العلمانيّة في مواجهة المشكّكين

سهيل أحمد بهجت

بقلم: سهيل أحمد بهجت
يحاول المسيري أن يشكك في كلمة "علمانية" إذ يرى أن "مصطلح علمانية حينما انتقل إلى المعجم اللغوي العربي أصبح أكثر اضطرابًا و اختلالاً، فمنذ ما يسمى "عصر النهضة" في تاريخ الفكر العربي ومعظم تعريفاتنا للظواهر الإنسانية تستند إلى تعريفات الغرب الذي نستورد منه معظم مصطلحاتنا إن لم يكن كلها، وقد استوردنا مصطلح "علمانية" فيما استوردنا منه، و حينما ينقل مصطلح مثل هذا من معجم حضاري إلى معجم حضاري آخر و تتم "ترجمته"، فإنه يظل يحمل آثارًا قوية من سياقه الحضاري السابق، الذي يظل مرجعية صامتة له، و لذا فدلالة هذا المصطلح لا تتحدد إلا بالإشارة إلى المعجم الحضاري الأصلي، أي الغربي، و قد أشرنا إلى أن هذا المصطلح مختلط الدلالة في معجمه الغربي.." ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 46
و التحقيق العلمي هنا في نقد آراء المسيري يقضي بأن نتجاوز تصنيفات المسيري التي توجد اختلافًا جذريًا، ربما إلى حد العنصرية، بين الشرق والغرب، فكل منتج فكري أوروبي يبقى تجربة ـ منفصلة ـ عن كل مجموع أو تكتل بشري شرقي، مع أن الشرق والغرب كلاهما مجتمعات بشرية وإذا كان نتاجًا بشريًا غربيًا "مثلاً" لا ينطبق على المجتمعات الشرقية، فليس ذلك لأن كل ما هو غربي فهو صالح للغربيين "حصرًا"، بل مرده و سببه إلى أن تلك المجتمعات لا تزال في مرحلة أكثر تخلفًا وتعاني ظروفًا اجتماعية واقتصادية لا تهيئها لاستقبال التغيير الشامل وإذا ما حصل التغيير فهو يجري كصدمة تهز المجتمع لأن المجتعات المنتجة تسبق غيرها بأشواط.

فالمرجعية الصامتة للمصطلح كلام لا معنى له أصلاً، لأن كل مصطلح من المصطلحات لا بد أن ينتهي إلى فكر أو منهج أو لغة ما و انتمائه الأول لا يعني أنه غير قابل للتطوير والتغيير على أيدي الأمم والشعوب الأخرى، لذلك نجد المسيري في نقده للعلمانية فهو ينتقي نماذج معينة للنقد، فتجده يحدثنا عن تايلاند وسنغافورة والفلبين ولكنه يتجاهل اليابان وهونك كونك وتايوان ـ التجارب الأكثر نجاحًا ـ و ذلك ليكون نقده مقنعًا حسب النماذج التي اختارها، وبالتأكيد فإن البحث بهذا المنهج ـ الذي يذكرنا بما كان يفعله الشيوعيون حيث كان على العلم أن يتبع النظرية الماركسية لا العكس ـ ليس بحثًا علميًا نزيهًا، فالنقد الموضوعي يقتضي أن يكون هناك وصف للواقع كما هو من دون إضافات عاطفية وقناعات سابقة، وإذا كان القرآن نفسه خاطب العرب عن "العقل البديهي" فذلك خطاب ينسجم مع عقلية ذلك الزمن وظروفه السياسية والاجتماعية، و بالتالي يبقى العقل نسبيًا والنبي نفسه يقول: خاطبوا الناس على قدر عقولهم.."!!

و هذا يعني أن مستويات الوعي داخل المجتمع نفسه متفاوتة ومختلفة، فضلاً عن اختلاف المجتمعات، من هنا نجد أن العلمانية هي علاج لكل مجتمع يعاني من استخدام الدين سياسيًا واتخاذه تبريرًا للهيمنة والاضطهاد، قد نستعمل هذا الدواء بجرعات مختلفة ـ حسب الحالة ـ لكن يبقى استخدام الدين كوسيلة سياسية موجودًا في كل المجتمعات ولكن بصيغ مختلفة، وتركيا مصطفى كمال لم تكن استثناءًا من هذه المعادلة، فقد كانت الدولة العثمانية ـ القائمة على الحق الإلهي ـ لا تنفك تشن الحرب تلو الأخرى ولا تكاد فتنة تقف حتى تقوم أخرى، وكان كل هذا يجري في بلاد مدمرة ومفككة ولا تملك أي سبب للارتقاء الحضاري، وما عاشته الجمهورية من سلام طوال السبعين سنة الماضية يكاد يعادل العهد العثماني كله.
من هنا لا يهمنا البحث النظري الفارغ إذا كان النظر لا يمتلك أي قيمة على أرض الواقع، فالمسيري طالب المفكرين والباحثين بإعادة مراجعة نقدية للمصطلح لتنقية المصطلح والمصطلحات الأخرى من كل ما هو غربي، وأود أن أشبه هذا بمحاولات الفقهاء والوعاظ تنقية كل شيء من "نجاسة الكفار" كما يسمونهم، وهذا الوصف و المنهج لا يمكن أن ينطبق على بحث علمي سليم يمكن الاستفادة منه مستقبلاً.

يقول المسيري:
فالواجب العلمي يفرض علينا أن نبحث عن مثل هذه العلاقة الشاملة الكامنة، ولعل الوقت حان الآن لإعادة النظر في كل مصطلحات العلوم الاجتماعية (ذات الأصل الغربي)، لصياغة نماذج ومصطلحات جديدة تتفق مع تجربتنا الوجودية المتعينة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، وبعد علمنة السلوك في العالم الغربي، وضمور رقعة الحياة الخاصة، و تهميش المسيحية تمامًا، و ظهور أدبيات غربية مراجعة تساعدنا في عملية التعريف وإعادة التعريف." ـ المصدر السابق ص 46

و عبارة "تجربتنا" عند المسيري ليست مجرد كلمة مرسلة اعتباطًا، فنحن و هم وحضارتنا وحضارتهم وديننا ودينهم و إلى آخر تلك العبارات التقسيمية تمثل لب وجوهر العقل الشرقي العاطفي الذي يأبى أن يتقدم لأن كل شيء ببساطة ما لم يكن (من إنتاجنا نحن المسلمين) فهو باطل وكفر ويجب تنقيته، ولو كان للعالم الإسلامي أجهزة طبية ـ غير تلك الغربية ـ ومجهر وطائرة وصاروخ ومكوك فضاء وفلسفة وأبحاث لأمكننا أن نفترض أن الـ"نحن" هذه قد تنتج شيئا، فهو سواء أطلق اسم الطائرة على ذلك الجهاز الحديدي الذي يُسمى Airplane بالإنكليزية أو سمى الـ MICROSCOPE بالمجهر، فإن تغيير الاسم لن يغير شيئًا من حقيقة المسميات و أن كل النتاج البشري الآن له "مرجعية غربية" إذا جاز لنا أن نستخدم المصطلحات المسيرية، فمهما حاول المسيري ومن يمثل العقل الشرقي الذي يريد إيجاد بديل "للديمقراطية" لا يمس المعبودات المحلية ـ أرباب السلطة ـ و لا يمس المحظورات الثلاث (السياسة ـ الجنس ـ الدين)، و هو ما سيعني نظرية جديدة "مضحكة" عن خلق علم جديد بلا أسئلة أو شكوك واستكشاف بلا مكتشفات أو تجارب ولاهوت ديني بدون لاهوت، فمهما بحث العلماء فسيبقون يستخدمون الحاسوب "الكومبيوتر" و التيلسكوب أو الناظور والمختبرات والأقمار الصناعية، وبالتالي نعود إلى السير في نفس الطريق التي سار فيها الغربيون، غير أن المسيري ينصحنا بأن نسير دون أن ننظر إلى ما حولنا وأن نكون من صنف النعامة التي تضع رأسها في التراب ولا تريد سماع الحقيقة، وسيبلغ المسيري في نقده حدًا يبدو لنا أن الإنسان لن يكون إنسانًا إلا إذا تعرى تمامًا من نجاسة الحضارة.

 يقول الدكتور المسيري:
يمكن أن نشير إلى أنه داخل التشكل الحضاري الغربي ذاته توجد عدة تشكيلات، فهناك التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي)، والتشكيل الحضاري الإنجليزي، والألماني (البروتستانتي)، والتشكيل الحضاري الروسي (الأرثوذكسي)، وقد عرف كل تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حد ما انطلاقا من تجربته الخاصة، فكلمة لائيك الفرنسية Laique ، على سبيل المثال، لا تزال تحمل بصمات أصولها الفرنسية، والتجربة الفرنسية في العلمنة (المرتبطة بالثورة الفرنسية) التي أخذت شكلاً حادًا و قاطعًا، والتي تتضمن عداءًا قاطعًا للدين، فمؤسسة الكنيسة كانت قوية في المجتمع الفرنسي الإقطاعي القديم، وكانت امتيازات النبلاء واضحة محددة، كما كان هناك تداخل شبه كامل بين طبقة النبلاء ورجال الدين (متمثلاً في الحكومة الملكية المطلقة)، ونظام الطبقات السائد، ومؤسسة الكنيسة، وكل الرموز السياسية والدينية القائمة، ووصل الرفض إلى حد ذبح النبلاء و كثير من أعضاء طبقة الكهنوت، وإلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد تعبد فيها ربّة العقل، كما أنهم وضعوا سياسة منهجية صريحة تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في العليم والقانون، أما كلمة "Secular" الإنجليزية فهي ليست قاطعة ولا حادة في دلالتها بهذا الشكل" ـ المصدر ص 47

إن التشكل العلماني للبلدان لا يمكن اختصاره في كلمة أو كلمتين، فنحن لا نملك أدلة واقعية ملموسة على أن كلمة Laique الفرنسية أكثر قطعًا أو حدة من كلمة Secular الإنكليزية، ردّ الفعل الفرنسي في فصله الأكثر راديكالية تجاه الدين لم يكن سببه الفكر والمنهج الذي نشره مفكروا فرنسا العظام كفولتير أو منتسيكيو أو روسو، بل هو ردّ فعل طبيعي ضد طبقية كانت أكثر تمسكًا بالسلطة والحكم والنفوذ من تلك الطبقية الإنكليزية التي كانت أقل تطرفا، وبالتالي لا يكون الواقع من صنع الكلمات بقدر ما يضفي الواقع المعاني على الكلمات، فالكلمة بدت أكثر تطرفًا لدى المسيري لأنه قرأ عن "الثورة الفرنسية" وأحداثها المروعة، فبدت له الكلمة قطعية وحادة، بينما جعل التسامح البروتستانتي التغيير أكثر سلمية في إنكلترا رغم بطئه، بالتالي فإن التطرف الفرنسي، ولا ننسى التطرف الروسي ضد الأرثوذوكسية الأكثر تطرفًا، كان نتاج واقع ولا يجوز حصر الاتهام هنا تجاه العلمانية وكأن العلمانيين ليسوا بشرًا لهم عواطف وفعل ورد فعل.

sohel_writer72@yahoo.com