إصرار الدولة على فردية مذبحة نجع حمادي

د. نجيب جبرائيل

بقلم: د. نجيب جبرائيل
دلالات وانعكاسات

رأينا بأم أعيننا سواءً على الطبيعة أو عبر شاشات التلفاز أو مواقع الإنترنت حصد ستة أقباط وشرطي مسلم، حينما كانت الترانيم تشدوا وتسبح بميلاد المسيح رسالة السلام، كانت رصاصات الغدر تخترق القلوب وتحول ترانيم السلام إلى الحزن والبكاء، ولم يختلف أحد على أن هذه الجريمة قد استهدفت مسيحيين، كما لا يختلف أحد على أن تلك الجريمة وقعت بالقرب من كنيسة ماريوحنا بنجع حمادي، ولم يختلف أحد أيضًا أن تلك الجريمة قد حدثت إبان خروج المصلين من الكنيسة، ولم يختلف أحد أيضًا على أن هناك ثلاث سيارات كان يستقلها الجناة، كان مع أحدهم على الاقل سلاح آلي رشاش. كل ما قلته كان مصدره تقارير رسمية ومن كبار رجالات الأمن ومن المسئولين سياسين وأيضًا من أفواه شهود الحادث في إقليم نجع حمادي.
 ولكن مما يثير الدهشة والامتعاض أن الدولة المصرية بكبار مسئوليها وخاصة رئيسا مجلسي الشعب والشورى ووزير حكومتها للشئون البرلمانية والقانونية، وهم تقريبا يمثلون السلطة التشريعية والتنفيذية، ما زالوا يصرون رغم كل ذلك على أن هذا الحادث هو حادث فردي وليس له أي أبعاد طائفية أو دينية وأنه في الغالب هو انتقام من اغتصاب شاب مسيحي لفتاة مسلمة في قرية فرشوط من حوالي شهرين، واستند رئيسا مجلس الشعب والشورى وممثلو الحكومة على توصيفهما للحادث بأنه فردى، إلى ما يُسمى لجنة تقصي الحقائق وهي اللجنة المشتركة من المجلسين والتي ذهبت لمقابلة الأنبا كيرلس مطران نجع حمادي لتقديم واجب العزاء، ولعلى في هذا التحصيل الوجيز سوف أركز على أن هذا اللجنة لم تكن تحمل وتتضمن مفهوم تقصي الحقائق إلا فقط في مسماها، ولكنها في حقيقة الأمر فإنها كانت لجنة فقط لتقديم واجب العزاء بصفة أولية وثانيها على الإصرار على نتيجة مسبقة وهي نزع واستبعاد الملف القبطي من دائرة الضوء وعدم تلطيخ سمعة الحزب الوطني في ممثله النائب عبد الرحيم الغول، حيث أشارت أصابع الاتهام وما تزال نحو تورطة في إفراز مناخ طائفي في منظقة نجع حمادي والذي كان من نتائجة مذبحة نجع حمادي.

وإننى أستطرد وأقول إنه من الأصول البرلمانية لأي لجنة لتقصى الحقائق حسب القانون الدستوري والنظم السياسية التي درسته في كلية الحقوق الآتي:-
أولاً: أن تتفقد اللجنة مواقع الأحداث تفصيليًا.
ثانيًا: أن تستمع اللجنة إلى أقوال كافة الأطراف من كل اتجاهات ومن أطراف محايدة.
ثالثًا: أن تعقد اللجنة جلسات استماع إلى أهالي الضحايا.
 رابعًا: أن تنتقل اللجنة إلى المصابين في المستشفيات وتستمع إلى اقوالهم وكيفية حدوث اصاباتهم.
خامسًا: أن تتقصى اللجنة وتستمع وتحلل الأوضاع السابقة على الحادث.
 سادسًا: أن تستعلم اللجنة عما إذا كان هناك تهديدات مسبقة قد حدثت للمسيحيين وعما إذا كان هناك تخوف من الكنيسة من وقوع تلك الأحداث والدليل على ذلك أن الأنبا كيرلس مطران نجع حمادي قد أعلن ليلة رأس السنة وأصدر تعليماته لجميع كنائس الأبرشبة بأن تنتهي الصلاة ليلة عيد الميلاد في تمام العاشرة مساءًا وعلى غير المعتاد من كل عام وهذه التعليمات كانت على مرأى ومسمع من رجال الأمن.
سابعًا: أن تبحث اللجنة عما إذا كانت هناك خلافات بين عضو مجلس الشعب ممثل الأغلبية عبد الرحيم الغول وبين الكنيسة، وخاصة أنه أشيع من خلفيات في انتخابات عام 2000، وما أشيع حول سقوط الغول في تلك الانتخابات وعدم نجاحه بسبب رفض المسيحيين إعطاءه أصواتهم.
 ثامنًا: وجوب أن تضم اللجنة شخصيات من تيارات وأحزاب اخرى بجانب الحزب الوطني.
 تاسعًا: أن تعلن اللجنة نتائج ما قامت به وتفصيلات ما سمعته وما رأته وليس مجرد بيان مقتضب من رئيسها أو من رئيس مجلس الشعب كما حدث، ولا سيما وأن أعضاء مجلس الشعب أنفسهم قد اختلفوا حول طبيعة أعمال هذه اللجنة، فبينما أصر رئيس مجلس الشعب وعديد من أعضاء الحزب الوطني على أنها لجنة تقصي الحقائق، خرجت أصوات من ذات المجلس تؤكد أنها لم تكن بهذه المهمة، بل كانت لجنة مجاملات وتعزيات ولم تقابل سوى الأنبا كيرلس ومحافظ المنيا، وأن باقي البنود التسعة التي ذكرتها والتى تتفق وطبيعة لجان تقصى الحقائق لم تكن ظاهرة في أعمال تلك اللجنة، وخاصة لغة الحوار والتشدد واتهام نائبة كانت تقول الحقيقة بأنها تدعي بطولة زائفة، ومحاولة إصابتها بالإحباط والتشكيك بأنها تسعى إلى زرع الطائفية، ومن ثم فإن التأكيد والتشكيك حول طبيعة هذه اللجنة وما تحصل من بيان دون نتائج أو توصيات كان الهدف الغالب هو الإصرار فقط على التأكيد على أن مذبحة نجع حمادي إنما هي حادث فردي وجريمة عادية، الأمر الذي لا يمكن معه الاطمئنان إلى ما انتهت إليه تلك اللجنة لانعدام توافر مقومات وآليات عملها وأنها لم تكن مجردة من أهواء التأكيد على استبعاد مشاكل الأقباط.

واذا انتهينا إلى فقدان الثقة كمسيحيين ونتفق على الأقل على أن عمل لجنة تقصي الحقائق لم يكن يستهدف سوى الإصرار على أن أحداث نجع حمادي هي عمل فردي، إذن يتبقى السؤال ملحًا هو لِمَا تصر الحكومة بكافة مسئوليها والبرلمان المصري بشقيه على أن هذا الحادث هو حادث فردي وطبيعي؟ وقبل أن أتحدث وأفند رأي الحكومة والدولة ربما يحتج البعض معتبرين أن هذا الحادث فردى طبقًا لما انتهت إليه تحقيقات النيابة العامة من عدم تورط آخرين في هذا الحادث، وللإجابة على ذلك أقول إن تحقيقات النيابة العامة هي تنتهى بمجرد الانتهاء والإحالة إلى المحاكمة، لكن الدليل لم يفصل فيه بعد إلا بحكم قضائي نهائي وبالتالي يمكن أن تتغير الأمور أمام المحكمة، وأثناء الجلسات وأيضًا النيابة العامة هي جهة تحقيق في واقعة مادية إجرامية، مهمة النيابة تجميع الأدلة وتوصيف التهمة، ولكن ليس لها أن تحلل الأحداث ما بين فردي أو جماعي أو طائفي أو غير طائفي، فهذا يخرج عن سلطاتها الجنائية، فليس لها مناط سياسي أو تشريعي أو تحليلي أو نفسي أو أمني، ومن ثم فإن الاستناد إلى قرار النيابة استنادًا غير مقبول قانونًا.
ومن ثم تبقى النقطة الهامة والأخيرة وهي ماهية أسباب ودلالات إصرار الحزب الحاكم والحكومة ومجلسي الشعب والشورى على أن هذا الحادث هو حادث فردي.

للإجابة على هذا التساؤل ببساطة شديدة نقول إن الإصرار على ذلك يرجع إلى:-
أولاً: رغبة الحكومة غير المبررة في إضفاء أي نوع من الطائفية على الحادث ودون سند من الواقع أو الظروف أو المناخ الذي ارتكبت فيه هذه المذبحة.
ثانيًا: لإقصاء الأقباط عن فتح ملف المطالبة بحقوقهم المسلوبة والمهمشة بعد تزايد مطالب الأقباط بحقوقهم في هذه الأيام بعد أن شعروا بانتقاص مواطنتهم حتى في أبسط أمور الحياة وهو وجود قانون موحد لبناء دور العبادة والتمثيل الهزلي في الحياة السياسية والنيابية والتمييز المفضوح بينهم وبين المسلمين في كثير من مناحي الحياة ناهيك عن انتهاك حرية العقيدة بالنسبة لهم.
 ثالثا: العمل وبكل قوة على غض إبصار نشطاء ومنظمات حقوق الإنسان عن رصد الانتهاكات التي يتعرض لها الأقباط طيلة أربعة عقود من الزمن.
رابعًا: خشية أن تتورط مصر إبان مناقشة ملفها في حقوق الإنسان في الثامن من فبراير القادم في المجلس الدولي لحقوق الإنسان في جنيف.
 خامسًا: خشية الحرج الدولي وانتقادات دول العام للانتهاكات الحاصلة في مصر، تلك الانتقادات التي حدثت بالفعل في ردود أفعال دول كثيرة من أمريكا وفرنسا والفاتيكان وإيطاليا والاتحاد الأوربي ولجان عديدة أعلنت قدومها إلى مصر لتقصي الحقائق، ويخطئ بل يجهل من يعتقد أن تلك الانتقادات هي تدخل من دول في شئون مصر، فنحن بطبيعة الحال لا نقبل أن يتدخل أحد في شئوننا الداخلية، ولكن تلك الدول التي أعلنت استنكارها وغضبها لهذا الحادث البشع، إنما أعلنت موقفها وغضبها من واقع أنها أعضاء في المنظمة الدولية ومصر أيضًا عضو في المنظمة الدولية، وأيضًا عضو في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وطبقًا لقواعد القانون الدولي أن من حق أي دولة عضو في هذه المنظمة الدولية أن تحث أي دولة تنتهك حقوق الإنسان وتلفت نظرها إلى ذلك، فنحن في مصر انتقدنا الأوضاع في دارفور وأدنا انتهاكات إسرائيل في غزة وما وقع من اعتداءات على أهالى البوسنة والهرسك بل راقبنا انتخابات الرئاسة الامريكية.
 سادسًا: أن مصر تخشى من إصدار تشريعات تفعل بها المواطنة مثل إصدار قانون بناء دور العبادة الموحد وكذا إصدار قانون حظر التمييز بسبب الدين وتلك المشروعات التي طالبنا بها وطلبها أيضًا المجلس القومي لحقوق الإنسان منذ سنوات عدة، فمصر تخشى إصدار مثل هذه القوانين لاعتبارات هي تعلمها تمامًا ومؤامات وملائمات لا تتفق مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتنتهى بذلك إلى ضعف هيبة الدولة عاجزة عن بسط سلطانها على مفهوم المواطنة الذي تصدر دستورها.
سابعًا: أن إصرار مصر على اعتبار ان هذه المذبحة هي حادث فردي هو بالتالي إصرارها على استمرار هذا المناخ المتسمم ضد الأقباط، ذلك المناخ الذي أفرزته وجود المادة الثانية من الدستور الذي جعل الدولة المصرية من دولة مدنية كما تزعم الحكومة إلى دولة دينية، تلك المادة التي خلقت ما يسمى بالنظام العام الذي من المفترض أن يقوم على مقومات أساسية للمجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية، إلى نظام عام يقوم على الهوية الدينية، فانسلخت منه أحكام قضائية بدلاً من أن تبنى على التشريعات الوضعية بنيت على أحكام الشريعة الإسلامية ومورست في ظلها ممارسات استثنائية ضد الأقباط،، وذلك بحجم حقوقهم ومنعهم من بناء كنائسهم، إلا في ظل تلك القرارات الاستثنائية، كما نزعت حضانة أطفال من أمهاتهم المسيحية تاركة أعمال أحكام القانون ومتخذة من القاعدة الشرعية "خير الأبوين دينا" هو الحكم واجب التنفيذ في حالة إشهار إسلام الأب.
 ثامنًا: أن إصرار الدولة على اعتبار هذا الحادث فردي ومن ثم إصرارها على هذا المناخ الذي يعيشه الأقباط والمتمثل في أن ما يحصلون عليه هو مجرد هبات وعطايا ومنح ولا يمكن أن يكون حقوقًا مشروعة بموجب الدستور وهذا ما حدث وما زال يحدث في قضايا حرية العقيدة.
 تاسعًا: أن مصر للاسف الشديد قد تدرك أو لا تدرك عن عمد أو بغير قصد أنها عضو في مجتمع دولي وفي منظومة دولية ولا يمكن لها سواء أرادت أو لم ترد أن تنسلخ عن تلك المنظومة الدولية التي تهتم بل تؤكد على حقوق الإنسان أيا كانت ديانته أو عرقه أو لونه أو مذهبه أو جنسه.
عاشرًا: يجب أن تتخلى مصر عن مفاهيم الدين الأعلى والأغلبية المسلمة لأن تلك عقائد ومفاهيم فقهية تكون فقط داخل المسجد ودور العبادة وبين المتخصصين ولا يمكن أن تصلح لأن تكون مفاهيم الدولة المدنية في ظل حماية المواطنة بصرف النظر عن الديانة ولا يمكن أن تكون محل قوانين وممارسات داخل الوطن الواحد بأقلياته وأغلبيته.
-    ومن خلاصة ما تقدم نقول إن المواطن في مصر سواء كان قبطيًا أو مسلمًا أو من أي دين فقد بلغ سن الرشد وانتهت سنين فطامه، فلم تعد وردة ترضية أو عصا ترهبه ولكن ما يهمه أنه يصر على أن يحصل على حقوقه المشروعة طالما يؤدي واجباته المنوطة به ومهما كلفه الامر.

رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان
 NAG_IL@HOMAIL.COM