أمة في أزمة والإصلاح الديني هو الحل!!(1-2)

القس. رفعت فكري

بقلم: القس رفعت فكري
من يتأمل مايحدث اليوم على ساحتنا العربية لابد أن يقف حائرا متسائلا :  ما هذا الذي يحدث اليوم في عالمنا العربي ؟!! ماهذه الفوضى ؟! وما هذا الهرج والمرج ؟!!  حروب وكروب في معظم البلدان العربية . تفجيرات وقنابل هنا وهناك . سيارات مفخخة للاغتيالات وقتل المدنيين الأبرياء . دماء تلطخ وجه الأرض هنا وهناك . في فلسطين لم يعد الصراع مقصوراً على الإسرائيليين والفلسطينيين ولكنه اتخذ منحا آخر بسيطرة قيادات حركة حماس على غزة وقتل إخوانهم الفلسطينيين المنتمين لحركة فتح وهكذا أصبح الصراع فلسطيني فلسطيني ولأجل السلطة يدمر الفلسطينيون أنفسهم ومافعلته حماس بأشقاء الوطن هو بروفا حية لمن يجيدون خلط السياسة بالدين وهو بمثابة جرس إنذار يحذر مما يمكن أن تصل إليه الأمور عندما يستغل المنتمون للتيارات الدينية الديمقراطية لتحقيق مآربهم بالوصول إلى السلطة . وفي العراق صراع مرير واقتتال مروع بين السنة والشيعة  هذا فضلا عن تهجير المسيحيين قسراً أو قتلهم أوإجبارهم على إشهار الإسلام . وفي لبنان صراعات طائفية مريرة وحروب ومواجهات دامية تارة بسبب حزب الله وتارة أخرى بسبب جماعة فتح الإسلام الفلسطينية .
وفي مصرنا المحروسة حدث ولا حرج عن الاعتداءات المتكررة من مسلمين على مسيحيين في بمها بالعياط والدخيلة بالأسكندرية والعديسات بالأقصر وكان آخرها المذبحة الإجرامية التي حدثت في نجع حمادي ليلة عيد الميلاد المجيد وهذه المذبحة تعد بالفعل قتل على الهوية , وتعوزني صفحات وصفحات إن تحدثت عن الكشح وأبو قرقاص وصنبو والعليقات وبني ولمس وغيرها الكثير من القرى والنجوع التي لامكان لها على الخريطة المصرية ولكنها نالت شهرة عالمية واهتماما دولياً بفضل الهمجية والبربرية والعنصرية البغيضة ضد أشقاء الوطن  .وأصبح أمرا معتاداً أن تحرق الكنائس أو تقذف بالحجارة, وأصبح أمراً طبيعياً أن تحرق وتدمر منازل ومحلات وممتلكات المسيحيين دون وازع من ضمير ودون رادع من مبدأ إنساني,  هذا فضلا عن التمييز الواضح الفاضح ضد شركاء الوطن والتقليل والتحقير من شأن وقيمة المرأة .
وترسيخاً للقبح والتخلف نستمع بين الحين والآخر لروايات عن الفضلات والمخلفات وفتاوى عفا عليها الزمن منذ زمن من شاكلة رضاع الكبير وفوائد بول الإبل والبعير !!  وفي عصر العلم لدينا مخاصمة واضحة للعلم, فاللآن لازال بعض المتعصبين  يرفضون عمليات زراعة الأعضاء وغيرها من الأمور التي تخدم الإنسانية, هذا فضلاً عن المناخ الفكري الملوث فعلى المستوى المسيحي عند الاختلاف في الرأي هناك إتهام للآخر المذهبي بالهرطقة والزندقة هذا فضلاً عن السب والشتم واللعن لا لشئ إلا لمجرد إبداء رأياً مغايراً لرأي الأغلبية , وعلى المستوى الإسلامي هناك إتهام للآخرين المغايرين فكرياً ودينياً وثقافياً بالتكفير!!

وبنظرة موضوعية لكل هذه الأمور التي تحدث في عالمنا العربي نستطيع أن نؤكد بأن عالمنا العربي اليوم يجتاز تلك المرحلة المظلمة التي مرت بها أوروبا في عصورها المظلمة في القرون الوسطى !! ولا مخرج لنا من هذا النفق المظلم إلا بما خرجت به أوربا من تخلفها ألا وهو التنوير والإصلاح الديني .   لذلك ونحن اليوم في بداية القرن الحادي والعشرين لا يمكن لنا أن نفهم عصر التنوير إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مسألة التعصب الديني والحروب المذهبية التي فرقت أوروبا طيلة مائتي سنة، ومفهوم التسامح ظهر حلاً لهذه المشكلة ,.ولكن كيف تبددت أمام التوير الظلمات الحالكة للأصولية ؟ إذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبية في التنوير وجدنا أنها كانت صعبة ومريرة، فالمعركة استغرقت ثلاثة قرون متتالية، بل وحتى أربعة من لوثر وايراسم، إلى هيجل ونيتشه، مروراً باسبينوزا وجون لوك، وفولتير، وديدرو، وروسو، وكانط وغيرهم كثيرون.  لقد جيش كل فلاسفة أوروبا طاقتهم للقضاء على هذا المرض الخطير الذي يصيب أي دين. أقصد مرض التعصب والظلامية الأصولية. ولذا كانت البداية للقضاء على الأصولية هو في كيفية التعامل مع النص الديني فلاجدال في أن النص الديني هو محور الارتكاز في كل أفق ديني سواء كان منغلقاً أو مستنيراً, لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغير الواقع يتعامل مع النص
الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه ليتجدد مع الجديد ويصبح ملائماً لكل العصور ولكل الأزمنة والأمكنة فيكون الدين رسالة شاملة حقاً .

وفي القرن التاسع عشر ظهر على يد أساتذة اللاهوت علم الهيرمنيوطيقا ( Hermeneutic ) وهذا العلم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص مهما تقادم به الزمن بل ينبعث النص حياً في أفق كل متلق له . وفي القراءة الهيرمنيوطيقية ينصهر القارئ مع النص . الماضي والحاضر في علاقة متجددة في حوار مستمر مع النص يجعله مفتوحاً دائماً لفهم جديد. والهيرمنيوطيقا تكاد تكون تمثيلاً منهجياً للاستنارة الدينية ولقدرة الدين الذي يرتكز على النص على الانبثاق مجدداً مع كل طلعة شمس وقدرته على البقاء والاستمرار وأداء المهام الروحية المنوطة به مهما تعمقت متغيرات حضارية أخرى على رأسها العلم مما يعضد موقف الاستنارة الدينية . 

وفي عصرنا الحاضر الذي تسيطر فيه مشكلة الأصولية بقوة على كافة الأصعدة والذي يرتفع فيه صوت الأصوليين مهدداً العالم كله لامخرج لنا من هذا النفق المظلم إلا بأن نعود إلى الوراء لنأخذ الدرس من أوروبا لنرى كيف حلت أوروبا مشكلتها مع أصوليتها.فحالنا اليوم في العالم العربي هو أقرب مايكون إلى أوروبا في عصورها المظلمة قبل التنوير.فمشكلة الأصولية هي مشكلة المشاكل وأم المشاكل،!.فالمشكلة لن تنحل من تلقاء ذاتها، وإنما تحتاج إلى جهود المفكرين والمثقفين في كافة المواقع ، ولاخروج لنا من هذا النفق المظلم إلا بالإصلاح الديني كما فعلت أوروبا, وما نقصده بالإصلاح الديني هو فهم الدين وفق ما تقتضيه الحياة من تفاعلات ومتغيرات ،واستخلاص المبادئ القيميّة والروحية والأخلاقية التي  يمكن استخلاصها من الدين، وهذا يدعونا لأن نعرف مكامن الخلل المعرقلة لفهم ديني يتوافق و تطور الحياة. ومحاولة معالجة هذا الخلل .فحياتنا الراهنة ليست هي تلك الحياة القديمة ذات النمط الكلاسيكي في التعاطي مع القضايا والمسائل، ولم تبق في إطارها التقليدي القديم ، بل أصبحت حياة متغيرة ومتطورة في كافة المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والعلمية . ففي المجال الحقوقي مثلا تأثرت العلاقة الراهنة بين البشر سواء في العلاقات الفردية أو الاجتماعية بين الدول والمجتمعات.
 
فظهور مفاهيم مثل الديمقراطية والتعددية وحقوق المرأة أدى إلى تغيير النظرة لمسألة حقوق الإنسان بشكل عام الأمر الذي أثر على شكل العلاقة بين البشر، وبالتالي فإن مواكبة الفهم الديني لتلك المتغيرات أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة. فحينما نتحدث عن الحياة قبل ألف سنة فإننا بذلك نلقي الضوء على العقل البشري والمعرفة البشرية اللتان احتوتهما تلك الحياة. فلا يمكن لعقل بشري قديم أن يكون فعالاً في معالجة مشاكل الحياة الراهنة بمعزل عن  تطور هذا العقل من أجل مواكبة الحياة الحديثة. ونفس الأمر ينطبق على الدين، فالفهم الديني القديم لا يمكن إلا أن يكون حجر عثرة في طريق تطور الحياة الدينية. فالدين هو قلب ينبض في كل زمان ومكان، لكن وسائل المحافظة على النبض لابد أن تسير مع سير الحياة وتطورها.
ففهم الدين مرتبط بتطور الحياة باستمرار، ولذلك يجب أن يدخل في مصنع الإصلاح لكي يستطيع أن يسير سيراً طبيعياً في الحياة . فعلى سبيل المثال لازالت توجد للآن بعض المجتمعات العربية الرافضة للمفهوم الحديث لحقوق الإنسان وبالذات ما يرتبط منه بحقوق المرأة، حيث أن سلبيات العادات والتقاليد ساعدت في ظهور مفهوم ديني يرفض الاعتراف بالحقوق الطبيعية للمرأة ومن هنا فإن الإصلاح الديني يسعى لنقد التراث (الديني والاجتماعي) أي نقد السلبيات المنبثقة عن التراث والمؤثرة في فهم الدين من أجل طرح أفكار دينية جديدة.

لذلك فالإصلاح يساهم في بناء ثقافة جديدة في المجتمع. وهذه الثقافة بدورها قد تتعارض مع العادات والتقاليد السالبة. وهذا يدعونا لأن نؤكد بأن تفسير نص ما, ليس هو التفسير النهائي لذلك النص بل توجد تفسيرات وتأويلات أخرى يجب وضعها في الحسبان ، كما لا يمكن اعتبار خطاب ديني ما بأنه الخطاب النهائي في فهم الدين. فتفاسير الدين هي تفاسير غير منتهية الفهم، ومتغيرة باستمرار التفكير واستمرار تطور الحياة. لذا فإن نقد التراث مطلوب دائماً ويجب أن يكون نقداً مبدعاً خلاّقاً ومُضاداَ للتقليد الأعمى واتّباع خطى الآباء دون تبصّر. وعندما يحدث الإصلاح الديني فلا مفر من التمييز ما بين الدين والتاريخ الديني، بمعنى أنه ليس لزاماً أن تكون أحداث التاريخ هي عين الدين، بل لابد من نقد وتحليل مجمل ما دار من أحداث وتجارب .وهذا يدعونا لأن نتأمل التاريخ الديني لا بوصفه تاريخاً مقدساً بل بوصفه تاريخ بشر أصابوا وأخطأوا , التاريخ الديني تاريخ حرَكته - ككل التاريخ الإنسان -  عوامل الاجتماع والاقتصاد والسياسة بكل صراعاتها, وهنا يجب علينا بكل شجاعة مواجهة ونقد التاريخ الديني , وللحديث بقية

راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا مصر
refaatfikry@hotmail.com