30 - 70

بقلم: خالد الخميسي

دار حوار عنيف بينى وبين صديق للعائلة تخطى الثمانين من العمر اتهمنى فيه بأننى منزوع عن واقعى لأننى لا أستمع للغناء الذى تم إنتاجه خلال العقود الأربعة الأخيرة. أعلن دائما لأصدقائى بلا فخر ولا شعور بالعار أننى أستمع فقط للغناء المصرى الذى تم إنتاجه فى الفترة الممتدة من 1930 إلى 1970. أجد صعوبة ذهنية فى تلقى الأغنية المصرية التى تم إبداعها قبل عام 1930. وبعد هذا التاريخ أجد استحالة ذهنية للاستماع لما ظهر خلال الأربعين عاما من 1970 إلى بداية 2010. بالطبع الاستثناءات تثبت دائما القاعدة. فسيد درويش هو الاستثناء لما قبل عام 1930. ومحمد منير وعلى الحجار هما الاستثناء لمرحلة ما بعد 1970. لا أنكر أننى أعجبت بأغنية هنا ولحن هناك خلال الأربعين عاما الماضية ولكن ذلك يدخل ولا شك فى عالم الاستثناء. كان سبب الحوار هو إعجاب صديقى بعمرو دياب وعدم تقديرى الخالص له. وتوقعت أن ينتهى الأمر فى أنه خلاف بسيط فى الذوق لا يفسد للود قضية. ولكن أصر صديقى على الخوض فى تفاصيل الموضوع وبدأ يسألنى عن فلان وفلانة من المغنين ووجدنى لا أعرفهم وهم رموز هذا العصر فى الغناء. حاولت أن أشرح له وجهة نظرى:

يبدو لى يا سيدى الفاضل أن الموسيقى هى أكثر الفنون حساسية ورهافة فى تأثرها بأزمة الوطن. أزمة الهوية التى طالما تحدثنا عنها وأزمة حضارتنا وأزمة كينونتنا، أجدها كلها تبزغ بوضوح الشمس من كل لحن استمعت إليه منذ عام 70 وحتى الآن. الموسيقى هى التجسيد الدقيق للشعور الوطنى. يمكننى القول إن المحتوى الثقافى للموسيقى هو الرابط الأساسى بين المواطن ــ الإنسان وثقافته. فهى تتشكل وتشكل اللاوعى الجماعى، كما تشكل النسيج المشاعرى للعالم الذى نعيشه والذى يحدد هويتنا. فى مرحلة ما بعد ثورة 1919 تجلى حلم تشكل الوطن مع الوعى الحر بصياغة مشروعنا الثقافى العام. وانطلقت الآلات الموسيقية والحناجر تعزف عصارة وجداننا. تدفقت مصر بكل زخمها فى كل مازورة موسيقية داخل كل لحن. وبزغت قامات موسيقية طاولت السماء، أمثال محمد عبدالوهاب ومحمد فوزى والقصبجى والسنباطى وزكريا أحمد ومنير مراد وغيرهم الكثير وصدح المطربون لا يحد صوتهم حد وكأن العالم رهن إشارتهم وعرض المحيط غير كاف لعرض أصواتهم. وماجت أرواحنا معهم وتشكلت بهم ومعهم هويتنا. وبدأت بعد يوليو 52 مرحلة أخرى من مشروعنا الوطنى وظهرت قامات عملاقة جديدة كالطويل والموجى وبليغ وغيرهم كثير. عبروا جميعا عن وبكل صدق عن جرس روح هذا الوطن بتشكيلاته المختلفة. فالوطن هو فى الأساس بناء ثقافى، هو نتاج للمخيلة الجمعية. الوطن هو تاريخ مشترك واقعى ومتخيل، هذا التاريخ هو الذى يسمح لنا أن نحلم بالغد المشترك. وبانكسار مشروعنا الحضارى، وبهزيمتنا المفجعة وقبول حكوماتنا بالاستعمار الأمريكى لأراضينا ورضوخها الكامل له باعتبار أنه يمتلك مفاتيح الحل والربط للكرة الأرضية، اهتزت قيمنا الوطنية. سرت البلبلة فى نفوس الناس فى لحظة تفجر ثورة اتصال جبارة فتحت الأبواب أمام ثقافة العالم المنتصر لتطرق كل الأبواب داخل كل مخ بشرى يسير على قدمين على هذه الأرض. صناع مدنية اليوم هم صناع الثقافة المسموعة والمرئية التى تطل علينا من كل حدب وصوب. ارتجت الأرض تحت أقدام البشر الذين يدبون على أرض المحروسة. أول من تأثر باندحارنا هم الموسيقيون. ظهرت معالم الهزيمة واضحة جلية فى كل مازورة داخل كل لحن. صارت الحناجر خافتة أصواتها، وعرض النيل أوسع من عرض خيالهم. تبدل العمالقة فصاروا أقزاما، ومن عاش بعد الهزيمة من العمالقة انزوى فى ركن بعيد. ولأن الموسيقى هى روح الوطن المتجسد، فما نستمع إليه الآن يذكرنى فورا بهول هزيمتنا. ولذلك أفضل أن أستمع لتجلى اسم مصر (التلات أحرف الساكنة اللى شاحنة ضجيج) فى كل ألحان فترة 30 ـ 70.

انتهى الحوار بينى وبين صديقى بأن طلبت منه أن نستمع لأغنية كعب الغزال لمحمد رشدى وأغنية ما لشعبان عبدالرحيم ثم لأغنية يا مسافر وحدك لعبدالوهاب وأغنية ما لعمرو دياب وكان ذلك كفيلا فى الواقع بإنهاء الحوار تماما. وقبل أن يتركنا كان السؤال الوحيد المنطقى: ما العمل؟

نقلا عن جريدة الشروق

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع