سهيل أحمد بهجت
بقلم: سهيل أحمد بهجت
إن العلمانية، حالها حال الأفكار الأخرى، كانت كلمة سحرية في بداية نشأتها ومن طبيعة الإنسان أن يتحمس لكل جديد ظنًا منه أن الحل لمشاكله ومعاناته سيكون بين ليلة وضحاها، وهو حينما يبدأ في تطبيقها يشاهد ويرى ويحس بنتائج نظريته فيقوم بتعديلات تتلاءم مع الواقع فتتطور الفكرة أو تفشل لتحل محلها فكرة أخرى، فالماركسية كنظرية كانت متطرفة إلى أبعد الحدود، ولكن حينما لم تستطع النظرية الصمود أمام الواقع وثبت فشلها، انهارت وسقطت إمبراطورية الفلاسفة "الاتحاد السوفيتي" خلال مدة وجيزة جدًا، لكن العلمانية لا تزعم أنها تمتلك الأجوبة على كل الأسئلة كما فعلت الماركسية وكما يريد المسيري لها أن تكون، ولو أن العلمانية كانت فعلت ذلك لفشلت ككل النظريات الأخرى الشمولية التي تدعي أنها الحقيقة الكاملة، والدين حينما يعلن أنه الحقيقة الكاملة فهو يعني أنه حقيقة كاملة على المستوى الشخصي البحت، ولكنه في واقع الحياة العامة أو المجتمع يعود نسبيًا كأي حقيقة أخرى، فالحقيقة الدينية تتسع وتضيق وتتنوع حسب ثقافة الفرد ومستواه العقلي والعلمي، من هنا نجد أن الإسلام –كنموذج- لا يحمل الإنسان أي تبعية قانونية شرعية إذا كان مختل العقل أو النفسية، وهكذا لا يكون هناك تكليف أو حساب (آخروي) إلا على العقل، وطبيعي أن العقل يكون مغيبًا أحيانًا نتيجة الجهل أو الفقر أو المرض، بالتالي يكون الحساب الديني أو الثواب والعقاب متوقفًا على سلامة العقل والحواس ودرجة العلم والاطلاع.
ويضيف المسيري أن اطلاع مجتمعاتنا على تطور متتاليات العلمانية توقف في القرن التاسع عشر وبالتالي لم نستطع -يقصد نحن في العالم الإسلامي- أن نستوعب ونعي سلبيات العلمانية ونقدها الذي استمر في الغرب، وبالتالي بقي مصطلح علمانية إيجابي المنحى في عالمنا نحن معشر الشرقيين، لكن هنا نقطة جديرة بالنقد، فمع سقوط الإمبراطورية العثمانية، والتي كفت عن التقدم وبدأت تتراجع منذ القرن 16، سنحت لدول المنطقة فرصة حقيقية لبناء منظومة ديمقراطية مبنية على العلمانية المعتدلة، وكانت أنظمة ملكية كالعراق ومصر وليبيا كنماذج قادرة على بناء منظومة أخلاقية قائمة على الحرية وتعدد الرأي ولكن التطرف القومي والأيديولوجية الماركسية لم تترك مجالاً لهذه العملية التي لا يمكن بناءها بين ليلة وضحاها، بل عبر تراكم ثقافي وعقلاني اجتماعيين يتحولان عبر الزمن إلى خلق وثقافة ذات جذور، إلا أن العسكرتارية أجهضت كل ذلك.
يقول الدكتور المسيري:
وفي النهاية يجب أن نشير إلى أن تجربة العرب والمسلمين (وشعوب العالم الثالث) مع متتالية العلمنة مختلفة، فعمليات العلمنة لم تنبع من واقعهم التاريخي والاجتماعي (رغم وجود عناصر علمنة مختلفة فيه)، وإنما أتى بها الاستعمار الغربي وفرضها فرضًا عليهم وعلى غيرهم، ومع هذا نستمر في استخدام المصطلح بمرجعيته الغربية، والتي تفترض المتتالية الغربية في العلمنة." المصدر السابق ص 48
د أن ننوه أن العلمانية لم يكن لها مستقبل ذاتي في العالم الإسلامي تحديدًا بسبب تشابك العلاقة بين الدين وشرعية الدولة، باستثناء التجربة التركية وإيران ما قبل الثورة، فالدين كان يستمد قوته من السلطة والسلطان وكانا -ولا زال يستمدان شرعيتهما من رجال الدين، وإلى أن تم الفكّ بينهما فكريا فإن ذلك لم يحدث إلا بضغط غربي وبفعل الضعف الذي اعترى الإمبراطورية العثمانية ونظام الخلافة الفاسد، ولذلك وجدنا أنه حتى رجال الدين كما رجال السلطة الزمنية انقسموا بين مؤيد ومعارض لهذه الإصلاحات والتغييرات البنيوية ومطلب المسيري في تركنا نحن (العالم الإسلامي) منعزلين إلى أن ننتهي من إثمار "علمانية خاصة بنا" مطلب خيالي هو أشبه بأن نطلب من الإنسان أن يتوقف عن أكل الطعام أو التنفس بل وحتى التخلي عن طبيعته الإنسانية، ولماذا تناسى المسيري الآيات {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} البقرة 251 و{دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} الحج 40، ودارس التاريخ يدرك أن الغرب كما كان مؤثرا في الشرق فإنه كان متأثرًا قبلها بقرون بالحضارة الإسلامية دون أن نزعم أنه يدين بكل ثقافته للمشرق، وهو رأي يذهب إليه النرجسيون أو المبالغون في إنجازات العالم الإسلامي، فقد اكتشف الغربيون بعد الحروب الصليبية مدى حاجتهم إلى العلم والثقافة والإبداع والتغيير، فكان أن نبتت نبتة الإصلاح الديني والنظرية القائلة بأن الخلاص هو شأن شخصي بحت، فلماذا نطلب المحال ولماذا لا نقتدي بالغرب إذا كان العلاج الديمقراطي وحرية الضمير أثمرت لدى الغربيين وهم استفادوا من العالم الإسلامي دون أن ينظروا إلى منجزنا الحضاري نظرة مسيرية -نسبة إلى المسيري- وخرجوا من العزلة.
إن ما ينظّر له المسيري من أن التحديث Modernize يعني التغريب Westernize لكون العلمنة المفترض القيام بها تترادف مع النمطية الغربية من التحديث، ولكي نفهم هذا الرأي بشكل أوضح نتابع ما يقوله الدكتور المسيري:
و قد لوحظ في العالم الثالث وجود مصطلحات أخرى مثل، "الديمقراطية" و"العقلانية" والتنوير" و"التغريب" تقف جنبًا إلى جنب مع العلمانية، ولكنها تتداخل معه في بعض الأحيان، بل ويفترض بعضهم قدرًا من الارتباط العضوي، وأحيانا الترادف بينها وهذا الخلط له أساسه ففعل Modernize أي "يُحدّث" -على سبيل المثال- يعني إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير التقليدية، وإخضاع كل شيء للمعايير العقلية المادية العلمانية التي تتفق مع معايير الحداثة (برؤيتها للإنسان والكون)، وهذا هو أيضا الترشيد (في الإطار المادي)، فالتحديث هنا يعني "التحديث في الإطار المادّي"، ولا يختلف فعل Westernize أي "يُغرّب"، بمعنى "فرض أنماط ومعايير الحياة الغربية" عن فعل "يُحدّث"، فالأنماط والأساليب "الغربية" التي يتم فرضها هي الأنماط والأساليب والمعايير العلمانية." المصدر ـ ص 49
إن صناعة التطور وبكل مضامينها الفلسفية العقلية والثقافية الاجتماعية وأدوات الحياة من ملابس وغذاء ومخترعات كالسيارة والطائرة والصاروخ والساتلايت..إلخ، كلها أصبحت نمطًا غربيًا لسبب وحيد هو أن الشرق ما دام اعتبرها مخترعات خاصة بالغرب فإنه اختار عدم الدخول في عالم الإبداع، فالمسيري حينما حكم على كل شيء بأنه غربي -حتى الأطعمة- فهو قرر سيكولوجيا جعل الحياة ذاتها غريبة عنا وأننا معشر المسلمين –تحديدًا- غرباء عن هذا العالم، فنحن لم نعد نملك أي شيء في عالمنا الذي أصبح غربيًا (وهناك اشتقاق لكلمة غريب من الغرب والغربة) وهكذا حكم المسيري وأضرابه علينا كعالم إسلامي –ظلامي- أن نبقى حبيسي الظلمة والتخلف وأن نستمر في عقلية المقاطعة والقطيعة، والمضحك أن كل مظاهرات الداعين إلى "مقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية والأمريكية" تمتليء بالملابس والأقمشة الغربية ولا ننسى أن مكبرات الصوت التي تستخدم في هذه المظاهرات هي منتجات غربية بامتياز.
وبهذا الشأن فلنقم بمراجعة تاريخية بسيطة، كان بطرس واحدًا من تلك الشخصيات المتناقضة المعقدة، فتارة يبدو للعين كأحد القتلة الأشرار، وطورًا كجبار عنيد همه الأكبر شهوته الجسدية وكبرياؤه. وطورًا آخر كنبيل أودعت فيه الطبيعة جميع صفات النبل والشرف. فهو بربري بدمه ولكنه نابغة وهو نزاع إلى المدنية ولكنه ينزع إليها كما تنزع البرابرة. لم تستطع صفاته العقلية السامية أن تتغلب على طبيعته الوحشية يوما بل العكس فقد كان يريد الأشياء حسنة كانت أم سيئة بقوة وشره وقسوة. كانت أحلى صفاته النشاط العظيم يتدفق منه فكان يلتهب قوة ويحترق من فيض همته. جاء إلى الحكم وهو إبن سبعة عشرة. فوجد روسيا متأخرة عن الغرب أشواطًا بعيدة وجيوشه في حاجة شديدة إلى المؤونة والتهذيب. لا تستطيع مقابلة جيوش الغرب المنظمة. وبلاده آسيوية في تقاليدها وعاداتها. وحكومته لا تفرق كثيرًا عن إحدى إمارات التتر. وأن روسيا لا منفذ لها على البحر ولا سفن. وأنه يستحيل عليها أن تشترك في الشؤون العالمية وهي على هذه الحال. كما وجد أن للبلاد أعداء يجب القضاء عليهم وهم النبلاء ورجال الدين والجند المتمرد. فخطط له خطة رمى فيها ثلاثة أهداف:
1- تثقيف روسيا ثقافة أوروبية وإدخالها ضمن دائرة المدنية الغربية.
2- فتح طريق تنفذ منه روسيا إلى البحرين الأسود والبلطيك أو نافذة كما قال هو تنظر منه روسيا إلى الخارج.
3- تحطيم كل قوة تعاكسه في البلاد من رجال الدين والأشراف والجيش. وقد فاز بكل ذلك.
(تاريخ أوروبا الحديث/ جفري براون/ ترجمة علي المرزوقي ص 313)
ففي الحالة الروسية التي نقلنا هنا مشهدًا منها، كان التغيير قمعيًا وبالقوة وكان أن قام بطرس الأكبر بفرض كل ما هو غربي بالقوة، حتى قصّ لحية النبلاء الروس الطويلة بالقوة لكي تترسخ ثقافة التطور في عقل وضمير المجتمع، وهذا التغيير القمعي يكون ضروريًا رغم سلبياته حينما تكون قوى الرفض دينية كانت أم اجتماعية ذات ممانعة قوية تعيق حتى ذلك التغيير البطيء، والمرحوم الدكتور علي الوردي يشبه قوى المحافظين في المجتمع وقوى اللبراليين المجديين الذين يقفون بوجه المحافظين، يشبههم بالفرد الذي يريد التقدم ولكنه وخوفًا على سلامته يفعل ذلك بحذر، فالمحافظون يخافون على سلامة المجتمع وتماسكه وقيمه التي تشكل نظامًا حياتيًا، بالمقابل يريد الليبراليون المجددون تغيير المجتمع نحو الأفضل وتبديل العقلية القديمة بأخرى وثابة، وفقدان التوازن بين هاتين الفئتين هو الذي يجعل المجتمع يعيش حالة التناشز والصراع ويؤدي أحيانًا أخرى إلى الصراع واستخدام العنف والقوة إما لفرض التغيير -كما فعل بطرس الأكبر في روسيا ومصطفى كمال في تركيا- أو العكس -كالثورة الإيرانية أو انقلاب عبد الحميد الثاني على الدستور-.
يضيف المسيري إلى ما سبق بالقول:
ورغم اعترافنا بوجود هذا الترابط أحيانًا بين التحديث والديموقراطية والعقلانية من جهة، والعلمانية من جهة أخرى، إلا أننا لا نرى أن هذه الرابطة عضوية أو ضرورية (وكما سنبين فيما بعد، يمكن أن ترتبط العلمانية باللا عقلانية والاستبداد والفاشية)، ولكن عملية الربط والتداخل تؤدي إلى اختلاط المجال الدلالي لمصطلح "العلمانية"، وتربطه بمنظومات قيمية ونماذج معرفية ليست بالضرورة كامنة فيه، وإنما تضاف إليه (نفس الإشكالية التي واجهناها في تعريف هوليوك). العلمانية تحت المجهر ـ ص 50
إن هذا التنظير يذكرني بالقاعدة المنطقية القديمة القائلة بأن "الدور لا يجوز"، فلو فرضنا مثلا أن "أ" من الأشياء يتوقف وجوده على "ب" وقلنا مرة أخرى أن "ب" يتوقف وجوده على "أ" لكان كلاهما محالاً ولا يقومان على شيء، نموذج آخر لهذه القاعدة المنطقية، يقول فقهاء السنة أن "إجماع الفقهاء واجب الاتباع" وهم يستندون في ذلك إلى أحاديث آحاد –قليلة- وحينما نسألهم عن حجية أحاديث الآحاد يكون جوابهم أن "إجماع الفقهاء هو الدليل"، وهكذا تكون دائرة منطقية مفرغة، وكمون النظرية ومرجعيتها الضمنية يشبه في وجه من الوجوه هذه المعادلة، فالعلمانية لا تقوم بذاتها -حسب المسيري- ومرجعيتها الكامنة في العقل المادي وحينما نسأل عن مرجعية المادة والموضوع يعيدنا إلى العلمانية وبالتالي إذا كانت كل نظرية لا بد وأن تستند إلى أُخرى فإن النظريات -وموقعها في منطق الحلال والحرام- لا ولن تنتهي ولن يكون لها حظ من التطبيق، ولماذا انتهى المسيري في نقده للعلمانية إلى أن يهجم على الحرية والديمقراطية وحتى أبسط مظاهر الحياة وأسلوب العيش الحديث؟ كما سنرى، فإذا كانت العلمانية ترتبط بكلا النمطين من النظم، الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والعقلانية ونقيضها الدكتاتورية والاستبداد واستعباد الإنسان واللا عقلانية، فإن هذا دليل على أن العلمانية كائن أو فكرة حيادية لا علاقة لها بكون الدولة إنسانية أو فاشية، فهذه التفصيلات الإضافية -ما بعد العلمنة- هي نتيجة عوامل أخرى.
مثالاً على ذلك نجد أن النازية ليست وليدة نظرية جاهزة -آمن بها جميع الألمان كما يزعم الناقدون- لأن النازية جاءت نتيجة ديمقراطية هزيلة وفي بلد عاش أزمة هوية أولا وأزمة اقتصادية ثانيًا، فالاكتفاء بالنظريات دون الواقع ومعطياته هو أشبه بالرؤية مع عمى الألوان، وهكذا فإن هذه الرؤية ناقصة ومحدودة، فمثلاً نجد مؤسسات تشترك فيها الدول الديمقراطية والدكتاتورية، الملكية والجمهورية، الفاشية والإنسانية، دون أن يعني وجود هذه المؤسسة أنها هي التي طبعت الدولة بالطابع الدكتاتوري أو الديمقراطي، فكل هذه الأنظمة -على سبيل المثال- تمتلك جيوشًا وشرطة ومخابرات، ولكن استخدامها هو الذي يختلف، وبالتالي فمن أكبر الخطأ أن نقوم بإضافة العبثية أو الفاشية والدكتاتورية إلى "العلمانية" كمنظومة سياسية، إن التطور الطبيعي للبشر يعني ببساطة أنه تاريخ بشر وليس تاريخ ملائكة، فمراجعة بسيطة لأي تاريخ كان، بالأخص ذلك التاريخ الإسلامي، وسنجد أن هناك من يستغل القضية الدينية والعلمانية والوطنية وحتى الديمقراطية منتهزًا ظرفًا معينًا للهيمنة والحصول على المزيد من النفوذ والحكم دون أن يعني ذلك أن ذلك المبدأ هو السبب في هذا الانهيار التاريخي.
Email: sohel_writer72@yahoo.com
Web: www.sohel-writer.i8.com
http://www.copts-united.com/article.php?A=12962&I=330