لطيف شاكر
بقلم: لطيف شاكر
يقول د.جاك تاجر في كتابه "أقباط ومسلمون عن ساويرس بن المقفع": ولما كان في ثالث سنة من مملكة الخراسانيين أضعفوا الخراج وأكملوه على النصاري ولم يوفوا بوعدوهم.
وأدت هذه السياسة إلى تعداد الثورات في البلاد واستفحال أمرها. فقد قامت خمس ثورات هامة بين سنة 121هـ (739م) وسنة 156هـ (773م)، ولكن نشبت أكبر ثورة في عام 216هـ (831م) أيام خلافة المأمون, إذ سالت فيها بحور من الدماء، وترتبت عليها نتائج رهيبة, وقد لوحظ انضمام عدد كبير من المسلمين إلى الاقباط في ثورتهم.. وإذا كانت الأطماع السياسية في الخارج هي التي حركت الثورات, فإنها لم تقم في مصر إلا بسبب الضرائب كسابق عهدها.
وكتب المقريزي في هذا الصدد "لما كان في جماد الأول سنة (216هـ), انتفض أسفل الارض بأسره عرب البلاد وقبطها، وأخرجوا العمال، وخلعوا الطاعة، لسوء سيرة
عُمال السلطان فيها، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب".. "الخلط ج1ص79-89".
في بداية ولاية العباسيين بمصر، استعانوا بسكانها الأقباط لمعاونتهم في إدارة شئون البلاد, ووجد الأقباط حظوة في عيونهم, ولكن لم تمضِ ثلاث سنوات حتى بدأوا في زيادة الضرائب ومضاعفتها على الأقباط، الأمر الذي أثقل كاهل الآخرين وعجزهم عن السداد, فعانوا من سوء معاملة الولاة، فتولدت داخلهم روح الثورة على هذه المظالم؛ ومن أمثلة هذه الثورات:
1- ثورة أهل رشيد:
في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي وولاية يزيد بن حاتم بن الهلب بن أبي صفرة على مصر (762ـ769), قام الوالي باضطهاد البطريرك مينا الأول، اضطهادًا شديدًا, فساء ذلك في عيون الأقباط عامة، وسكان رشيد وسخا خاصة, فجاهروا بالعصيان، فأرسل الوالي قوة من الجيش لمحاربتهم, ولكنهم هزموا هذا الجيش, فثار الوالي, وكعقابٍ للأقباط، قام بهدم الكثير من كنائس مصر، وخاصة كنائس مدينة الفسطاط.
2- ثورة أقباط الحوف:
وقعت أحداثها في ولاية الليث بن الفضل (799ـ803), حيث تظلم أهل الحوف من المسّاحين لعدم دقتهم, فلم يستجب الوالي لتظلمهم, فتجمهروا أقباطًا وأعرابًا وساروا نحو الفسطاط, فلما خرج الوالي لمحاربتهم، هزموه في الجولة الأولى, لكنه أعاد الكرة وتمكن من هزيمتهم في المرة الثانية, فقتل منهم عددًا كبيرًا, وذبح زعمائهم، وحمل معه رؤوسهم وعلقها على أسوار الفسطاط, ليكونوا عبرة للأقباط وليلقي الرعب في قلب كل من يفكر في الثورة, لكن هذه القسوة دفعت عددًا من الأقباط في أماكن مختلفة للمجاهرة بالثورة.
3- ثورة البشموريين:
كان يعيش أهل البشمور "الأقباط" في المنطقة الرملية على ساحل الدلتا بين فرعي رشيد ودمياط، حيث كانت تحيط بها المستنقعات والأحراش التي تعيق حركة جنود الفاتحين والذين لم تكن لهم الدراية بطبيعة المنطقة، مما ساعد أبطال البشموريين على إعطاء جنود الغزاة درسًا سيخلده التاريخ.
يقول ساويرس بن المقفع مبررًا لثورتهم:عامل العرب البشموريين على الأخص في غاية القسوة، فقد ربطوهم بسلاسل إلى المطاحن، وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال، كما تفعل الدواب سواءً بسواء، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام العذاب. ولما اقتنعوا نهائيًا أن هذا الظلم لا يحده إلا الموت وأن بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها, وأنه يعد من المستحيل على جيوش المسلمين أن يغزوها، فقد اتفقوا على إعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية..
وكان البطريرك يوساب يذوب حسرة على رعيته التي تحالف على إفنائها الطاعون
والمجاعة والحرب .. غير أن البشموريين وطدوا العزم على مواصلة القتال، وأخذوا يصنعون لأنفسهم الأسلحة وحاربوا الخليفة علانية ورفضوا دفع الجزية على الإطلاق... وقد تحسر البطريرك عليهم، لأنهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد وتعرضوا للموت بحكم إرادتهم, فكتب إليهم خطابًا حاول أن يقنعهم بعدم قدرتهم على مقاومة الخليفة بالسلاح ويصف لهم المصائب التي ستحوق بهم ويطلب منهم أن ينصرفوا عن عزمهم, ولما اتضح له أن الخطاب لم يؤثر فيهم, أرسل الخطاب تلو الخطاب مُلحًا في رجائه.
ولا نبالغ إن قلنا إنها كانت أشبه بحرب نظامية استعملت فيها استراتيجية المنطقة. وقد أسفرت هذه الثورة عن هزيمة جيش الغزاة هزيمة منكرة، وفرّ أمامهم الوالي يتبعه جُباة الضرائب، الأمر الذى جعل المأمون الخليفة العباسي في بغداد يُرسل أخاه المعتصم على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي ليدعم جيوش الاحتلال في إخماد الثورة القبطية، وعلى الرغم من وحشية الحملة وذبح الأطفال والشيوخ وانتهاك الحرمات، إلا أن ثورة الأقباط لم تخمد ولم تهدأ، مما اضطر المأمون إلى إرسال جيش آخر من الأتراك بقيادة "أفشين" التركي بغرض التنكيل بالثوار "فحاربوه وقتلوا
من الجيش عددًا وافرًا، ثم جرد عليهم عسكر آخر فكسروه..
وتقول الدكتورة سيدة الكاشف: "وقد فشل أفشين تمامًا في إخماد ثورة البشموريين مما اضطره أن يكتب الى المأمون الخليفة العباسي في هذا الوقت" طالبًا إمدادات للقضاء على الثورة التي اندلعت في كل مكان في محاولة للتخلص من نير الطغاة.
وهنا نذكر كذلك ما يقوله الدكتور جمال الغيطانى: "إن الارتباط بالأرض نتاج طبيعي للوضع التاريخي والجغرافي والحضاري لمصر، فإذا ما أراد عدو أن يزحزح الإنسان المصري عن أرضه، فإلى أين يذهب، إذ ليس حوله إلا الصحراء من كل جانب.. وإذن فإما يموت شهيدًا فوق أرضه، أو يتجه إلى
الصحراء..".
وتمسُك القبطي بأرضه ووطنه حتى الموت، يشهد عليه ذلك العدد الهائل من الشهداء الأقباط الذين افتدوا مصر منذ القدم وحتى وقتنا هذا.. فمصر للأقباط بلد ملايين الشهداء.
وفي سنة 824، اضطر الخليفة المأمون أن يزحف من بغداد إلى مصر على رأس قوة حربية لإخماد ثورة الأقباط التي فشل في إخمادها كل قواده الذين أرسلهم سابقًا، وكاد ثوار الأقباط أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن الخليفة العباسي التجأ إلى أخبث الطرق والغير شريفة للقضاء على الثائرين، وذلك أنه استدعى الأنبا ديونيسيوس البطريرك الأنطاكي واستدعى معه الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط، وطلب منهما تحت التهديد أن يتعاونا معه في إخماد ثورة الأقباط، وقد أجابا بكل أسف طلب المأمون وحررا للثوار رسالة بها نصائح ومواعظ يحُثان فيها الثوار أن يُلقوا بسلاحهم
ويسلموا أنفسهم لولاة الأمير، وفي الوقت الذي كان الثوار في أمس الحاجة للمعونة المادية والمعنوية حتى يتمكنوا من التخلص من الظلم والاستبداد الأجنبي إذ بالقادة الروحيين ينخدعون، فيدعونهم إلى الاستسلام.
ولا شك أن هذا الموقف من طرف القادة الروحيين كان له أثره البالغ على الأقباط أكثر من كل جحافل المأمون وطاغيته، ولكن على الرغم من كل هذا، فقد رفض آباؤنا الأقباط في إباء وشمم هذه النصائح الاستسلامية وفضلوا أن يعطوا أرواحهم فداءً لمصر وعقيدتهم، وهنا تذكر "الخريدة النفيسة" ذلك الحدث فتقول: "واستعدوا لمقاومة من يقصد سلب استقلالهم وإذلالهم".
وبعد حروب دموية بينهم وبين عساكر المأمون، كان النصر دائمًا في جانب الثوار، وقاد الخليفة الجيش بأجمعه إلى حومة الوغى وأصلى نار الحرب.. ولم يدخر من قوته وسعًا حتى أضعف الثوار، كما تذكر د. سيدة إسماعيل الكاشف بسالة هؤلاء الثوار فتقول: "ركز المأمون جميع قواته ضدهم وأعمل فيهم الجند السيف وأحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم".
وتضيف الخريدة النفيسة: "دخل الجيش بلاد البشمور وحرق مدنها ودمر كنائسها وقتل صغارها وسبى نساءها وأجلى الخليفة رجالها إلى جزر الروم الخاضعة له وإلى بغداد".
وهكذا أبيد البشموريون على بكرة أبيهم, وأما تقى الدين المقريزي
فيقول في اختصار: "انتفض القبط فأوقع بهم "الأفشين" على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، فبيعوا وسُبى أكثرهم، حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر.
كما يعزي هزيمة البشموريين أمام جيش المحتل إلى تسخيرهم بعض سكان البلاد المجاورة ليرشدوا جيش الخليفة للوصول إلى البشموريين دون المستنقعات التي عجز الجيش على الدخول إليها في الغزوات السابقة وألحقوا الهزيمة عدة مرات بجيش الخليفة، واستطاعوا أن يفتكوا بعدد كبير من الجيش .
ويقول الأنبا ديسقورس في موجز تاريخ المسيحية من كتب التراث على البشموريين، إنهم كانوا يأتون ليلاً وينقضون على جيوش المسلمين، ولم تنتهِ الحرب معهم إلا عندما استولي العباسيون على مصر، وإن كانت ثوراتهم تجددت أيام هؤلاء أيضًا خصوصًا أيام الخليفة .
كانت هذه الثورة آخر ثورات الأقباط ضد الحكم الإسلامي, ولم يخرج الأقباط في ثورات أخرى إلا عند مشاركتهم مع المسلمين في ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد كانت الثورات القبطية تعبيرًا صادقًا عن الحركات القومية الوطنية، والتي تُمثل بعدًا أساسيًا في الشخصية القبطية، إذ كلما زاد التنكيل والاضطهاد كلما زادت الثورة.
والحق أنه مهما قيل عن اضطهاد المسيحيين فى عصر دقلديانوس والرومان، فإن التنكيل والسحق للشعب المصري كان أضعافا مضاعفة في العصر العربي، إذ كانت فترات حكمهم بمثابة محاولات متلاحقة وخطيرة لإبادة الشعب القبطى المُسالم الذي يحب وطنه ويقدسه... نعم كانت محاولات لإبادة القبط وإحلالهم بشراذم العرب الهاربة من جدب وفقر بلادها الصحراوية البدائية إلى نيل مصر العظيم وحضارته العظيمة.
4- أسباب فشل ثورات الأقباط:
من يسمع تاريخ هذا العدد من الثورات القبطية ضد المحتل الإسلامي طبيعيًا أن يُفكر كيف لم تحقق هذه الثورات تحرير مصر؟ ولماذا بائت جميعها بالفشل؟ لذا يمكننا تحليل أسباب إخفاق هذه الثورات في عددة عوامل منها:
- هدف الثورات: تلخص هدف ثورات الأقباط في شيئين، هما تخفيض الضرائب أو التخلص من أحد الولاة، ولكن لم تتجاوز هذا لمشروع استقلالي شامل.
- عدم دراية الأقباط بأساليب وتقنيات الحرب, كذلك افتقارهم لحنكة عقد التحالفات العسكرية والاتفاقيات التي تحقق أهدافهم.
- عدم توحد ثوراتهم في كل مصر في لحظة واحدة بحيث لا يمكن للمسلمين التغلب عليهم.
- عدم وجود القائد العسكري الذي يمكنه توحيد الجهود وتنظيم جيش, وعدم سعي البطريرك للعب هذا الدور أو تشجيع من يلعبه.
- إيثار البطريرك دائمًا للسلامة, حتى أنه خضع لأوامر الوالي وتوسط لدى ملك النوبة للتراجع رغم كونها فرصة ذهبية لطرد المسلمين من مصر نهائيًا.
- الروح الانهزامية لدى الأقباط وعدم ثقتهم في إمكانيتهم لحكم البلاد.
- سوء العلاقة بين الكنيسة القبطية والكنيسة الملكانية الرومية وعدم وحدتهم مما كان سببًا في ضعفهم الشديد .
أما الاستنتاجات الاستراتيجية فتتمثل في الآتي:
- خيانة بعض السكان في القرى المجاورة لبشمور الذين أرشدوا جيش الخليفة بالطرق والشعاب للوصول إلى الثوار دون المرور على المستنقعات التي كانت بمثابة حائط مانع للعدو.
- افتقار الثوار إلى المؤن والأسلحة لانعزالهم في بلدة البشمور لمدة طويلة.
- لم يجدوا الثوار أدني دعم من البطاركة، بل كانوا يثبطون من عزيمة الثوار ويهبطون من قوتهم.
نقطة مضيئة وهامة: كانت الثورة تضم عددًا من المسلمين الذين نزحوا في فترات سابقة من الجزيرة العربية, وسكنوا مصر لشعورالولاة بكراهية الأقباط أصحاب البلد لهم بسبب اضطهادهم لهم, وكانواهؤلاء بالنسبة للعباسيين أعداء ومكروهين وكانوا يتعاملون معهم بغلاظة أو غير متساويين أمام العباسيين كونهم أمويين، واستمرت هذه التفرقة مع الفاطميين والطولونيين، ولكن تمتعوا بحقوق أفضل من الأقباط بحكم رابطة الدين الإسلامي, وكان النازحون العرب يُفضلون الأقباط عن الأجناس الوافدة من العراق والبلاد العربية الأخرى.
وكم يدهش المرء أن في الوقت الذي كان الغازي مضطهدًا اضطهادًا عنيفًا، وصل إلى درجة التعذيب والموت للشعب القبطي والإكليروس على السواء، نرى أن الخلافات بين الكنيستين، لم تخمد نيرانها أبدًا، فكلاهما أضدادًا لبعضهما، وكل منهم يبذل جهده لنوال رضى الحكام على حساب الآخر.
والمتأمل لحركة المقاومة خلال الثورات السابقة خاصة الثورة البشمورية, يستطيع أن يجزم بأنه كان بإمكان الأقباط الثوار أن يقضوا على الجيش العربي وطرده في حالة قيام كل الاقباط دفعة واحدة ضد عدو جائر يقتل بلا رحمة أو هوادة, فإذا كان الموت والقتل سيلحقهم إن آجلاً أو عاجلاً, لماذا لم يضحوا في سبيل كرامتهم ومن أجل مستقبل أفضل لأولادهم, وقاموا بثورات أخرى، بعد أن وعوا درس الهزيمة، وألحقوا العدو الهزيمة تلو الهزيمة، وكان الأولى ألا يُخمدوا سلاحهم مادام العدوالغادر يحتل أرضهم, وكان ممكنًا أن يسلكوا حرب العصابات ولا يدعوا العدو يغفل
لحظة أو ينام برهة..
لا أعرف لماذا لم يقوموا بثورات متتالية بعد انتصارتهم الأولى وأنزلوا في العدو خسارة فادحة ورعبًا مفزعًا حتى استعانوا بمد خارجي أكثر من مرة؟!.. هل دخلهم الضعف من الجلاد المتجبر والمتوحش؟ أم فقدوا الثقة في أنفسهم؟, أم بسبب مقاومة الكنيسة لهم..
ولابد أن نعلم أن الحقوق لا تمنح بل تغتصب والغاصبون يختطفونها..
لماذا صمتوا واستكانوا للضعف وتحملوا كل صنوف العذاب, حتى القطع والقتل والطرد؟, أليس الأفضل المقاومة حتى النفس الأخير بدلاً من الويلات والاضطهادات العنيفة والجلد وسلخ الجسد وقطع الأعضاء والقتل على الهوية؟!..
فمهما
كانت الأسباب؛ فإنني لا أعذر أباءنا خاصة أنهم كانوا أكثر عددًا من الأعداء الغرباء، وكما يقول "الغيطاني" إن أصحاب الأرض دائمًا أقوى، لتمسكهم بها, ولاسيما أن الذين أسلموا حديثا لم يكن إسلامهم إلا وسيلة للنجاة أو الهروب من ثقل الضرائب المجحفة, وعلي استعداد للمقاومة لاسترداد دينهم دون اتهامهم بحد الردة الغبي .
ربما سمعوا عن عبدالله بن الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي، وكانت فترة حكمه ظلمًا يهول وشرحه يطول, وكان لا يتناول الطعام إلا إذا قطع رأس قبطي أثناء الأكل ويفرح بدمائه وهي تسيل أمامه لفتح شهيته الحيوانية !!!
http://www.copts-united.com/article.php?A=12889&I=329