قراءة في كتاب: Knowledge Processing

د. عبد الخالق حسين

بقلم: د. عبدالخالق حسين
آخر كتاب استمتعت بقراءته باللغة الإنكليزية هو:
Knowledge Processing, Creativity And Politics
A Political Theory Based On The Evolutionary Theory
للدكتور شوان خورشيد Showan Khurshid
مضمون الكتاب هو دراسة جامعية نال عليها المؤلف، الدكتور شوان خورشيد، درجة الدكتوراه من جامعة كارديف في ويلز/بريطانيا. والترجمة الحرفية للعنوان هو: (العملية المعرفية، والإبداع والسياسة، نظرية سياسية تقوم على نظرية التطور) أي من منظور النظرية الداروينية في أصل الأنواع والنشوء والارتقاء وفق الاختيار الطبيعي والبقاء للأصلح.
 
الثقافة الموسوعية والثقافة التخصصية
منذ مدة وأنا أسأل نفسي: لماذا معظم الحكماء هم من الماضي، ويقل عدد هم في عصرنا الحاضر؟ لماذا لم يبرز في عصرنا، حكيم من وزن سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم؟ فمعظم الأقوال المأثورة التي نستشهد بها تعود إلى فلاسفة ينتسبون إلى ما قبل القرن العشرين، وقلما نجد لهم نظراء في العصر الراهن. والتفسير الذي توصلت إليه هو أن في الماضي، ونظراً لمحدودية المعرفة، كان بإمكان المثقف الفيلسوف أن يلم بجميع المعارف المتوافرة في زمانه، لذا كان الفيلسوف أو العالم أو المثقف هو شمولي المعرفة أو موسوعي، فهو عالم وطبيب وأديب وفلكي وشاعر وناقد...الخ، فينظر إلى القضايا نظرة شمولية أي ما يسمى بـ Holistic. واجتماع المعارف المتعددة ورغم بداياتها وفي مراحل حضارية متخلفة، هي التي تجعل من هكذا إنسان حكيماً ينظر للأشياء نظرة شمولية واسعة ويتصف بالحكمة. فالحكمة هي نتاج التقاء وتفاعل معارف متعددة في المثقف.
بينما في عصرنا الحاضر تضخمت شجرة المعرفة ونمت لها ألاف الفروع بحيث صار من المستحيل على أي إنسان، ومهما كان ذكياً أن يحيط بكل هذه الفروع المعرفية، بمعنى أننا نعيش في عصر التخصص. والمتخصص هنا يصعد عمودياً في تخصص مجال ما ويبدع فيه، ويضيق مجاله كلما ارتقى أكثر فأكثر، وبذلك يكون هذا العالم المتخصص لا يعرف شيئاً خارج مجال اختصاصه، وينظر إلى الأمور نظرة ضيقة أحادية الجانب. بينما الحكمة تأتي فقط إذا تبحر المثقف في مجالات معرفية عديدة ومختلفة، فإحاطة المثقف بمختلف المعارف تمنحه القدرة على النظرة الشمولية الواسعة للأشياء والتحرر من النظرة الضيقة، أي القدرة على التفكير من خارج صندوق الاختصاص. إلا إن المجتمع يحتاج إلى كليهما، المثقف الموسوعي المتعدد المعارف، وصاحب الاختصاص، كحاجته إلى الطبيب العام والطبيب المختص.
ولكن فيً الحقيقة، إذا ما تأملنا جيداً لوجدنا عدداً غير قليل من الموسوعيين الحكماء في عصرنا الراهن، يتمتعون بكم هائل من المعرفة وفي مختلف المجالات، وبحكم التراكم المعرفي، فهم لا يقلون حكمة وشمولية في المعرفة، عن أقرانهم الأوائل، وقد نشروا مؤلفات رائعة في مختلف فروع العلوم، ولكن لم يحالفهم الحظ في بلوغ الشهرة الواسعة في أوساط العامة كنظرائهم القدماء لأسباب عديدة، منها، أن القدماء كانوا قليلي العدد وفي مرحلة كانت البشرية غارقة في ظلام الجهل، كذلك عامل الزمن، فمعظم الفلاسفة القدامى المشهورين اليوم لم يكونوا معروفين في زمانهم إلا في أوساط ضيقة، ولم يتلقوا ذلك التقدير من معاصريهم، ولكنهم اشتهروا مع الزمن وبعد وفاتهم بقرون. بينما في عصرنا الراهن هناك الألوف من هؤلاء المثقفين الموسوعيين الحكماء، ولكن العامل الزمني وكثرتهم لم يسمحا لهم بالشهرة الواسعة، إلا إنهم معروفون في أوساط الخاصة من الباحثين والمهتمين بشؤون المعرفة في معظم أنحاء العالم.
ومن هؤلاء الموسوعيين الذين قرأت لهم في السنوات الأخيرة، أذكر منهم على سبيل المثال، Jared Diamond، و Stephen Jay Gould، Daniel C. Dennett، Desmond Morris ، Richard Dawkins، وغيرهم، وأخيرا Showan Khurshid صاحب الكتاب الذي نحن بصدده في هذا المقال. وقد تعمدت كتابة الأسماء بالأحرف اللاتينية ليسهل على من يرغب من القراء متابعة مؤلفات هؤلاء العلماء الفلاسفة عن طريق google وغيره من وسائل البحث على الانترنت.
والملاحظ أن القاسم المشترك الذي يجمع هؤلاء هو أن شهاداتهم الجامعية الأولية (البكالوريوس) هي في علم الأحياء biology، أو أحد فروع علم الأحياء، ومن المؤمنين بـ(نظرية التطور وأصل الأنواع) لتشارلس داروين، وأنهم أصحاب نزعة الانتماء إلى الإنسانية الكونية ضد العنصرية والطائفية أو جندرية... الخ.

الباحث والكتاب
الدكتور شوان خورشيد، من مواليد مدينة كركوك، كردي عراقي، سويدي، يقيم في بريطانيا، نال شهادته الجامعية الأولية في علم الأحياء biology من جامعة البصرة في الثمانينات من القرن الماضي، والدكتوراه حديثاً من جامعة كارديف في الموضوع المشار إليه أعلاه.
يبحث المؤلف في جذور المعرفة والآيديولوجيا والسياسة وعلاقة نشوءها وتطورها بتأثير العوامل البيولوجية، والجينات الوراثية، وبالأخص الجين الأناني (selfish gene)، التسمية التي سكها العلامة رتشارد دوكنز في السبعينات من القرن الماضي في كتابه القيم بهذا الاسم، إضافة إلى الدور السايكولوجي والخبرة الإنسانية، في مجال تطور المعارف بما فيها الأيديولوجيا والأديان والقيم والالتزامات الأخلاقية morality والأعراف والتقاليد والموروث الاجتماعي culture، ودور هذه الأمور في سلوك الأفراد والجماعات والأحزاب والحكومات الأيديولوجية الشمولية، والليبرالية. ومن هنا نلاحظ تلاقي وترابط مجالات معرفية عديدة، وتفاعلها، وتأثير بعضها بالآخر، إذ ليس هناك مجال بمعزل عن المجالات الأخرى. فالمجتمع البشري، هو جزء من الطبيعة والكون، يشبه جسم الكائن الحي، يتكون من أعضاء وأجهزة كثيرة مترابطة فيما بينها، نشأت في بداية تكوينها من أصل واحد، وتعتمد في سلامتها وأداء وظائفها على بعضها البعض بحيث كل عضو منها يؤثر ويتأثر بالأعضاء الأخرى.
فالباحث يعتمد على حقيقة مفادها أن احتياجات الإنسان، أو أي حيوان آخر، متعددة لا يستطيع وحده توفيرها، أو العيش لوحده، وإلا يهلك وينقرض النوع. لذا فمن أجل أن يعيش ويحقق إشباع حاجاته الغذائية والجنسية والأمنية والاجتماعية، وليحافظ على النوع species، فلا بد وأن يعيش مع شخص أو أشخاص آخرين من نوعه ليضمن تحقيق المصالح المشتركة في مجتمع متعدد الحجم والأنماط، كأن يكون هذا المجتمع متكون من زوجين، ذكر وأنثى في علاقة زوجية أو المعايشة partneship، أو عائلة أو عشيرة أو حزب وشعب ودولة...الخ، ويطلق على هذه المصادر الضرورية للبقاء تعبير: (Resources Independency Systems ) ويرمز له اختصاراً RIS.
ولأجل أن يعيش الإنسان ضامناً مصالحه الشخصية في مجتمع ما بسلام، فإنه يحتاج إلى منظومة قيم يطلق عليها القيم الأخلاقية Morales ، ويستنتج أن مصدر سعي الإنسان لهذه القيم في الأصل هو الجينات الأنانية selfish-genes. ويخصص صفحات عديدة لتوضيح مسألة الأنانية selfishness والإيثار Altruism، أي التضحية من أجل الآخرين، ويتوصل إلى أنه حتى الإيثار، ما هو إلا الوجه الآخر لأنانية الجينات في مسعاها لان تبقى وتستمر في استنساخ أنفسها. ولكن مع ذلك، فالإيثار بين الأفراد هو الذي يجعل الحياة الاجتماعية ممكنة.
ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة في المجتمعات البدائية وخاصة في القبائل البدوية العربية، فعلى سبيل المثال، نجد تفاني البدوي في الدفاع عن قبيلته وذوبانه فيها إلى التضحية بالنفس، لأنه تربّى على قيم عرف من خلالها أن سلامته، ومكانته الاجتماعية، تعتمدان كلياً على استماتته في الدفاع عن القبيلة عندما تواجه خطراً مثل الغزو أو هجوم عليها من قبل قبيلة أخرى، مقابل دفاع القبيلة عنه عندما يتورط هو في مشكلة أو يتعرض إلى عدوان. ولذلك فإن خروج ابن العشيرة على إجماع عشيرته وتقاليدها وأعرافها الاجتماعية، أو امتناعه عن المشاركة في الدفاع عنها، هو عبارة عن محاولة انتحارية له. ومن هنا يرجع المؤلف نشوء القيم الأخلاقية والاجتماعية والأديولوجية إلى جذورها البيولوجية والسايكولوجية والخبرة المتراكمة لدى الإنسان عبر الزمن، والتي يعود في الأصل إلى الجينات الأنانية.
وهناك مراجعة واسعة في الكتاب لمئات المؤلفات والبحوث المهمة في مختلف المعارف ذات العلاقة بالموضوع. وفيما يخص الأيديولوجيا، فيتبع المؤلف أصل المصطلح وكيف ظهر للوجود في أول الأمر، وماذا تعني اليوم. فمصطلح الأيديولوجيا سكه الفيلسوف التنويري الفرنسي Antoine Destutt de Tracy في أوائل القرن التاسع عشر، وحرفياً تعني (علم الأفكار= Idea+logy)، ولكن ما يقصد بالآيديولوجيا اليوم هو منظومة الأفكار الفلسفية والسياسية والدينية. كما ويورد لنا المؤلف عدداً من التعريفات للآيديولوجيا، نذكر واحداً منها وهو التعريف الذي قدمه عالم الاجتماع الألماني، كارل بوبر Karl Popper الذي عرَّف الأيديولوجيا بأنها: "نظام مغلق من أفكار تدعي احتكار الحقيقة، يرفض التسامح وقبول الأفكار الأخرى المخالفة والمنافسة لها. وبذلك فالآيديولوجيا هي ديانة علمانية، تمتلك صفات شمولية تستخدمها كأدوات لإخضاع المجتمع للطاعة. على أنه ليس جميع المذاهب السياسية هي آيديولوجية، فمثلاً الليبرالية، قائمة على أساس الالتزام بالحرية، والتسامح والتعددية، كأوضح مثال للمنظومة الفكرية المفتوحة. (ص 297). ومما يجدر ذكره أن الباحث يعتبر الدين ضمن تعريفه للآيديولوجيا.
والسؤال المحوري الذي يطرحه الباحث هو: كيف يمكن الجمع بين نظام سياسي والسلم؟ والبحث يدور حول الإجابة على هذا السؤال، فيجده في تكوين الإنسان البايولوجي والسايكولوجي وقدرته على الإبداع وكسب المعرفة وخزنها ونقلها وتطويرها واستخدامها لمصالحه. ونتيجة للصراع بين المصالح يحصل ظهور أيديولوجيات مختلفة متصارعة فيما بينها تعطل الإبداع. ويستنتج المؤلف أنه لا يمكن تحقيق الإبداع إلا في مجتمع تسود فيه أفضل القيم الأخلاقية morality التي تسمح للإنسان بحرية التفكير والتعبير والمنافسة الحرة بين الأفكار، أي بقيام نظام سياسي وهو النظام الديمقراطي الليبرالي.
لذا يرى المؤلف أن الصراعات الدموية طوال مراحل التاريخ كانت بسبب صدام الأيديولوجيات وبالأخص الأديان التي لعبت دوراً رئيسياً في تشكل المجتمعات البشرية واختلافها، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن تحقيق السلام، سواء داخل الشعب الواحد أو بين الشعوب، إلا بالتخلص من الأنظمة الأيديولوجية الشمولية بمختلف أنواعها، الدينية والشيوعية والفاشية، وتبني الديمقراطية الليبرالية بدلاً عنها.
فالنظام الأيديولوجي متجمد يرفض التطور والتغيير لأن تعاليمه مصبوبة في قوالب كونكريتية، لا يتسامح مع المختلف، ولا يسمح بالمنافسة الحرة بين الأفكار المختلفة ولا يسمح لسيادة وتفوق الأفضل أخلاقيا وإبداعيا، ويلغي حتى حرية البحوث العلمية. ولتحقيق أغراضه، يلجأ النظام الأيديولوجي إلى العنف داخل المجتمع الذي يحكمه، وهو في حالة توتر وأحياناً حروب مع الحكومات الأيديولوجية المخالفة لها، ولذلك فالأنظمة الأيديولوجية هي عقبة كأداء أمام التطور الطبيعي التدريجي السلمي، وأن النظام الديمقراطي الليبرالي هو النظام الأفضل والأمثل والوحيد الذي يسمح بحرية التنافس بين الأفكار المختلفة، وحرية إجراء التجارب والبحوث العلمية دون أي قيد على حرية التعبير والتفكير والتجارب التي تهدف إلى خدمة الإنسان. وهكذا يستنتج الباحث أنه من أجل أن تعيش البشرية بسلام وتواصل التقدم المضطرد، لا بد وأن يسود النظام الديمقراطي الليبرالي.
لا شك أن المؤلف يتمتع بعلم غزير، وبذل جهوداً مضنية في إكمال هذا البحث القيم، فهو عالم و فيلسوف موسوعي، وكفاءة علمية فذة، وما أحوج الجامعات العراقية للاستفادة من هكذا كفاءة. أما الكتاب فهو حافل بالمعلومات القيمة في مختلف العلوم: الأحياء والاجتماع وعلم النفس، وفيه شرح واسع عن الأيديولوجيات وتأثيرها السلبي على المجتمعات، فيخرج منها الباحث بنظرية سياسية جديدة من منظور الداروينية، أو الدوكنزية Dawkinzian(نسبة إلى Richard Dawkins) خاصة وإن نظريته تستند بالأساس على الجينات الأنانية Selfish genes.
أقترح على المؤلف، الدكتور شوان خورشيد، ترجمة كتابه القيم هذا إلى العربية والكردية، خاصة وأنه متمكن من اللغة العربية، إذ قرأت له عدة مقالات وبحوث نشرها على بعض مواقع الانترنت باللغة العربية السليمة. كما وأقترح عليه اختيار عنوان رئيسي قصير للكتاب، وعنوان ثانوي، كما هو متبع في مختلف الكتب.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع