دور الطائفية في الأزمة العراقية (1)

د. عبد الخالق حسين

بقلم: د. عبد الخالق حسين
مقدمة
هذا المقال هو القسم الأول من بحث مطول قدمتُ موجزه في الملتقى الفكري الأول في بغداد خلال يومي 4-5 تشرين الأول(أكتوبر) 2009، والذي نظمته وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، لمناقشة الأزمة العراقية وأسبابها. وسوف يليه القسم الثاني بعنوان (الحلول المقترحة للأزمة العراقية)، كما ونشرتُ القسم الثالث منه قبل أسابيع في مقال مستقل بعنوان: (حول إشكالية المحاصصة)(1).
أعتقد جازماً أن الطائفية لعبت دوراً رئيسياً في الأزمة العراقية، ولا أغالي إذا قلت أنها أم الأزمات ومنها تولدت وتفرعت الأزمات الأخرى. ولطرح هذا الموضوع وتوضيحه، احتاج إلى الصراحة، إذ لا يمكن مناقشة الأزمة التي نواجهها وإدراك جسامتها ومخاطرها وأسبابها الحقيقية، وبالتالي إيجاد الحلول الناجعة لها، إلا إذا التزمنا بالصراحة والنزاهة والحيادية العلمية في قول الحقيقة، دون مواربة أو تزلف أو مداهنة أو خوف من إغضاب هذا وذاك، علماً بأن قول الحقيقة كاملة لا تخلو من مخاطر، إذ كما قال الفيلسوف الألماني نيتشة، ولخصه لنا الأستاذ هاشم صالح، ما معناه: "أشجع الشجعان فينا عاجز عن قول الحقيقة (أي كل الحقيقة). هناك أناس يستطيعون أن يتحملوا الحقيقة بنسبة 20 بالمائة، أو 50 بالمائة، أو حتى 70 بالمائة. وربما وجد علماء كبار ونزيهون يتحملونها بنسبة 90 بالمائة. ولكن لا أحد قادراً على تحمل الحقيقة (أو قول الحقيقة) بنسبة 100 بالمائة، ذلك أنها تقتله في أرضه! حذاري من الاقتراب من الحقائق أكثر مما يجب، أو قبل الأوان."
لذلك أستميح الزملاء والقراء الكرام عذراً، راجياً منهم تحمل صراحتي، ومحاولتي الاقتراب من الحقيقة ولو في حدود الـ 70% كما أراها، إذ بدون قول الحقيقة فإننا نخدع أنفسنا، وكمن يحرث في البحر.

التمييز الطائفي والعرقي أساس المشكلة
أعتقد جازماً أن الطائفية هي ليست وليدة اللحظة الراهنة أو الغزو الأمريكي، كما يتصور ويروِّج له البعض، بل هي من نتاج التاريخ والجغرافية، ضاربة جذورها في العمق. فبسبب التفرقة الطائفية والعرقية تم حرمان نحو 80% من مكونات الشعب العراقي، على أقل تقدير، من حقوق المواطنة الحقيقية، وتعريضهم للظلم والقهر والاستلاب والحرمان والعزل والاغتراب، واستحواذ مكونة واحدة من الشعب على السلطة والثروة والنفوذ، منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وإلى 9 نيسان/أبريل 2003.
فالتمييز الطائفي والعرقي البغيض كان لغماً كبيراً وخطيراً وُضِع مع حجر الأساس في بناء الدولة العراقية الحديثة عام 1921، حيث أصر الآباء المؤسسون العراقيون، وبدعم وتخطيط من بريطانيا، في الاستمرار على سياسة الإمبراطورية العثمانية في التفرقة الطائفية والعرقية خلال أربعة قرون من حكمها الجائر للعراق ضد مكونات الشعب العراقي، واستئثار مكونة واحدة بالسلطة والقوات العسكرية المسلحة (بهيئة ضباطها)، وبالنفوذ والامتيازات. ولتنفيذ هذه السياسة والحفاظ على سلطتها، لا بد وأن تلجأ الفئة الحاكمة إلى الظلم والإكراه لإخضاع المكونات الأخرى بالقوة الغاشمة. وكما تقول الحكمة: "الظلم لو دام دمَّر، يحرق اليابس والأخضر". لذلك أعتقد أن جميع المشاكل الأخرى التي عانى منها الشعب العراقي هي ناجمة عن هذا التمييز الطائفي والعرقي، وبالتالي أدى إلى انهيار الدولة العراقية.
فمن قراءتي لتاريخ العراق، أرى أن الأزمة الحالية التي انفجرت بدوي هائل بعد 9 نيسان/أبريل 2003 لم تكن وليدة اللحظة، أو صنعتها أمريكا والصهيونية عمداً لتدمير العراق كما يتصور البعض عن جهل في أحسن الأحوال، أو عن قصد في أسوأها، بل كانت نتيجة حتمية متوقعة لحالة مزمنة لازمت الدولة العراقية الحديثة منذ ولادتها. ولكن الخط البياني لهذه الأزمة التراكمية كان في صعود وهبوط حسب الحكومات المتعاقبة والانعطافات التاريخية، وقد حقق صعوداً صاروخياً متواصلاً في عهد حكم البعث الصدامي. وكان التذمر الشعبي يغلي وينمو تحت السطح كالبركان الذي ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار، وقد توفرت هذه اللحظة بعد سقوط حكم القمع البعثي على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا.
والجدير بالذكر أني تطرقت إلى خطر الطائفية في بحث مطول لي قبل سنوات بعنوان: (الطائفية خطر كبير وتجاهلها أخطر)(2) قلت فيه: "الطائفية مرض خبيث وخطير، عانى منه الشعب العراقي كثيراً خلال عدة قرون. وهي ليست من صنع العراقيين، بل صنعتها القوى الخارجية التي اتخذت من العراق ساحة لحروبها وفتوحاتها منذ الاحتلال العثماني في أوائل القرن السادس عشر، بالتناوب مع الدولة الفارسية الصفوية. بينما يعتقد البعض أنه من الأفضل الابتعاد عن الخوض في المشكلة الطائفية، إذ يرون أن في إثارتها ضرراً على الوحدة الوطنية، بل ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، فينكرون وجود هذه المشكلة أساساً.... إن موقف أولئك وهؤلاء ليس فقط لا يقدم تفسيراً للمعضلة العراقية المزمنة، بل ويلقيها في مستنقع من الضبابية ويضفي عليها طابعاً هلامياً لا يفيد إلا المنتفعين بالطائفية ذاتها. لذلك أعتقد أنه بعد كل هذه الكوارث، فقد آن الأوان لقول الحقيقة وتجنب سياسة النعامة في طمس رأسها في الرمال خوفاً من أن يراها الصياد ". (1)

ما هي الطائفية والعنصرية؟
الطائفية هي نزعة سياسية لا علاقة لها بالعقائد الدينية أو المذهبية، وإنما هي أقرب إلى العصبية القبلية القديمة، وشكل من أشكال العنصرية والفاشية والنازية بالمعنى الحديث، ولكن بغطاء ديني ومذهبي، يستخدمها سياسيون علمانيون هم أبعد ما يكونوا عن روح الدين والتديُّن الحقيقي، يستغلون أبناء طائفتهم لتحقيق أغراضهم السياسية ودعم مصالحهم الشخصية المادية، والحفاظ على نفوذهم وسلطاتهم في الدولة على حساب أبنا الطوائف الأخرى. ويستثنى من هذا التعريف أتباع الوهابية من التكفيريين الذين يعتمدون على الفقه الوهابي المتشدد والمتزمت في محاربة المختلف عنهم في الدين والمذهب، ويبررون إبادتهم اعتماداً على تفسيرهم الخاطئ للإسلام. 
أما العنصرية، فهي العداء للبشر والتمييز ضدهم بسبب الاختلاف في الانتماء العرقي أو القومي، وهو مدان وفق جميع الشرائع والقوانين الدينية والوضعية.
كما ويجب التوضيح والتأكيد هنا على أنه ليس من الطائفية والعنصرية والفاشية أن يعتز الإنسان بانتمائه الديني والمذهبي والوطني والقومي، بل من الطائفية والعنصرية والفاشية إذا ناصب الإنسان إنساناً آخر العداء، وسعى لإلحاق الضرر به لا لشيء إلا بسبب انتمائه لقومية أو دين أو مذهب آخر. وعليه، فنحن لا نتحدث هنا عن تعددي الطوائف التي هي مسألة طبيعية في جميع الشعوب ولا خطر منها، بل عن الطائفية والعنصرية، أي التمييز الطائفي والعنصري.

أدلة على الانقسام الطائفي
كما بينت أعلاه، أن الطائفية ليست جديدة، بل بدأت مع تأسيس الدولة العراقية، وهناك أدلة كثيرة في هذا الخصوص، أشير إلى أهمها كما يلي:
أولاً، هناك أربع انعطافات أو محطات تاريخية كبرى مر بها العراق منذ أوائل القرن العشرين وإلى الآن، لعبت فيها الطائفية دوراً رئيسياً في تاريخ العراق الدموي، وكشفت هذا الانقسام الطائفي في الشعب العراقي بشكل واضح للعيان.
المحطة الأولى، عندما احتل الإنكليز العراق في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ثارت العشائر الشيعية وبفتاوى قادتهم الدينيين، فشنوا حرب الجهاد ضد الانكليز، ومن ثم ثورة العشرين ضد الاحتلال، بينما وقفت قيادات السنة العرب على الحياد إلا ما ندر، وإن حصل، كان جانبياً، مثل مقتل ليجمان على يد الشيخ ضاري الذي لعبت الصدفة دورها ونتيجة لتهور ليجمان.
المحطة الثانية، الصراع الدموي إثناء ثورة 14 تموز 1958، فرغم أن الصراع كان تحت أسماء القوى السياسية (قومي- شيوعي) إلا إن الجماهير الشيعية (وليس قادتهم الدينيين) هي التي وقفت مع الثورة وزعامتها الوطنية ودافعت عنهما إلى آخر لحظة، بينما المحافظات السنية ساهمت ورحبت باغتيالها. ولا ننسى الشينات الأربع (شيعي، شروكي، شيوعي، شعوبي) التي أطلقتها الحكومات العراقية المتعاقبة ومازال يرددها بعض الكتاب القوميين العرب الطائفيين على شيعة العراق.
  المحطة الثالثة: انتفاضة آذار 1991، قامت بها المحافظات الشيعية والكردية والتي أسماها نظام البعث الصدامي بالمحافظات السوداء، مقابل وقوف المحافظات العربية السنية على الحياد، والتي سميت بالمحافظات البيضاء.
المحطة الرابعة والأخيرة، منذ سقوط نظام البعث الصدامي عام 2003، وإلى الآن، رحبت به المحافظات الشيعية والكردية، بينما وقفت المحافظات السنية العربية ضد الوضع الجديد بحجة مقاومة الاحتلال، ومعارضة المحاصصة الطائفية!!
ثانياً، هناك شهادات من شخصيات تاريخية تؤكد الانقسام الطائفي والعرقي وخطرهما على مستقبل الدولة العراقية. وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر شهادة المرحوم الملك فيصل الأول الذي أكد في مذكرته الشهيرة التي وزعها على النخبة الحاكمة المحيطة به نهاية عام 1932 جاء فيها ما يلي:
"العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينهم أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى إنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة، إلا إن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكِّنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين، كل ذلك جعل مع الأسف هذه الأكثرية، أو الأشخاص الذين لهم مطامع خاصة، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق، والذين لم يستفيدوا مادياً من الحكم الجديد يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعــة، ويشوقون هذه الأكثرية للتخلي عن الحكم الذي يقولون بأنه سيء بحت، ولا ننكر ما لهؤلاء من التأثير على الرأي البسيط الجاهل." وأضاف الملك في مكان آخر من مذكرته ما تقوله قادة الشيعة: "إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي، حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها". (عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص11، مطبعة دار الكتب بيروت،  1983).
ويمكن أن نعذر الملك الراحل على وصفه الكرد والشيعة بـ"أكثريته الجاهلة" إذ يجب أن نأخذ ظروف المرحلة المتخلفة  قبل 77 عاماً بالحسبان. واقترَح الملك بعض الحلول لإنصاف الشيعة وتشجيعهم وتدريبهم في المشاركة في الوظائف الحكومية، ولكن لسوء حظ الشعب العراقي، أن الملك فيصل الأول قد توفى بعد أشهر قليلة من كتابته لهذه المذكرة الإصلاحية، والتي لم تلق أي ترحيب من قبل النخبة الحاكمة آنذاك.
وتأكيداً للتمييز الطائفي الذي ورد في مذكرة الملك، علق خليل كنه في كتابه الموسوم: (العراق، أمسه وغده)، قائلاً: "وعند تأسيس الكيان العراقي بزعامة الملك فيصل الأول، وجد أن استمرار التفريق والمحاباة يعرض الكيان العراقي إلى الانهيار، فبادر إلى سياسة منصفة وعادلة ليزيل مخاوف الشيعة وبذلك يزداد إقبالهم على التعليم ويتكاثر عددهم في الوظائف ومراكز المسؤولية. ولا شك أن إتباع العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص مما يساعد على إزالة الحيف الذي لحق بالطائفة الشيعية".
ولكن مع الأسف لم تتحقق العدالة الاجتماعية، فحدث الانهيار المدوي الذي توقعه الراحل خليل كنه وغيره من المخلصين من رجالات ذلك العهد.
فالشيعة الذين يشكلون نحو 60% من السكان، و80% من العرب، كان نصيبهم في الحكومة دون استحقاقهم العددي بكثير كما هو واضح في الجدول التالي:
المناصب الوزارية الشيعية في العهد الملكي (1921 – 1958) باستثناء منصب رئاسة الوزراء*

السنة مجموع عدد المناصب مجموع عدد مناصب الشيعة النسبة المئوية
1921 – 1932 (مرحلة الانتداب) 113 20 17,7
1932-1936 57 9 15,8
1931 – 1941 (مرحلة الانقلابات العسكرية) 65 18 27,7
1941 – 1946(مرحلة الاحتلال البريطاني الثاني) 89 25 28,1
1947 - 1958 251 87 34,7 (أ)
المجموع 575 159 27,7

(أ‌)النسبة المئوية المقدرة للشيعة العرب من أصل مجموع السكان عام 1947: 51,4
* نقلاً عن كتاب حنا بطاطو، العراق، تاريخ الطبقات الاجتماعية...، ص69ـ ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 1990.

ورغم أن القانون الأساسي (الدستور) لعام 1925 قد نص في مادته السادسة: على أن "لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية، والدين، واللغة."، كما منع القانون الترويج للتفرقة الطائفية والعنصرية، إلا إن النخبة الحاكمة كانت تمارس التمييز بشكل شبه مقنن، وإذا ما اعترض المواطن لدى السلطة على هضم حقوقه بسبب التمييز الطائفي والعرقي، أشهروا في وجهه سيف تهمة الترويج للطائفية والعنصرية، وبذلك تحول الدستور نفسه إلى أداة لممارسة التمييز وضد معالجته، وضد كل من يتظلم من شروره. ومن يرغب في معرفة المزيد عن ممارسة الحكومات العراقية المتعاقبة التمييز الطائفي والعنصري ضد غالبية الشعب العراقي نشير عليه بقراءة كتاب (مشكلة الحكم في العراق، للأستاذ عبدالكريم الأزري، الذي تسلَّم عدة مناصب وزارية في العهد الملكي).

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع