مجرد الرد عليه حتى بالرفض.
 
كان غضبى ساعتها هائلاً من هذه القيادة التى تذكرتْ فجأة، ولكن بعد فوات الأوان، أن هناك خطة اسمها «فهد» وأن هذه الخطة يُمكن تنفيذها، ويُمكن عن طريقها أن نلقّن العدو درساً قاسياً.. ولكن متى.. وكيف؟ لقد ضاع الوقت.
 
مجدداً، سيطرت على الغضب، وبتفكير فورى، حسمت أمرى.. هؤلاء الرجال الخمسة يجب الحفاظ على سلامتهم، والاحتفاظ بطائراتهم إن أمكن. إن الضربة التى دمرت قاعدتنا الجوية فى بنى سويف تعنى كذلك أن المطارات المتقدمة فى القاهرة والدلتا وسيناء قد دُمرت تماماً.. ولكن لا مجال لليأس، فلنسرع بالصعود إلى مصر العليا. وأغلب الظن أن مطار الأقصر لا يزال سليماً، فليكن هو محطة الوصول التى نلجأ إليها مؤقتاً لكى نتزود بالوقود والذخيرة اللازمة، ثم نعاود الطيران، أملاً فى الإسهام بجهد فى المعركة بهذه الطائرات الخمس.
 
أصدرت أمرى بالاتجاه إلى الأقصر، لأفاجأ بعد هبوطنا بتعذّر إمدادنا بالوقود لعدم وجود المعدات اللازمة للتموين واستحالة إمدادنا بالذخيرة اللازمة، لأنه لا توجد بالمطار ذخيرة. وضاع الوقت فى محاولة استخدام وسائل بدائية لتزويد الطائرات بالوقود، وفى الاستعانة بمركز العمليات للبحث عن وسيلة لإمدادنا بالذخيرة اللازمة لاشتراكنا فى المعركة، إن كانت لا تزال هناك فرصة للاشتراك فيها.
 
وبينما نحن فى هذا الوضع المزرى أقبلت الطائرات الإسرائيلية، وبدأت عملية قصف المطار. كان هناك عدد من الطائرات المدنية التابعة لشركة مصر للطيران وبعض طائرات النقل الثقيلة التابعة للقوات الجوية.. وقد بدأت الطائرات المعادية بتدمير طائراتنا الخمس القاذفة الثقيلة لكى تُفرّغ من قدرتها التدميرية، ثم تحولوا إلى باقى الطائرات ومنشآت المطار لقصفها.
 
إن الحرب عمل مرير، مختلفة فى واقعها عما يمكن أن يقرأه عنها إنسان فى كتاب، أو يشاهدها فى فيلم سينمائى. لقد عشت الحرب فى تلك الساعة الكئيبة من صباح 5 يونيو الحزين بطريقة سلبية بشعة على نفسى كطيار مقاتل.. رأيت بعينى طائراتى الخمس، وهى سلاحى فى الحرب، تُدمر أمامى على الأرض وأنا عاجز عن استعمالها، عاجز عن حمايتها من الدمار.. كانت لحظة رهيبة لا تُنسى. وأحسست ساعتها أن فؤادى يتمزق تماماً، مثل الطائرات الخمس التى تمزقت أشلاء على أرض المطار.. إن الحزن الذى شملنى أنا ورجالى الخمسة لا يقدر على وصفه أو الإحساس به سوى طيار مقاتل فقد سلاحه مثلنا، دون أن يتمكن من استعماله.
 
بإرادة البقاء وحدها تحول الحزن الذى اجتاحنى إلى غضب لا حدود له.. ثم إلى قسم على الأخذ بالثأر. كان احتراق طائراتنا أمام أعيننا إهانة لا يغفرها إلا الجبان، ولا يمحوها الثأر.. لا بد أن نسقى إسرائيل من نفس الكأس، ولا بد لنا مهما طال المدى، أن نجرد طياريها من سلاحهم قبل أن يتمكنوا من استعماله.. ولا بد أن تذوق على أيدينا مرارة تدمير طائراتها وهى جاثمة على الأرض فى ضربة جوية قاصمة، لا تعرف الرحمة ولا تسمح للخصم بالإفلات من مصيره المحتوم.
 
بينما تؤلمنى هذه الذكرى، قد يكون مدهشاً أن أقول إن تلك الضربة المدمرة قد سببت لنا نحن الطيارين المصريين عكس ما اعتقدت إسرائيل. تصور العدو أن هذه الضربة القاصمة ستؤدى إلى حالة من اليأس يعجز المقاتل المصرى عن احتمالها، وتؤدى به فى النهاية إلى الإقلاع نهائياً، أو مرحلياً، ولفترة طويلة، عن التفكير فى خوض مواجهة جوية مع هذا الشبح المخيف الذى تطلقه إسرائيل فى الجو على هيئة شياطين لا يعرف أحد من أين تأتى، ولكنه يتعذب من وقع ضرباتها الملتهبة القاصمة.
 
هذا الحلم الإسرائيلى الكبير تحول إلى وهم أكبر تبدد فى نفس اللحظة التى تمت فيها الضربة المفاجئة للطيران المصرى فى جميع المطارات المصرية التى تلقت الضربة الجوية، كان جميع الطيارين الذين شاهدوا بأعينهم طائراتهم تحترق أمامهم وهى جاثمة على الأرض يرددون نفس القسم الذى تعاهدتُ عليه مع رجالى الخمسة فى مطار الأقصر: الثأر.. ولا شىء غير الثأر يمحو الإهانة التى تلقاها نسور مصر الذين حُرموا من أجنحتهم فى ذلك اليوم.
 
لم يكن الذى احترق يوم ٥ يونيو هو الجزء الأكبر من سلاحنا الجوى وحده، ولكن الذى احترق بالفعل، وكما أثبتت عمليات أكتوبر المجيدة، هو الأسلوب القديم فى قيادة الطيران المصرى، تخطيطاً وتنفيذاً على جميع المستويات التكتيكية والاستراتيجية.
 
لقد نسفت قنابل الطائرات الإسرائيلية، التى تساقطت فوق مطاراتنا يوم 5 يونيو «الشللية»، والأخطاء الكبيرة، والتستر على تلك الأخطاء.. كما أنها حرقت الجهل بفنون القتال الحديث لكى تفسح الطريق، دون قصد منها طبعاً، لجيل جديد من الرجال يملك العلم والقدرة المرتفعة على التخطيط والتنفيذ على أعلى مستوى قتالى معاصر، ويملك قبل كل شىء الرغبة فى الانتقام. ورب ضارة نافعة. وصدق الله عز وجل حين قال فى كتابة العزيز «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».
 
فى مذكراته «كلمة السر» يعود مبارك إلى الأسباب التى دعته إلى كتابة يوميات سلاح الجو بين عامى ١٩٦٧ و١٩٧٣.. ويفسر لماذا قرر ذلك فى عام ١٩٧٨: أكتب هذه المذكرات انطلاقاً من شعورى بالمسئولية تجاه المواطن المصرى، والقوات الجوية، والقوات المسلحة المصرية كلها، واستجابة لمسئوليتى تجاه التاريخ والحقائق التى يجب أن يطلع عليها الجميع.
 
وأشعر بفداحة تلك المسئولية منذ نبتت فكرة هذا الكتاب الذى يحكى ملحمة الطيران المصرى كاملة، بدءاً من ضربة الخامس من يونيو عام 1967، حتى ضربة «صدام» التى استعاد بها الطيار المصرى سمعته كمقاتل جرىء ومقتدر، فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973. إن المرجع الأساسى لذلك الإحساس هو ذلك الرصيد الهائل من الإعلام الإسرائيلى، الذى امتزج فيه قدر محدود من الحقائق بقدر لا محدود من الأكاذيب والخيالات التى صيغت بذكاء شديد.
 
وفى أغلب فصول مذكراته يبدو مبارك مهتماً للغاية بالتأثيرات النفسية والمعنوية لهزيمة ٥ يونيو كما لو أن الضربة الجوية التى جهز لها فى يوم ٦ أكتوبر كانت تستهدف تحقيق الانتصار المعنوى والنفسى قبل أن تحقق الانتصار العسكرى.. يقول: لقد نجح الإعلام الإسرائيلى فى تحويل ضربة إسرائيل للطيران المصرى صباح 5 يونيو 1967 من مجرد خطة عادية -إذا قيست بالمقاييس العسكرية المحايدة والموضوعية- فى إطار الظروف التى تمت خلالها الضربة على جانبى الصراع، إلى أسطورة خيالية تروى أمجاداً خرافية لواضع الخطة «مردخاى هود» وهيئة عملياته العسكرية.
 
لقد عُرفت تلك الضربة فى الملفات السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية باسم «طوق الحمامة»، ويعود القدر الأكبر من النجاح الذى حققته إلى هذه الصدمة النفسية التى أصابت جماهير شعبنا المصرى، وأمتنا العربية كلها، وهى ترى «أكبر قوة جوية ضاربة فى الشرق الأوسط» -كما كانت القيادات العسكرية المصرية السابقة تُصرح دائماً- تتحطم وهى جاثمة على الأرض، فى ضربة سريعة لم تتجاوز منذ بدايتها فى الساعة 8:45 صباحاً إلى نهايتها نحو الساعة العاشرة، ساعتين فقط.
 
عامل آخر ساعد على إشاعة الجو الأسطورى حول ضربة إسرائيل للطيران المصرى، وهو الأقاصيص والحكايات المبالغ فيها كثيراً، والتى رواها الجنود العائدون -على أقدامهم- عبر سيناء، تنفيذاً لقرار الانسحاب الذى أصدرته القيادة العسكرية للقوات البرية فى الوقت الذى فقدت فيه هذه القوات أى حماية جوية، فأصبحت خلال عمليات الانسحاب المتسرع غير المنظم مكشوفة تماماً للعدو الجوى، ومعرضة لطيرانه الذى أسكرته نشوة النصر المذهل -حتى بالنسبة لأكبر المتفائلين فى قيادة الطيران الإسرائيلى- فمضى الطيارون الإسرائيليون يعربدون فى سماء سيناء، ويعبثون بالقوات البرية المصرية العائدة، وهم فى مأمن من أى حساب أو عقاب رادع.
 
ويُضاف إلى ذلك عامل أخير، لعله فى تقديرى أخطر هذه العوامل جميعاً، وهو تلك الأعداد الهائلة من أبناء مصر -سكان مدن القناة- الذين تحولوا مع تصاعد العمليات القتالية على جبهة السويس إلى مُهجّرين، موزعين فى معظم مدن مصر وقراها، وما حمله معهم هؤلاء الإخوة من قصص العدوان الإسرائيلى المتغطرس، والذى كان طيران إسرائيل يمثل رأس الحربة فى كل عملياته.
 
إن رؤية المواطن المستقر فى داره وعمله، وسط أهله وأصحابه الذين عاش عمره بينهم، لأخ له فى الوطن، وقد أُرغم على ترك مسقط رأسه ومسرح حياته العملية والاجتماعية، ثم تحول رغماً عنه -وتحت وطأة عمليات عسكرية عدوانية- إلى مُهجّر يعيش فى معسكر أو مخيم، ويعيش على إعانة مهما تعاظم قدرها، فهى بالقياس إلى دخله الأصلى محدودة، ودون ما اعتاد أن ينفق على نفسه وذويه؛ هذه الصورة القاسية، حين يشاهدها المواطن المصرى -ويسمع بها أو يراها الإنسان العربى- بعد 5 يونيو 1967، كان لها فعل السحر الأسود فى نفسه، وربما بعثت إلى ذهنه ووجدانه على الفور، بصورة مماثلة طالما قرأ عنها أو سمع بها عام 1948، حين نجحت إسرائيل عشية إعلان قيامها كدولة، فى طرد الملايين من عرب فلسطين وأصحابها الشرعيين، وتحويلهم إلى لاجئين يعيشون فى المخيمات، على صدقات المجتمع الدولى.
 
وقد تضافرت مع هذه العوامل فى تحقيق الهدف النهائى، الذى سعى الإعلام الإسرائيلى عقب 5 يونيو إلى تحقيقه فى نفسية الإنسان العربى، وهو التهويل لهذه العملية العسكرية التى لا تخرج فى التحليل العلمى عن منهج من الفكر العسكرى الألمانى والإنجليزى -مع بعض الإضافات اليسيرة التى تتفق مع طبيعة وتكوين العقلية العدوانية المسيطرة على قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية- وحصيلة كل هذا أن تحول الطيران الإسرائيلى إلى خرافة وتحول الطيار الإسرائيلى إلى شبح، تنسج مخابرات العدو حوله الأساطير، وتشيعها عبر أجهزة الإعلام العالمى.
 
وإذا كنا -نحن العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص- نعيب على الإسرائيليين، عسكريين وساسة، تلك المستويات الرهيبة من الغرور والغطرسة التى لا تطاق، والتى استولت عليهم فكراً وسلوكاً، عقب انتصارهم المفاجئ والمذهل، الذى حققوه بأبخس الأثمان، فإننا لا نرضى لأنفسنا -نحن المصريين بالذات- أن يؤخذ علينا ما عبناه على خصمنا، فنستسلم لنشوة النصر الذى حققته قواتنا المسلحة -بجميع أفرعها- يوم 6 أكتوبر، بحيث قضت فى ست ساعات على أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر، فإذا به، بشهادة العدو قبل الصديق، وبعد ست ساعات فقط يترنح من هول الضربات التى كالها له المقاتل المصرى جواً وبراً وبحراً.
 
ومع يقظتنا الكاملة لهذا المنزلق العاطفى الخطر، الذى يمكن أن يجرنا إليه الإحساس القوى بالنصر الساحق الذى زلزل كيان العسكرية الإسرائيلية.. فإننا -مع كل التواضع الذى تمليه الثقة الكاملة بالنفس، والإيمان الراسخ بالقدرة القتالية الهائلة للجندى المصرى- لا يسعنا إلا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهى أن إسرائيل تؤمن إيماناً راسخاً، بأن عدوها الأول، وخصمها الأخطر شأناً، والأثقل وزناً، هو مصر، وشعبها الأمين.. ذلك الشعب الذى ظل ثابتاً على أرضه كالطود الراسخ يحمى حضارته التى زرعها فى وادى النيل، وحماها ضد موجات الغزو الأجنبى، التى تكسرت على شاطئ صلابة المصريين طوال عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث.
 
فى مذكراته المهمة تلك يؤصل مبارك، نائب الرئيس الأسبق وقت كتابتها، للأسباب التى يعتقد أنها أدت إلى تعامل إسرائيل مع مصر باعتبارها الخصم الأخطر.. يقول: السبب الأول عسكرى بحت، تمثل فى تكثيف الضربة الموجهة إلى جيش مصر وطيرانها، بحيث أدى هذا التكثيف فى حجم الضربة والعناصر التى استُخدمت فيها -حيث ألقت إسرائيل بكل ثقلها العسكرى تقريباً جواً وبراً على الجبهة المصرية- إلى إحداث شلل مفاجئ فى القيادة المصرية. إن هذا أدى، مع عنصر المفاجأة، إلى ما أدى إليه من هزيمة ساحقة، وغير طبيعية فى نفس الوقت، خرجت بها مصر مهزومة من معركة لم تقم فى الواقع. وكانت النتيجة الحتمية، بعد أن خلا مسرح العمليات من الوجود المصرى الذى تحسب له إسرائيل ألف حساب، أن تفرغت العسكرية الإسرائيلية لباقى أطراف الصراع، على الجبهتين السورية والأردنية، وهى واثقة تماماً من تحقيق النصر، بعد أن فرغت من خصمها الألدّ، وعدوها الأخطر: مصر وجيشها.
 
المنطق الثانى أخذ شكل الحرب النفسية المسعورة، التى شنّها الإعلام الإسرائيلى بلا هوادة أو رحمة، واستهدف بها تحطيم معنويات الإنسان المصرى -باعتباره الركيزة الأولى فى الصراع العربى- الإسرائيلى، فإذا نجح هذا الإعلام فى زعزعة هذا الإنسان المصرى، وخلخلة بنائه النفسى الصلب، فإنه يفقد ثقته بنفسه وثقته بقواته المسلحة، وبقدرة هذه القوات على شن هجوم مضاد، لتحرير أرضه المحتلة، وبالتالى ينهزم نفسياً حتى النخاع، بعد هزيمة عسكرية لا مجال للتشكيك فيها، ومن ثم سينطوى على نفسه، ثم تتجه حركته -إذا قُدر له أن يتحرك- فى اتجاهين مدمرين، أولهما: فقدان الثقة فى قيادته السياسية التى انتهت به إلى هزيمة ساحقة، وما يتبع فقدان الثقة من تمزق وانفجارات تؤدى فى النهاية إلى انهيار الجبهة الداخلية التى أذهلت كل الخبراء والمحللين العالميين بصلابتها الأسطورية عام 1967 وما تلاها من سنوات الصمود.
 
إن الخطر الأكثر تدميراً هو موقف الإنسان المصرى فى قضية الصراع العربى- الإسرائيلى كان يكمن فى احتمال عاشت إسرائيل، ولعلها لا تزال تحلم به، بأن تؤدى الخسائر التى مُنى بها الشعب المصرى كنتيجة حتمية لضربة 5 يونيو، إلى وقوفه موقف المتشكك المرتاب فى القضية كلها، وأن ينتهى به هذا الموقف المتردد إلى رفض كامل فى النهاية، يعقبه انعزال مصر عن القضية برمتها. وتلك أعذب أمنيات الفكر الإسرائيلى؛ أن تنجح فى الوقيعة بين الإنسان المصرى وبين أمته العربية جمعاء، وقيعة تنتهى إلى انعزال مصر وخروجها من حلبة الصراع نهائياً، لكى يخلو الجو لإسرائيل، تعربد فيه كما تشاء، وتصنع بالمنطقة ما تريد، وتعيد رسم خريطة المشرق العربى على هواها.
 
لعل هذا يفسر لنا ضراوة الإعلام الإسرائيلى فى هجومه المخطط المدروس بإحكام ودقة بالغين، على عقل الإنسان المصرى وعاطفته معاً، هجوماً استخدمت فيه كل وسائل الإعلام الحديث، وجندت له كل أساليب الحرب النفسية الحديثة.
 
عشرات الكتب والمؤلفات التى تتحدث عن «حرب الأيام الستة» قدمت لها وزارات الدفاع والخارجية والإعلام الإسرائيلى كل الإمكانيات والتسهيلات الوثائقية والمادية، وعشرات الأفلام (التسجيلية والروائية) التى تم إنتاجها ببذخ خرافى، وبحرفية سينمائية بالغة الدقة والذكاء، تصور كلها بطولات جيش الدفاع الإسرائيلى، وتتغنى بأمجاد «طيران إسرائيل»؛ ذراعها الطويلة ذات المخالب الجهنمية القادرة على سحق أى هدف فى أعمق أعماق الوطن العربى، وخاصة فى ربوع خصمها اللدود الخطير؛ مصر. مئات -ولا نبالغ إذا قلنا آلاف- المقالات والأبحاث العلمية والندوات التى تنشرها أو تذيعها وتعرضها وسائل الإعلام يتغنى كتّابها ومذيعوها «المحايدون» -كما يسمون أنفسهم- بأمجاد العسكرية الإسرائيلية، من ناحية، ويسخرون بهزال العرب وضعفهم وتخلفهم من ناحية أخرى.
ثم.. أخيراً وليس آخراً؛ هذا السيل الرهيب من الأقاصيص المصنوعة -داخل مكاتب المخابرات الإسرائيلية- عن بطولات رهيبة، وقدرات أسطورية لجيش «الدفاع» الإسرائيلى وطيرانه الرهيب. ولعل هذا اللون الأخير من ألوان الحرب النفسية التى شنّها العدو ضدنا، عقب 5 يونيو، كان أخبث وسائلها على الإطلاق، لأنه كان يسعى إلى تحقيق هدفين واضحين منذ البداية: غرس الفزع فى نفس الإنسان المصرى -مدنياً كان أو عسكرياً- من هذه المقولة الخرافية «الذى لا يُهزم أبداً»، ثم قتل الثقة والاحترام اللذين يكنّهما المواطن المصرى لجيشه، عن طريق سيل متلاحق من النكت المرّة التى تسخر من المقاتل المصرى ومن قدرته على الصمود فى الميدان وعجزه عن مواجهة المقاتل الإسرائيلى، سواء تمت هذه المواجهة على الأرض أو فى السماء.
 
من الحقائق المسلم بها -فى الفكر العسكرى قديمه وحديثه- أن العدو الذى ينجح، عن طريق الحرب النفسية، فى نشر الفزع فى صفوف المدنيين على الجهة المعادية، ثم تصعيد هذا الفزع إلى احتقار للجيش الوطنى والسخرية منه وعدم الثقة به؛ يضمن فى النهاية النصر الكامل والساحق لقواته عند أول مواجهة له مع الخصم الذى نجح فى تدمير معنويات شعبه.
 
هذه الحقيقة التى جرت الآن مجرى البديهيات فى الفكر العسكرى، كانت نقطة البداية -كما سيتضح فى تلك المذكرات- عندما تحركت العسكرية المصرية بقيادتها الجديدة -بعد 5 يونيو مباشرة- لتحقيق الصمود النفسى أولاً للمقاتل والإنسان المصرى، قبل أى خطوة على الطريق الشاق الطويل الذى انتهى إلى معارك السادس من أكتوبر المجيدة.
 
ورغم ما حققه جيش مصر البطل -بكل أنواعه وأسلحته- من بطولات فى السادس من أكتوبر تُعتبر، كما قال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، «معجزة عسكرية بأى مقياس من مقاييس الفكر العسكرى» فإن ضراوة الحرب النفسية التى شنها علينا العدو عقب 5 يونيو وقبل 6 أكتوبر كانت مثار اهتمام كل مصرى، سواء فى أعلى مستوى من مستويات القيادة السياسية والعسكرية، أو لدى المواطن المصرى العادى.
 
وفى كتابه هذا، يصر مبارك على ألا يعتبر ما حدث فى يوم ٥ يونيو «معجزه» أو ضربة «أسطورية» كما حاولت إسرائيل أن تصورها.. يقول: كنا كعسكريين نعرف جيداً على الطبيعة -ودون تأثر بعوامل التحامل أو التحيز الوطنى ضد عدونا أو لصالح قواتنا المسلحة- أن ما حدث فى 5 يونيو، ليس معجزة مطلقاً، ولا هو خارقة من الخوارق التى تستحيل مجاراتها أو اللحاق بها. وكانت القيادة العسكرية المصرية، التى تولت مسئولية وشرف الإعداد للسادس من أكتوبر، تعرف بحكم دراساتها العليا، وتمكنها من فنون الفكر العسكرى -سواء فى معاهد الغرب أو الشرق- أن ما حدث فى معارك 5 يونيو، مجرد استغلال جيد لظروف معينة وُجدت على جانبى جبهة الصراع، وهو أمر لا يشكل عبقرية عسكرية، ولا يستأهل كل ما نُسج حوله من أساطير وخرافات، بلغ من شيوعها أن الإسرائيليين أنفسهم وهم الذين صنعوها لكى يرعبوا بها العرب ويخدّروهم عن واقعهم، وقعوا فى نفس المصيدة، والتقطوا بغباء غريب عليهم فعلاً، نفس الطعم الذى أجهدوا خبراءهم فى صنعه واختلاقه لكى تلتقطه شعوب الأمة العربية، وفى مقدمتها شعب مصر.
 
ولقد وصل بهم خداع النفس -القائم على الغرور والغطرسة والاستسلام دون وعى لنشوة النصر غير الطبيعى بينما قادة إسرائيل يعرفون بينهم وبين أنفسهم أن نصرهم فى 5 يونيو كان غير طبيعى فى مجمله- أقول: وصل بهم خداع النفس إلى الحد الذى دفع بأحد قادتهم العسكريين الكبار (رئيس الأركان ديفيد أليعازر) إلى أن يصرح قبيل 6 أكتوبر، للصحافة العالمية، بأن «البحر الأحمر قد أصبح -بفضل الطيران الإسرائيلى ذراع إسرائيل الطويلة القوية- بحيرة إسرائيلية.. وعلى العرب جميعاً أن يوطنوا أنفسهم على هذا كأمر واقع يتصرفون على ضوئه».
 
لو أننا وزنّا هذا التصريح لقائد عسكرى كبير -مفروض فيه أنه يحترم نفسه ويحترم كلامه- بموازين الفكر العسكرى السليم وقواعده العلمية لوجدنا أنفسنا أمام احتمالين لا ثالث لهما:
 
الأول: أن يكون «أليعازر»، حين ألقى بهذا التصريح، قد استوثق تماماً من وصوله بقواته -بجميع أسلحتها- إلى المستوى الذى يستحيل معه أن تلحق بها أية هزيمة عسكرية، سواء من حيث مستوى الإعداد والتدريب، أو من حيث مستوى التسليح كماً وكيفاً.. كما أن عليه فى نفس الوقت أن يستوثق -عن طريق استخباراته العسكرية- من أن قوة خصمه لم تتصاعد بأى حال إلى المستوى الذى يُشكل لجيشه تهديداً أو شبه تهديد عند حدوث أى اشتباك.
 
وإذا صح للقائد العسكرى -الذى يحترم نفسه، ويحترم عقل قواته- أن يفاخر بارتفاع قدراته القتالية، فإن مسئوليته كقائد ومفكر عسكرى تفرض عليه أن يتناول كل ما يتصل بخصمه بحذر شديد، لأن التجارب العملية أثبتت دائماً أن أى خصم مهما كان شأنه عنده دائماً ما يخفيه عن أكثر العيون قدرة على التلصص وأكثر الآذان تدريباً على التسمُّع. فإذا أغفل القائد العسكرى هذه الحقيقة البسيطة فقد وضع بنفسه أول طوبة فى بناء بشع اسمه «الفشل».
 
الاحتمال الثانى، الذى يُمكن تفسير كلام القائد الإسرائيلى على ضوئه: أن تكون أجهزة الحرب النفسية فى إسرائيل قد وصلت فى ممارستها فى مهمتها ضد العرب عموماً ومصر وشعبها خصوصاً، إلى درجة التشبع، بحيث تحولت بمهامها الدعائية -دون أن تدرى- إلى عقول القادة الإسرائيليين أنفسهم، فإذا بهم يصدقون الأكاذيب التى اختلقوها حول القوة الأسطورية لجيشهم الذى لا يُغلب.. وإذا بكبيرهم -فى ذلك الوقت- «ديفيد أليعازر» يدلى بتصريحه الغريب.
 
ولم يكن أليعازر وحده الذى أُصيب بحمى الغرور، فقد كان هناك سباق عجيب بين قادة إسرائيل -العسكريين والسياسيين على السواء- فى إلقاء مثل هذه التصريحات الخالية من أى تعقُّل، لو وزنّاها بأى ميزان فكرى سليم على المستويين العسكرى والسياسى.
 
إن «حاييم بارليف» -صاحب الخط الشهير الذى أنفقت إسرائيل على إقامته وتحصينه مئات الملايين من الدولارات ثم انهار بعد ساعات ست من الضربات القاسية التى كالها له المقاتل المصرى الشجاع المدرَّب جيداً، المسلَّح جيداً- «حاييم» هذا، يصرح يوم 5 فبراير 1971 لوكالة الأنباء الفرنسية، بقوله: «ليست لدى المصريين أدنى فرصة للنجاح، إذا هم حاولوا عبور القناة، من المؤكد أن لديهم الوسائل اللازمة لمثل هذه المهمة، ولديهم خطط للعمل، ولكن ما ينقص مصر هو الجيش الذى يستطيع أن يخطط، وينفذ، ويقاتل».
 
ثم يعود فى 8 مارس عام 1973 ليصرح بقوله: «أقول باختصار: إذا استأنفت مصر القتال، فإن إسرائيل لن تخسر موقعاً واحداً».
 
وقد كان «موشى ديان»، فيلسوف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، الذى تحطم هو وكل نظرياته عن «الأمن الإسرائيلى» فوق صخرة 6 أكتوبر، يؤكد دائماً وفى كل مناسبة بأن «مصر لن تحارب قبل عشر سنوات إذا هى فكرت فى الحرب فعلاً».. وهو أيضاً القائل: «إن الجبهة المصرية لا تستحق من جهد جيش إسرائيل أكثر من ستين دقيقة».
 
فى تقديمه لكتابه يعلق مبارك على مجموعة التصريحات والأحاديث الإسرائيلية التى انهمرت على مصر والدول العربية.. يقول عنها: لم تكن هذه التصريحات تعنى عند العسكرية المصرية سوى معنى واحد؛ أنه حدثت بالتدريج، وبدون قصد من العدو -وبقصد كامل من جانبنا- عملية تبادل للمواقع النفسية. وإذا سلمنا بأن السلوك البشرى -كما هو فى الواقع والتحليل العلمى- رد فعل عملى للدوافع النفسية والاقتناعات العقلية؛ فإن تصريحات قادة إسرائيل، بكل صلفها وغرورها، كانت تعنى بالنسبة لنا نحن المصريين، أننا -قبيل معارك 6 أكتوبر- قد نجحنا فى تبادل المواقع النفسية التى كنا نحتلها -قبل 5 يونيو- فتركنا موقع الغرور والتفاخر والمظاهرات السياسية الهوجاء للإسرائيليين، وأخذنا بدلاً منها موقع الحذر، والعمل الدائب فى صمت، والتخطيط العلمى المدروس فى الخفاء.
 
كانوا يدركون قوتهم، ويبالغون فى إحساسهم بهذه القوة فى الإعلام -بل الإعلان- عنها، وكنا نصمت غالباً.. وإذا اضطررنا للكلام، فبالقدر الذى لا يشيع اليأس فى نفس المواطن المصرى والعربى، ولكنه لا يساعد فى نفس الوقت على تنبيه العدو إلى مستوى خطر -بالنسبة له- من مستويات التدريب أو التسليح، نكون قد نجحنا فى تحقيقه.
 
وكانت حمى التصريحات التى انتابت قادة إسرائيل متفقة تماماً مع الأهداف الخفية للعسكرية المصرية، ولكن خطرها الذى كنا نعمل له ألف حساب، هو تأثيرها على المواطن المدنى، الذى لا يعلم ما نعلمه -نحن العسكريين- سواء بالنسبة لقوة العدو، أو لقوتنا المتزايدة باستمرار.
 
ومن هنا كان الإحساس الخطير بالمسئولية، عن ضرورة نجاح إعلامنا العسكرى بالذات فى تحقيق المعادلة الصعبة التى تتمثل فى الاستمرار فى خداع العدو المغتر بقوته، المنتشى بنصره السريع فى 5 يونيو 1967، مع الحفاظ فى نفس الوقت على الدعائم الضرورية لسلامة نفسية المواطن المدنى، والاحتفاظ له بالقدر الكافى من الثقة فى قواته المسلحة، ثقة تصد عنه الهجمات الضارية التى تشنها عليه أجهزة الحرب النفسية لدى إسرائيل.
 
وللحقيقة والتاريخ؛ فقد كانت تلك عملية شاقة على جميع الأطراف، سواء بالنسبة لأجهزة الإعلام عامة، والإعلام العسكرى خاصة، أو بالنسبة للمواطن المصرى الذى استمد من شجاعته وصلابته الأصيلة القدرة على الصمود فى مواجهة الحرب الدعائية للعدو، وعدم الاستسلام للسموم الخبيثة التى كانت أجهزة العدو المدرّبة، تبثها بجميع الوسائل المستحدثة.
 
وأخيراً.. حلت ساعة الصفر، التى استبعد العدو مجيئها، بينما عاشت الملايين فى مصر والأمة العربية كلها تتحرق شوقاً للقائها. وفى الساعة الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973، وتنفيذاً لأمر القائد الأعلى الرئيس السادات، عبرت مائتان وعشرون من طائراتنا القاذفة الثقيلة، والقاذفة، والقاذفة المقاتلة، عدا طائرات الحماية والاعتراض.. عبرت كلها وفى ثانية واحدة، وطبقاً للخطة، «صدام» الخط «س» فى نفس اللحظة، لتنطلق بعده إلى مواقع العدو وشرقى القناة كى ترد له الدَّين الذى فاجأها به منذ ستة أعوام فى الخامس من يونيو عام 1967.
 
وفى الثانية والثلث -وبعد مُضىّ عشرين دقيقة تقريباً، كنت فى غرفة العمليات، أستقبل «التمام» من مختلف القواعد الجوية، لكى أعيد إبلاغه فى نفس اللحظة للقائد الأعلى فى غرفة العمليات المركزية. لقد نجحت الضربة «صدام» فى تحقيق أهدافها ضد العدو بنسبة تجاوزت 95٪ ولم تتجاوز خسائر قواتنا الجوية فى هذه العملية المركزة، نسبة 1٪ فقط، رغم أن عدد الطائرات المشتركة فيها قارب الثلاثمائة.. وهى نتائج تُعتبر وسام شرف لأية قوة جوية فى العالم، لأنها حطمت جميع الأرقام القياسية العالمية السابقة، سواء فى عدد الطائرات المشتركة فى ضربة واحدة، أو فى نسبة تحقيق الأهداف ضد العدو، أو هبوط نسبة الخسائر بين القوة المهاجمة.
 
وبمجرد أن تأكدت القيادة العليا من نجاح الضربة الجوية المكثفة «صدام» دارت آلة الحرب الجهنمية، وتحركت جحافل المقاتلين المصريين تعبر القناة، وتلتحم بجنود الجيش الذى كان لا يُقهر. وتتوالى المعارك لتؤكد بطولة وفعالية المقاتل المصرى الذى يشعر بالأمن والثقة لأن قواته الجوية، التى أخذت الدرس والعبرة من أخطاء 1967، قد صممت على الانتقام. ولقد اعترف العدو نفسه، وشهد العالم أجمع: المراسلون الحربيون، والخبراء العسكريون، بأن الطيار المصرى المقاتل أثبت وجوده بجدارة وفاعلية -خلال معارك أكتوبر- سواء فى الضربة الأولى التى فاجأت العدو وحطمت له مراكز القيادة والسيطرة، ومراكز الإعاقة والتشويش، ومواقع بطاريات الصواريخ «هوك» المنتشرة شرقى القناة، أو فى طلعات المعاونة الجوية للقوات البرية فى زحفها المنتشر على أرض سيناء، أو فى معارك الاعتراض والقتال الجوى، ضد طيران العدو، الذى حاول اختراق مجالنا الجوى طوال أيام القتال.
 
وفى كل هذه المجالات كان الطيار المصرى المقاتل حريصاً على أن يكتب بعرقه ودمه -بل وبحياته شهيداً- لوحة جديدة فى ملحمة الطيران المصرى، التى كانت بدايتها صدمة 5 يونيو 1967، ونقطة الوصول السعيدة ظهر السادس من أكتوبر 1973.
 
وهنا أستطيع أن أجيب عن السؤال الذى طرحته فى بداية هذه المقدمة: هذا الكتاب.. لماذا ؟!
 
لقد عمدت أجهزة الإعلام الإسرائيلية عشية «حرب الأيام الستة» -كما سموا معارك 5 يونيو- إلى التهويل الأسطورى الذى يقترب من حد الخرافة، فى حديثهم عن الضربة الإسرائيلية للطيران المصرى.. ولولا صلابة الإنسان المصرى عقلاً وعاطفة، لانهار بناؤه النفسى أيام هذه الحرب النفسية الضارية. وإذا كان الطيران المصرى قد استطاع أن ينتقم لنفسه فى 6 أكتوبر، وأن يرد الصفعة بصفعات أشد عنفاً وقسوة على العدو المتغطرس؛ فإن الواجب نحو الطيار المصرى المقاتل، الذى كتب خاتمة سعيدة ومشوقة لملحمة بدأت بداية حزينة فى 5 يونيو 1967، يحتّم أن يعرف أهله وذووه، ماذا فعل لهم ومن أجلهم.. فى معارك السادس من أكتوبر.
 
هذا الكتاب أيضاً يفرضه الواجب نحو المواطن المصرى العادى الذى عاش سنوات وسنوات، وهو أسير خوف غامض، من عدو أسطورى له ألف ذراع اسمه الطيران الإسرائيلى الذى صورته الدعاية الإسرائيلية، على أنه تنين خرافى له مخالب لا نهاية لطولها، ولا راد لقوتها، ولا مُعقب لحكمها وإذا كان هذا المواطن المصرى الشجاع -الصلب الإرادة صلابة تحطمت على جدرانها كل دعايات العدو وسمومه- قد صمد فإن ما حققه الطيران المصرى من نجاح فى المعركة، يمثل جانباً من الجزاء لصبر هذا المواطن الصبور، ولكن جزاءه الأوفى يتمثل فى اطلاعه على الصورة الكاملة لملحمة طيرانه المصرى، منذ لحظة القيام من الصدمة، إلى سنوات الإعداد الصامت إلى لحظة الصدام الخالدة التى تحطمت فيها أسطورة الطيران الإسرائيلى الذى لا يُقهر.
 
من هنا يأتى الإحساس بالمسئولية أمام المواطن المصرى بكل صبره وجلَده، وبكل تضحياته الشجاعة فى سنوات الإعداد للمعركة، وخلالها، وبعد أن توقف القتال فى انتظار الحل الشامل العادل للقضية.
 
فحق هذا المواطن الذى ضحى أن توضع الصورة كاملة بين يديه، بلا تهوين من أمر العدو -كما فعل خصمنا الذى اعتز بنصره عام 1967- ودون تهويل فى ملامح الصورة على جانبنا القومى.
 
الحقيقة.. والحقيقة وحدها، هى ما يحتاجه المواطن المصرى إذا أردنا أن نضع أمامه صورة ما جرى فى 6 أكتوبر ومعاركه الخالدة.
 
والتزام الحقيقة فى الحديث عن إحدى حلقات الصراع مع عدو لم يلتزم طيلة حياته بالصدق لحظة واحدة، فى كل ما كتبه عن معاركه ضدنا ليس بالأمر الهيّن على النفس، ولكننا نلتزم به، إيماناً بالمسئولية أمام الجيل الحالى من طيارى مصر الشجعان، الذين خاضوا التجربة باقتدار وفدائية منقطعة النظير، وهى مسئولية أمام الأجيال القادمة من طيارى المستقبل؛ أذرع مصر المحلّقة فى سماء التضحية والبذل، فحقهم -حين يأتى دورهم- فى تحمل الأمانة أن يكون بين أياديهم سجل أمين، بالغ الصدق والدقة فى تصوير ما كان.. حفزاً لهم نحو ما ينبغى أن يكون.
 
والتزام الصدق، أولاً وأخيراً، هو مسئولية أمام المواطن المصرى الذى ضحى فى شجاعة صامتة، وحقه أن يعرف الحقيقة، وأن يستوثق تماماً، من أنه لم ينخدع هذه المرة أيضاً، كما خُدع من قبل فى مواقف سابقة، كانت الهزيمة تتحول إلى نصر تعرف الدنيا كلها أنه نصر شعارات وهمية، بينما الإنسان المصرى صاحب الحق الأول فى معرفة الحقيقة، هو الوحيد الذى تُخفى عنه الحقيقة.
 
وإذا كنتُ قد شاركت، بحكم موقعى العسكرى، أثناء معارك أكتوبر المجيدة كقائد للقوات الجوية المصرية وأُتيح لى بحكم هذا الموقع أن أعرف من الحقائق ما ييسر لى تقديم الصورة الكاملة لملحمة الطيران المصرى، فإننى سأحاول تقديم هذه الصورة برؤية جديدة، أكثر شمولاً، وأكبر عُمقاً، فى تفسير الأحداث والوقائع، بعد أن شرّفنى الرئيس القائد الأعلى محمد أنور السادات، بالعمل معه كنائب لرئيس الجمهورية.
 
إننى آمل أن يجد القارئ المصرى خصوصاً والعربى عموماً فى هذا الكتاب ما هو بحاجة إلى معرفته عن نسور مصر الشجعان، والملحمة البطولية، التى بدأوا فى كتابة سطورها عقب ضربة الخامس من يونيو 1967 بساعات.
 
كما أرجو صادقاً أن يجد العدو فى هذا الكتاب، وهو سيقرأ بلا شك ما سأكتبه، تحليلاً دقيقاً لميدان من أخطر ميادين الصراع العربى- الإسرائيلى هو ميدان التسابق على السيادة الجوية فى المنطقة. وهو تحليل يكتبه طيار مقاتل، عايش التجربة بكل جوانبها المظلمة والمضيئة. ولعل العدو ينزع فى النهاية من رأسه كل جذور الغرور وبذوره، حين يستوثق تماماً أن الأمة العربية بوجه عام، والشعب المصرى بوجه خاص، قد انتزع من براثن الهزيمة الساحقة نصراً مؤكداً، وأنه لا يوجد فى العصر الحديث شىء اسمه المستحيل ما دامت هناك إرادة، وما دام هناك هدف محدد وإصرار لا يعرف التراجع، سعياً إلى هذا الهدف، كما أرجو أن ينزع العدو من رأسه أحلام التفوق التكنولوجى.
 
لقد أثبتت معارك أكتوبر، وهى أول حرب إلكترونية متكاملة فى العالم، سواء فى مجال الطيران أو الدفاع الجوى أن المقاتل العربى الجديد مقاتل مثقف عسكرياً مكتمل الثقافة القتالية، متمكن من فنية سلاحه مهما كان سلاحه بالغ التعقيد. وهذا الجيل الجديد من المقاتلين هو صيحة التحذير الحقيقية، التى يطلقها شعبنا والأمة العربية معه لكى يفيق العدو ويتراجع إلى حجمه الصحيح، متخلياً عن أحلام السيطرة والتوسع التى أوقعته فى مأزق الحرب الرابعة التى وصفها الجنرال الأمريكى «إيثيل بانجر» حين قال فى تعقيبه على معارك أكتوبر: «إن إسرائيل بقيت قائمة كدولة لأننا لم نخنها، فبدون الأسلحة والنفاثات الأمريكية، كان محتوماً أن تفنى إسرائيل».

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع