نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
أمام مسلسل السجال المذهبي وحفلات الشتائم التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ، يشعر المتفرج بشيء يشبه الغثيان. فمشاهد الخصومة تتكرر منذ بدء التاريخ الاسلامي، السجال هو نفسه وحفلات التنكر تستنسخ ذاتها حتى لكأن التاريخ قبع جامدا في مكانه ولم يتحرك، وبعد كل جولة من التطاحن الطائفي البغيض يعود الماضي محملا بكل أشجانه وجراحه ليمتزج بحاضر ممزق مخطوف من عفاريت تطل برأسها لتشعل مزيدا من الحرائق، ولكن -ويا للعجب- لا أحد يعتبر أو حتى يقف متسائلا: إلى أين ستنتهي هذه المحارق؟!
في واقعنا تتخذ حركة التاريخ شكل حلقة دائرية، يصبح فيها الزمن عرضة لعبث عفاريت الظلام وسدنة التكفير. لا ينكشف الحاضر إلا بمزجه بالماضي، ولا يعود التاريخ متحركا إلا ليبدأ ويعود من لحظة اللاشيء التي يختلط فيها الوهمي مع الحقيقي والواقعي مع الخيالي في مشهد درامي عصي على التفسير.
ولأننا أمام مشهد عبثي ووقائع متشابكة فإن الأزمة الطائفية ستظل شاخصة مادام المكبوت يحتجب خلف الرماد قبل أن يتفجر في هستيريا حفلة الشتائم والحرب الكلامية.
ما قاله مؤخرا الشيخ العريفي، وهو أحد وجوه التطرف السلفي، يمثل حلقة أخرى من حلقات "الرجوع الأبدي" للفتن المتجولة بين المدن والأحياء والأزقة والأزمنة، فعندما يصف خصمه السيد السيستاني بالزنديق والفاجر فإنه يستعيد ما قاله الشيخ ابن تيمية عن غريمه الشيخ المطهر الحلي حينما يصفه بالمنجس الحلي رغم أنه كان تلميذا لديه، وعندما يمعن في سب وشتم الرافضة ويخرجهم من الدين والملة فإنه يكرر نفس الفعل الاستئصالي لشيخ متحمس آخر في القرن الرابع الهجري عندما سب المفيد، وإليك ما قاله بالحرف الواحد صاحب الشذرات الشيخ التطواني حيث ينقل أن شيخا متحمسا "قصد شيخ الشيعة ابن المعلم وهو الشيخ المفيد وأسمعه ما يكره فثارت تلامذته وقاموا وأستنفروا الرافضة وأتو دار قاضي القضاة أبي محمد بن الأكفاني والشيخ حامد بن الاسفرائيني فسبوهما وحميت الفتنة" ثم تفاقمت حتى شملت بغداد كلها.
وفيما نحن على أعتاب عقد جديد في القرن الواحد والعشرين يعود الشيخ العريفي، ليحيي حفلة الأمس فيبدأ جولة سجالية جديدة، تعيد إلى الذاكرة ما كان راسخا في المخيال والتاريخ الديني لقرون خلت: بين ابن تيمية والمطهر الحلي، بين الكرخ والرصافة، بين النجف والدرعية، ثم تتواصل اللائحة لتصل أخيرا بين الشيخ العريفي والسيد السيستاني.
ولكن مشكلة الجماعات الدينية سيكولوجيا أنها تستثار بسهولة، فما إن تقرع طبول الليل حتى تبدأ حفلات الشتم وتنتشر عدوى التراشق بالسباب والبيانات والاحتجاجات، إن الجماعات وهي تخوض هذا المعترك تتناسى التاريخ لتجازف بنفسها مرة بعد مرة في محاولة انتحار جماعي، مما يعني أنها لا تجيد قراءة التاريخ أو أنها لا تتعلم أو لا تريد أن تتعلم.
أكثر من ألف عام وهي تخوض هذا الصراع دون حسم في حالة تشبه حرب البسوس التي اندلعت بسبب ناقة أو جمل، بيد أن السؤال والذي يتكرر مع كل جولة أو تقيؤ طائفي: من المنتصر؟ بالطبع لا أحد، ولكن ما هي النتائج؟ لا شيء سوى مزيد من الحرائق التي لا تطال أصابع الفاعلين بل تلتهم الجماعات الدينية نفسها، فالرمز يطلق السعار الطائفي ثم يهرب ويختبئ ويموت، لكنه ينبعث بعد أن تخبو النار وتضع الحرب أوزارها في سحنة جديدة لمتحمس طائفي جديد، وهكذا تتواصل حمأة السعار الطائفي المجنون وتنتشر لتبتلع كل شيء له صلة حقيقية بمن يحترق ويرقص من شدة الألم، أي تلك الجماعات الدينية ذاتها.
الرمز في المنظور الديني له صله وثيقة بفكرة الاصطفاء، حيث هناك تراتبية ماورائية تنعكس في شكل تمايز طبقي مغلق، تحدد فيه الأفضلية سلفا وبشكل نهائي. يستمد الرمز حضوره وما يسوغ به مرتبته الكاريزمية من خلال تعالقه واتصاله بمصدر الاصطفاء والذي هو المحور الذي يدور حوله التاريخ ويحدد هوية الجماعة، وبالتالي فإنها يجب أن تختزل في الرمز ذاته الذي يصبح بصفته ممثلا شرعيا لفكرة الاصطفاء روح الجماعة وبؤرة تماسكها، وهكذا فإن الجماعة تذوب في الرمز وتذب عنه في آن معا، لكي تنجرف هذه العلاقة في حدها الأقصى إلى شكل من أشكال إلغاء الجماعة وتغييبها مقابل حضور الرمز، هذا التقابل الجدلي بين غياب الجماعة وحضور الرمز يترجم ذاته في تضخم رمزوي في خضوع تام لسلطته وهو مرشح إلى أن يكون شكلا من أشكال عبادة الرمز أو البطل، وطبيعي والحال كذلك أن تشل الإرادة وتعطل ملكات التفكير مما يؤسس إلى جماعة مستلبة تعاني من اختلال في الادراك ومصادرة في الوعي.
ليست المشكلة في الرمزية ذاتها فهي صناعة ثقافية تشمل جميع الثقافات والمجتمعات، حيث أن السياسي أيضا رمز وكذلك المبدع والمفكر، إن النخبوية والتي لا غنى عنها في كل المجتمعات هي أساسا حالة رمزية، ولكن ثمة فارق جوهري بين رمزية ناتجة عن فعل اصطفائي غيبي وأخرى هي بمثابة نتاج ثقافي، أي أنها انعكاس وترجمة أمينة للمجتمع: الأولى حالة فوقية سماوية والثانية حالة تحتية أرضية.
إن الرمزية الدينية بوصفها حالة تقديس تجنح إلى التعالي، والتعالي ذو طبيعة ميثولوجية، مما قد يؤدي إلى إضفاء بعد غيبي غير قابل للفهم، أي أن الرمز يصبح لغزا مستعصيا على الادراك، والقداسة تصبح بلا مضمون. لا يصبح الرمز قديسا إلا بعد أن يكون لغزا عصيا على الفهم أي أن مضمون القداسة يتجه إلى الشخص أيا يكن دون الفكرة ودون المبدأ، وإذا كانت القاعدة تقول: اعرفوا الرجال بالحق، فإنها تتحول هنا إلى العكس، وإذا كانت القيم حاضرة في الوعي فإنها لا تبدو مقدسة إلا بانطباقها على الرمز، الرمز/ الشخص يحل محل الفكرة فيستبدل التفكير بالعاطفة الديماغوجية.
هناك جانب وظيفي آخر ليس أقل أهمية، فكل الأمم والجماعات وخاصة البدائية تعيش على فكرة تقديس الأشحاص المؤسسين، فالجماعة في لحظة النشأة تعتاش على الأسطورة، ولكنها ما إن تبلغ مرحلة النضج والاكتفاء الذاتي فإنها بحسب أوغست كونت تحرز انتقالا نوعيا باتجاه التفكير والمعايير الوضعية التي ستشمل الرمزية فتتحول إلى رمزية موضوعية كنتيجة طبيعية لاستحقاق معين. بين الرمزيتين بون شاسع إذن، تلغي الأولى حضور الفرد وشخصية الجماعة فيما الأخرى تعززها وترتكز عليها.
هذه الاضاءة حول الرمز ووظيفته ودوره تأخذ أهميتها في الكشف عن طبيعة التراشق والسجال المذهبي الذي يلجأ إليه غالبا الرمز المدعوم بهيبة السلطة، تماما كما فعل العريفي ولكن ما الجديد في سلوك العريفي وهل يستحق تصعيدا وصخبا واستجابة حادة؟ فالشيعة بحسبه كفار منذ الأزل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو ينسلخوا من جلودهم، وهو كذلك في نظر الشيعة سلفي لا يكن الود لآل البيت.
إن ما يحدث ببساطة هو صراع على الرمزية، هذا الصراع الذي يحرف جهود الجماعة- التي لا ناقة لها فيه ولا جمل- إلى غايات موهومة يتغافل في ذات الوقت عما يشكل تحديا ومطمحا واقعيا، بعبارة أخرى لقد كشفت هذه الخصومة التاريخية عن أن الوسط الديني الاسلامي مغيب تماما أو هو لا يعرف ماذا يريد.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=12586&I=323