عودة باسم يوسف

يقلم : عبد الله كمال

 نجح النجم باسم يوسف، في أن يجعل جمهور التليفزيون في مصر والدول العربية ينتظره، بعد طول غياب، وتفكير متعمق.. وكانت الحلقة الأولى في الموسم الجديد تجسيدًا حقيقيًّا لعقل أرهق نفسه بين خيارات متعددة، وتعبيرًا عن توافق أخير وصل إليه البرنامج الساخر الشهير ، بعد اختلافات كثيرة في وجهات النظر داخله.. وهنا تكمن أهمية باسم يوسف، الذي يتميز بكونه «عمل فريق» لا «فرد» وإن بدا عكس ذلك.

 
  في تاريخ التليفزيون المصري، بمختلف وسائله العامة والخاصة، كانت هناك برامج مميزة، استحوذت على اهتمام الجمهور في فترات مختلفة.. منها مثلا «كاميرا ٩»»، و«على الطريق»، و«فوازير رمضان» - بنجومها المختلفين ، و«كلام من ذهب » ، و«هلا شو» ..وغيرها مما انطفأ وخبا، وكثير دونها ظل باقيًا .. يصعد حينًا ويخفت حينًا.
 
لكن ما يتسم به برنامج باسم يوسف، هو أنه يمثل عملا رائدًا واتجاهًا في السخرية السياسية، أو للدقة الهجاء، الذي تفرد  هو بشكله عربيًّا - رغم كونه منقولًا من أشكال أميركية - و قدرته على أن يكون عاملا مؤثرًا من بين عوامل إعلامية أخرى أسهمت في الوصول إلى «ثورة ٣٠ يونيو».
 
ومن هنا، وكما أحرص دومًا علي التأكيد في التعليق على «باسم يوسف»، فإنني أعتبر «البرنامج» واحدًا من مكونات «القوة الناعمة المصرية»، على اعتبار أن تلك هي بضاعتنا التي يمكن أن تميزنا في مقابل غيرنا .. ولأنه استطاع أن يدفع المنتج التليفزيوني المصري في سوق تطحنها المنافسة، وتغرقها بضائع تركيا والهند وإيران البرامجية والدرامية.. ولم يحظ بهذا الأفق العربي في المشاهدة إلا برنامج «القاهرة اليوم» للإعلامي عمرو أديب.. وبرنامج أديب يتحرك في سياق مختلف وله شكل تليفزيوني آخر.
 
   في أعقاب الحلقة الأولى من الموسم الجديد، كان أن انفجرت موجة غضب عارمة، لا بُد أن الجميع يلمسها لأسباب كثيرة نابعة من مضمون الحلقة.. ومن تصنيف قطاعات واسعة من الجمهور لباسم يوسف نفسه .. إذ لم يتمكن بعد من أن يقنع عموم الناس أنه غير تابع لفريق رغم اجتهاده في ذلك.
 
وحتى اللحظة, لدى جمهور كبير قناعة بأن «باسم» يعبر عن فريق آخر أو لديه أجندة، وهو ما يستلزم منه جهدًا أكبر لكي يرسخ وجوده كتليفزيوني مصري ليس لديه غرض سياسي، وتلك معاناة لا بُد أن يتكبدها.. وإذا كان لدى هذا الجمهور تلك القناعة، فإن هناك فريقًا آخر مقتنعًا بأن توفيق عكاشة يمثل التوجه المقابل لباسم يوسف، تتفق مع هذا أو تختلف مضمونًا وأسلوبًا وشكلا وطريقة وأداءً.. فإن لتوفيق جمهورة العريض وتأثيره البالغ.
 
إن ذكاء باسم يوسف المتوقع وحرفيته العالية لا بُد أنها سوف تدفعه لأن يكون برنامجًا لكل المصريين، وليس كما يُجرى دفعه الآن لأن يكون برنامجا لقوى يناير وحدها.. تلك القوي  على أي حال موجودة ومؤثرة ولكنها لا تمثل عموم المصريين.. فإن أراد البرنامج أن يعبر عنها وحدها فإنه يكون قد فوَّت فرصة تاريخية لا بُد أن نشد على يده لكي لا يهدرها.
 
في المرة السابقة.. الموسم الماضي الناجح من البرنامج، كان أن واجه باسم يوسف عنتًا رسميًّا ومتطرفًا من السلطة الحاكمة والجماعة التي أدارت البلد.. وجاهد المصريون لكي ينزعوها من فوق الحكم، وحرص جيش مصر ان يحمي تلك الإرادة الشعبية ويحقق هدفها، ومن ثم قُدمت ضد باسم يوسفالبلاغات وحقق معه النائب العام، ما أكسبه تعاطفًا وصلادةً محلية ودولية.
 
لقد انتهى حكم الإخوان.. وانتهى معهم هذا الأسلوب المقيت في التعامل مع حرية الرأي .. ولا أتوقع أن يقوم أي مسؤول أو حتى أي مواطن عادي بمثل هذا الإجراء تعبيرًا عن غضبه أو رفضه لبعض ما يقدم باسم يوسف.. ولو كان أحدهم قد فعل فانني اتمني عليه ان يعيد التفكير ويسحب بلاغة.
 
   كما أنني آمل ألا تتحول المسألة إلى تنابذات بين البرامج، فنجد أن باسم يوسف قد تورط في معارك مع من ينتقدهم، أو قرر أنهم سيكونون فريسته الإعلامية الجديدة ، عوضا عن الشخصية الشهيره «خميس».. وبالتالي  وقتها نفقد كإعلاميين ثقة الجمهور في قدرتنا على أن ننتقل به إلى مرحلة مختلفة.. ونجد المسألة تحولت إلى خناقات فضائية بين توفيق عكاشة أو مرتضى منصور أو أحمد موسى وباسم يوسف، إذ حتى لو تجاهل «البرنامج» هذا مرة لن يمكنه من تجاهل ذلك إلى الأبد .. وبالتالي تحيد كل تلك البرامج عن أهدافها وما تحققه - كل منها - بصورة أو أخرى في صناعة الرأي العام المصري.. حسب طبيعة مكوناتها.. والجمهور الذي تستهدفه.
 
إن ما يتميز به «البرنامج» ، ونقطة فرادته.. ليس كونه ساخرًا، ولكن أنه صادم وغير متوقع، ومن ثم لا ينبغي قولبته، لأنه بالتالي سوف يفقد أهم خصائصه .. وقيمته الجوهرية.. لكن باعتباري حريصًا على أن يبقى ضمن مقومات القوى الناعمة المصرية.. فإنني آمل أن يكون لديه حرص مقابل على ألا يصنف نفسه، قبل أن يتهم الآخرين بتصنيفه .. وأن يدافع بمهنيته عن ذاته قبل أن يهاجم غيرة .. لأننا نأمل أن يواصل مهمته ك«رافعة» لقيم الثقافة المصرية التي تحتاج إلى الدفع باتجاه مزيد من العصرية.
 
  كلمة مثل تلك التي ذكرتها في نهاية الفقرة الأخيرة, أي «رافعة»,  يمكن لفريق إعداد باسم يوسف أن يوظفها من أجل «قفشة مسفة» عابرة، سوف يضحك عليها الكثيرون، ولكنها سوف ترسخ الانطباع بأن هذا البرنامج يميل إلى الابتذال أكثر من كونه يتجه نحو النقد الحاد.. فرق كبير بين هذه وتلك.
 
إن مراجعة عديد من نصوص المرجعية التليفزيونية لبرنامج باسم يوسف، أي برنامج التليفزيوني الأميركي الأشهر جون ستيوارت، سوف تظهر أنها قد تم بلوغها بعد جهد كبير .. لا يدفعها إلى التورط في مثل هذا النوع من القفشات المسلية التي يعتبر التطرق إليها تليفزيونيًّا سبقًا خاصًّا. الفقرة الاشهر التي ساند فيها جون ستيوارت برنامج باسم يوسف ضد مرسي كانت عملا رفيعا في لغة الكتابه والتأثير.. لكن ستيوارت حين جاء ضيفا الي مصر في برنامج باسم كان ان دُفع الي الابتذال واستنطق بالعربيه كلمات مضحكة ولكنها خارجة.
 
  في تاريخ عادل إمام السينمائي عشرات من القفشات المماثلة، بل إن بعضها ثابت في كثير من أفلامه، ولكن تلك لم تكن بضاعته الوحيدة.. وقد بقي في ذهنية العامة من نجم كوميدي بحجمه أنه محارب الإرهاب والتطرف وصاحب رسالة الضحك اللطيف .. الذي يمكن للعائلة أن تقبله .. حتى لو خرج قليلا عن منظومة قيمها.
 
في المقابل، وهذه مقارنة قد لا تجوز الآن, فإن باسم صنَّف نفسه باختياره أن يكون برنامجا للكبار فقط، ودمغ نفسه، ويواصل فريقه دفعه نحو هذا .. نتيجة للإصرار على الحلول السهلة في التنكيت في حين أن لديهم قدرات دفينة أكبر مما يقطعون إليه الطريق ببساطة.. ولابد ان نشجعهم علي ان يغادروا تلك المساحة او لايحرصوا علي البقاء فيها.
 
   إن الشعور بالاضطهاد قد يكون مشكلة هذا البرنامج، وخشيته من أن يتعرض للضغوط قد يكون أحد دوافعه للذهاب إلى مساحات أبعد في تحقيق الصدمة لكي يؤلم قطاعًا من المجتمع يعتقد أنه يضطهده .. ومن ثم لا بُد أن يساعده هذا الجمهور على ألا يكون لديه شعور من هذا النوع .. لأننا نريد أن نحافظ عليه.. كما أن عليه هو - أي البرنامج- أن يبرأ من ذلك الإحساس .. فهو ابن هذا المجتمع ونتاج ثقافته ..ليس من خارجة.. ومثل هذه السخرية لم تكن لتجد سوقا رائجة لها بين شعوب أخرى بطبيعتها ضد السخرية عكس المصريين المحبين للنكتة.
 
  وسعيًا وراء ألا يصنف البرنامج نفسه بعيدا عن قطاعات المصريين، وفي إطار هذا التقييم النقدي، فإنني أعتقد أنه مطلوب أيضا من البرنامج أن يكون أشد حرصًا على قيم الوطنية المصرية.. ليس بالدعاية لها .. وإنما بعدم السخرية منها، هذه القيم هي التي أدت إلى خروج الجماهير الملايينية في ثورة ٣٠ يونيو لكي تقول إن مصر لن تكون دولة إخوانية, وسوف تحافظ على هويتها المصرية وتنوعها.
 
أزعم أن بعض من خرج في الشوارع كان يدافع عن حرية الإعلام عمومًا، وعن حرية باسم يوسف نفسه في أن يقول ما يشاء وأن يحارب التطرف، وأن يؤكد على مصرية البلد في مواجهة الأخونة.
 
  في تعليقات الشبكات الاجتماعية على الحلقة الأولى من البرنامج، صدمني بالفعل أن أجد بعض المواطنين، قد كتب أن باسم يوسف إنما لجأ إلى ما كانت قد لجأت إليه حملة الدعاية السوداء عقب هزيمة ١٩٦٧ بالسخرية من الجيش المصري.
 
   صدمني هذا، لأنني متيقن من أن ذلك لم يكن هدفًا للسخرية من جانبه. ولكن تلك التعليقات لا بُد أن توضع في الاعتبار لأن باسم يوسف وبرنامجه «منتج مصري»» له طبيعة «عولمية»، لا بُد أن نحافظ عليها .. كما أن عليه هو كذلك أن يجتهد في الحفاظ على رونقها.
 
mobtada.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع