الثقافة سلطة!

أحمد عبدالمعطى حجازى

 يوم السبت الماضى دُعيت مع أعضاء لجنة الدستور للقاء مع السيد رئيس الجمهورية يعلن فيه موعد الاستفتاء على الدستور، استمعت مع الحاضرين لكلمة السيد عمرو موسى التى قدم فيها عمل اللجنة، ثم استمعت لكلمة الرئيس عدلى منصور التى أعلن فيها موعد الاستفتاء فى الرابع عشر والخامس عشر من الشهر المقبل، ودعا فيها المصريين ليبهروا العالم من جديد كما بهروه أول مرة، ويشاركوا فى الاستفتاء، ويقولوا كلمتهم فى الدستور فهم مصدر السلطات وأصل الشرعية.

 
هذا اللقاء انتهى فى حوالى الساعة الثانية بعد الظهر وعدت إلى بيتى لأعلم، عن طريق الصحفيين الذين اتصلوا للتهنئة وطلب التعليق أن الرئيس أصدر قرارا جمهوريا بمنح عدد من الشعراء والكتاب والفنانين والمفكرين - وأنا منهم - وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى. وبالأمس اتصل بى مكتب الدكتور صابر عرب، وزير الثقافة، ليبلغنى بأننا مدعوون غدا - السبت - للقاء جديد مع السيد الرئيس يوشح فيه صدورنا بالوسام الرفيع.
 
هل قصد السيد الرئيس والسيد الوزير أن يرتبط تكريم الدولة للمثقفين المصريين بإعلان موعد الاستفتاء على الدستور وبدء التطبيق العملى لخارطة الطريق، أم أن التكريم كان مجرد خطوة تلت خطوة سبقتها دون قصد، فهما إذن خطوتان تجاورتا دون أن تكون إحداهما مشروطة بالأخرى أو متعلقة بها؟
 
أتمنى ألا يكون الأمر محض مصادفة، وأن يكون تكريم الذين مُنحوا الوسام تكريما للثقافة المصرية، ودعوة للمثقفين المصريين للانخراط بكل طاقاتهم فى العمل العام وأداء دورهم الحيوى الذى توقفوا عن أدائه راضين أحيانا ومرغمين غالبا طوال العقود الأخيرة.
 
حين أنظر خلفى أرى ما حققته مصر فى القرنين الأخيرين وفى العصور الماضية، وأتابع حركة الثقافة المصرية وحركة المثقفين المصريين، وأتأمل ما قاموا به وما حققوه، لا أملك إلا أن أستعير كلمة المؤرخ الإغريقى هيرودوت التى قال فيها: «مصر هبة النيل»، مع تعديل بسيط.
 
صحيح مصر الأرض هبة النيل، لكن مصر الحضارة، مصر الدين والأخلاق، الدولة والقانون، القراءة والكتابة، الرسم والنحت، الرقص والغناء.. باختصار مصر الإنسان فى حبه للحياة ودفاعه عنها، وفى طلبه للحق والعدل، وفى فرحه وحزنه، وفى صراعه مع الشر والموت.. وبكلمة واحدة مصر هذه هى هبة الثقافة وهى هبة المثقفين.
 
تأملوا مصر كيف تكون بدون الهرم وأبى الهول.. وبدون الكرنك ووادى الملوك، وبدون المسلة وحجر رشيد ورأس نفرتيتى ووجوه الفيوم، وبدون الإسكندرية والمكتبة والفنارة، وبدون الكنيسة المقدسة والأزهر الشريف؟
 
وتأملوا مصر بدون الطهطاوى ومحمد عبده، وبدون البارودى وشوقى وحافظ ومطران، وبدون أحمد لطفى السيد وقاسم أمين وهدى شعراوى ودرية شفيق، وبدون طه حسين والعقاد، وبدون توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وبدون محمود مختار ومحمود سعيد، وبدون يوسف وهبى ونجيب الريحانى، وبدون سلامة حجازى وسيد درويش، وبدون أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وبدون يوسف كرم وعبدالرحمن بدوى وفؤاد زكريا.
 
تأملوها بدون الأوبرا والمتحف، ومطبعة بولاق واستديو مصر، وبدون البرلمان والجامعة والدستور.
 
إذا أردنا أن نرى مصر كيف تكون بدون هذه وبدون هؤلاء، فما علينا إلا أن ننظر فيما وقع لمصر خلال العقود الستة الماضية وفيما يقع حتى الآن فى الجامعات المصرية، وفى شوارع القاهرة والمنصورة والإسكندرية والمنيا، وفيما تتعرض له الكنائس المصرية والمسيحيون ومراكز الشرطة ورجال الأمن وجنود الجيش وضباط، وسائقو التاكسيات إذا جرؤ أحدهم على أن يعارض أعضاء الجماعات الفاشية بصوت أو صورة أو أغنية!
 
لماذا يكره الطغاة الصور والأغانى والروايات والمسرحيات والقصائد؟
 
عباس الأول الذى ولى السلطة بعد عمه إبراهيم وأبيه محمد على خاف من الطهطاوى دون أن يتعرض له الطهطاوى بالاسم، لكن الطهطاوى كان يتحدث فى مؤلفاته عن الحرية والثورة وعن العقل والدستور فنفاه والى مصر إلى السودان، وأنزله من مدير لمدرسة الألسن ومشرف على تحرير «الوقائع المصرية» إلى ناظر مدرسة ابتدائية فى الخرطوم!
 
والخديو توفيق اتهم محمد عبده بالتآمر مع أحمد عرابى وحكم عليه بالسجن والنفى. أما الخديو عباس حلمى فمنع قاسم أمين من دخول قصره، لأن قاسم أمين يدعو لتحرير المرأة، والقصر ملىء بالحريم!
 
وعلماء الأزهر يتهمون طه حسين بالطعن على الإسلام فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» ويطلبون فصله من الجامعة، أما على عبدالرازق فقد تصدى للسلطة كلها ممثلة فى الملك والحكومة والأزهر حين أعلن فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، أن الخلافة التى كان الملك طامعا فيها بعد أن ألغاها أتاتورك فى تركيا ليست من الإسلام، وأن الإسلام ليس فى حاجة إليها فعوقب بإخراجه من زمرة علماء الدين، وفُصل من عمله فى القضاء الشرعى.
 
وقد ظلت السلطة فى العهد الملكى واقفة بالمرصاد للكتاب والشعراء والصحفيين تطاردهم وتحاصرهم باسم المحافظة على النظام العام والدين والآداب، أما فى العقود الستة الماضية فقد اجتهدت السلطة الجديدة فى تحويل الثقافة المصرية إلى ملكية خاصة لها، وفى تحويل المثقفين المصريين إلى أبواق، فإن أبوا فليس أمامهم إلا الصمت. فإن نطقوا فليس لهم إلا أبوزعبل، والقلعة، والواحات. وقد عاش المثقفون المصريون هذه المحنة بكل صورها. ولأنها تاريخ طويل حافل فالمجال لا يتسع للتفاصيل. وما على القارئ إلا أن يعود للمذكرات والاعترافات التى قدمها الضحايا ومنهم ألفريد فرج فى «ذكريات وراء القضبان»، وصنع الله إبراهيم فى «يوميات الواحات»، وفوزى حبشی فى «معتقل كل العصور»، وصليب إبراهيم فى «من ذكريات معتقل سياسى».
 
والمحنة التى عاشها المثقفون خلال هذه العقود الماضية لم تأتهم من جهة واحدة، بل أتتهم من كل الجهات. من السلطة الحاكمة، والجماعات الدينية المعارضة للسلطة، والمؤسسات الدينية الدائرة فى فلك السلطة، لأن الثقافة حرية، وهذه الجهات كلها تكره الحرية وتحاربها، ولأن الثقافة عقل، وهذه الجهات تعادى العقل وتخافه وتطارده، وقبل أن يتعرض نجيب محفوظ للاغتيال على أيدى جماعات الإسلام السياسى تعرض للمصادرة على يد السلطة والمشايخ السائرين فى ركابها.
 
وأنا الآن لا أنكأ الجراح القديمة ولا أوقظ الأحزان النائمة، ولكنى أستجيب لنداءات المصريين فى الخامس والعشرين من يناير وفى الثلاثين من يونيو، لقد أسقطوا الطغيان بوجهيه القبيحين، وفصلوا بين ماض لن نتحرر منه إلا إذا صارحنا أنفسنا بما لقيناه فيه ومستقبل لن ندخله إلا إذا تطهرنا بالاعتراف واستخلصنا الدرس واستفدنا من التجربة.
 
لا أطلب الحصانة للمثقفين، وإنما أطلبها للثقافة، أى أطلبها لمصر، لأن مصر لا تكون إلا بالثقافة، وبهذا المعنى أفهم تكريم الدولة للمثقفين.
 
تكريم الدولة للمثقفين ليس تكريما لأشخاص، ولكنه إحياء لتقاليد اندثرت واستنهاض لدور لم يتمكن أصحابه من القيام به فيما سبق الثورتين وآن لهم أن يفعلوا. لأن مصر الآن تحتاج للعقل، وتحتاج للحرية.
 
إن حاضرنا لن يصلح إلا بما صلح به ماضينا. الثقافة.. والثقافة ليست مجرد سلعة، وإنما هى دور، ليست مجرد خدمة، وإنما هى سلطة. هناك سلطة القانون وتقوم بها الحكومة، وسلطة الدين ويقوم بها رجاله. وسلطة العقل ويقوم بها المثقفون.
 
نقلآ عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع