إلى أين تقودنا نوايا الرئيس الطالباني الحسنة؟

د. عبد الخالق حسين

بقلم: د.عبد الخالق حسين
قال فخامة رئيس الجمهورية جلال طالباني في مؤتمره الصحفي مساء 21/1/2010 أنه [" ليس راضياً عن اجتثاث البعث، وإنّ صدام حسين هو من اجتثّ البعث من خلال قتل قادته ومبادئه ". وبيَّن أنّه :" من غير الممكن أن يؤخذ أحد بجريرة تصرفات صدام حسين " مشيرا الى أنّ " مئات الألوف من الشعب العراقي كانوا مجبرين على الانضمام إلى البعث من خلال المدارس والوظائف الحكومية". ورأى أنّ " صالح المطلك ـ الأمين العام للحركة الوطنية العراقية ـ كان بعثياً لا صدّامياً ". كذلك أوضح أنّ: "البعث الصدامي هو المشمول وفق المادة السابعة من الدستور " مشككا بقانونية قرارات هيئة المساءلة والعدالة بسؤاله المحكمة الاتحادية عن " شرعية " الهيئة. وأضاف طالباني: " لا أعارض مشاركة بعض أعضاء حزب البعث في الانتخابات، بل أؤيد ذلك، كما لا أعارض إشراك البعثيين غير الصداميين في كل مجالات الحياة ".

هذه خلاصة ما تفضل به فخامة الرئيس في مؤتمره الصحفي كما نشرته وكالات الأنباء، والذي أثار الكثير من التعليقات، بين مؤيد ومعارض ومحايد!! كما وأسقط الدعوة القضائية التي كان قد رفعها ضد السيد ظافر العاني، بسبب تصريحاته النارية التي اتهم فيها المسؤولين العراقيين بأنهم كانوا خونة عندما كانوا في المعارضة، وأنهم الآن عملاء للمحتل، كما وأهان ضحايا المقابر الجماعية، وألقى تبعتها على الأحزاب الإسلامية الشيعية وبرأ منها نظام صدام حسين.

لست ضد كل ما صرح به السيد رئيس الجمهورية، فأنا مع قوله أنّه :" من غير الممكن أن يؤخذ أحد بجريرة تصرفات صدام حسين " وكذلك القول أنّ " مئات الألوف من الشعب العراقي كانوا مجبرين على الانضمام إلى البعث من خلال المدارس والوظائف الحكومية". وقوله: "... كما لا أعارض إشراك البعثيين غير الصداميين في كل مجالات الحياة ". إذ كتبت عدة مقالات بهذا الخصوص، ولكن على شرط أن يتبرأ هؤلاء من البعث ويدينوا جرائم نظام البعث، ويعلنوا تأييدهم إلى النظام الجديد، ودعمهم للديمقراطية وحمايتها، وأن يشاركوا في وظائف الدولة كمستقلين وليسوا كتنظيم بعثي، سواءً كان باسم البعث أو تحت أي مسمىً كان، كما ورد في الدستور. وربط كل هذا بتاريخهم وماضيهم وكذلك وضعهم تحت المراقبة فيما إذا كانوا مخلصين أم مجرد تكتيك بعثي.

ولكني لست مع قوله أن " صالح المطلك ـ الامين العام للحركة الوطنية العراقية ـ كان بعثياً لا صدّامياً " وأنّ: "البعث الصدامي هو المشمول وفق المادة السابعة من الدستور" مشككا بقانونية قرارات هيئة المساءلة والعدالة ". كما وأراني ضد قوله: " لا أعارض مشاركة بعض أعضاء حزب البعث في الانتخابات، بل أؤيد ذلك...الخ ".

لا شك أن تصريحات فخامة رئيس الجمهورية ناتجة عن حسن النية، ولكنه مع الأسف يبدو أنه لم يسمع بالحكمة القائلة (الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة)، أو قد سمعها ولكنه لا يؤمن بها، مثله كمثل الراحل الزعيم عبدالكريم قاسم الذي دشن شعار "عفى الله عما سلف" ودفع ومعه رفاقه وشعبه الثمن باهظاً ومازلنا ندفع لحد الآن وإلى أجل غير معلوم. 

المشكلة أن السيد رئيس الجمهورية يتعامل مع البعث "غير الصدامي" كأي حزب تقليدي أو حتى ديمقراطي، وهنا مكمن الخطر. لقد ذكرنا، مراراً وتكراراً، أن البعث ليس حزب بالمعنى التقليدي المعروف في القاموس السياسي، بل هو عصابة مافايا من البلطجية في لباس حزب سياسي، متبنياً الماكيافيللية (الغاية تبرر الوسيلة) إلى حد النخاع، لا يعترف بالأخلاق والقيم الإنسانية والاجتماعية، ومستعد أن يقتل كل الشعب في سبيل استيلائه على السلطة. وهذا التعبير (البعثي الصدامي وغير صدامي) مضلل، إذ لا فرق بينهما إلا في درجة الإجرام. وقد كتبت مقالاً بهذا الخصوص بعنوان (البعث الصدامي والبعث "المعتدل") توصلت فيه إلى نتيجة أن لا يوجد في البعث مكان للاعتدال.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، وكما ذكرت سابقاً عن أكثر قائد بعثي في تاريخ العراق وصف بالاعتدال وهو فؤاد الركابي (أول أمين عام للقيادة القطرية) والذي ذبحه صدام في السجن في السبعينات، أعود إليه ثانية حيث ذكر عنه الراحل محمد حديد معلومة جديدة جديرة بالذكر، عن سلوك فؤاد الركابي إثناء تحالفهم في جبهة الإتحاد الوطني، قائلاً: "أصبحنا نجتمع دورياً أو حسب الحاجة. وقد وقع الاعتداء على مصر بعد الاجتماعات الأولية التي حضرها ممثلو الأحزاب. وبعد وقوع العدوان الثلاثي على مصر اتفقنا على أن تخرج تظاهرات عامة تمثل جميع الأحزاب. وخلال المناقشات اقترح فؤاد الركابي القيام بإلقاء قنابل حارقة على المخازن في الشوارع التي تمر بها التظاهرة، فاستنكر المجتمعون هذا الاقتراح، وخصوصاً محمد مهدي كبة الذي حذَّر من اللجوء إلى مثل هذه الأساليب." (محمد حديد، مذكراتي، ص 296).

تصور في تلك المرحلة التي لم يسمع فيها أحد بعد بالمفخخات وإلقاء المتفجرات، كان زعيم البعث المعتدل جداً يحمل هذه الأفكار الشريرة في حرق المخازن في بغداد، فما بالك عن بعثيين شاركوا في مجزرة 8 شباط 1963، ويطالب الآن السيد رئيس الجمهورية بمشاركتهم في العملية السياسية بذريعة كونهم كانوا ضد صدام حسين أو بعثيين غير صداميين؟

والجدير بالذكر أني استلمت تعليقاً من قارئ عراقي أكاديمي متميز، مقيم في العراق، بعنوان: لماذا يدعم الكرد  مشاركة البعث في الحكم، جاء فيه ما يلي: أولاً، استخدام البعثيين في عملية التوازنات السياسية لإضعاف الحكومة المركزية في المستقبل وكلما اقتضت حاجتهم لذلك، ثانياً، لكسب رضا دول الجوار العربية، خاصة في حالة استقلالهم بدولتهم، لتجنب الانتقام. وثالثاً، هذا الموقف يكسب رضى الأمريكان، أقوى الداعمين للأكراد.

ذكرت هذا التعليق من أجل تنبيه الأخوة الأكراد أن مغازلة البعثيين ستولد ردود أفعال لدى شريحة واسعة من العراقيين ليست في صالح الكرد. كما ويجب على القيادة الكردستانية أن لا تقع في الفخ البعثي ثانية. وليتذكروا تحالفهم مع البعث ضد حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم أوائل الستينات، والثمن الباهظ الذي دفعها الشعب الكردي بعد ثلاثة أشهر فقط من نجاح إنقلاب 8 شباط الأسود، والمجزرة التي أرتكبها صديق مصطفى في السليمانية في حزيران 1963. فأين كان صدام آنذاك؟

يكرر البعض من الكتاب الديمقراطيين القول: لماذا الخوف من مشاركة البعثيين في الانتخابات، فهم مرفوضون من الشعب وسوف لن ينتخبهم أحد؟ هذه الفكرة هي الأخرى ساذجة، وكأن البعث فعلاً يهتم بإرادة الشعب ورغباته. بالله عليكم، متى استلم البعث السلطة، سواء في العراق أو في سوريا، عن طريق صناديق الاقتراع؟ إن البعثيين يتمتعون بقدرات هائلة على التلون والمناورة وخدع الجماهير، ونجحوا حتى في خدع الأحزاب الوطنية العريقة في السبعينات عند قيام ما سمي "بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية" وعواقبها الوبيلة على تلك الأحزاب التي انطلت عليها ألاعيب وحيل البعث.

وفي معرض شرحه لبيان الفرق بين البعثي الصدامي وغير الصدامي، راح الرئيس يدافع عن صالح المطلق وضرب به مثلاً أنه "بعثي ولكن غير صدامي." ولذلك يجب قبول صالح المطلك، وأن المادة السابعة من الدستور لا تشمل البعث غير الصدامي. هذا التصريح أيضاً يحمل مخاطر قاتلة. فالمادة السبعة من الدستور تنص أيضاً بمنع إشراك كل من يروج للبعث وتحت أي مسمىً كان. وصالح المطلك قام بتمجيد حزب البعث وقيادته من على فضائية العربية قائلاً أنهما من أفضل واشرف ما موجود في العراق. وقد نشرنا الرابط في مقال سابق لنا بهذا الخصوص.

كما ونقرأ هذه الأيام مقالات غاضبة من كتاب ديمقراطيين أنضموا إلى جوقة المدافعين عن البعثيين ضد قرارات هيئة المساءلة والعدالة في إبعاد البعثيين عن الانتخابات القادمة، وحجتهم أن هذه القرارات مخالفة للقانون، ودون أن يذكروا لنا هذا "القانون" الذي يتباكون عليه. فالدستور هو مصدر كل القوانين، يؤكد على إبعاد أناس من أمثال صالح المطلك لأنه قام بترويج للبعث. هؤلاء السادة الأفاضل لم يتعلموا درساً من خيباتهم. إن البعث هو تنظيم معاد للديمقراطية وقام بتدمير العراق، لذا وكما قال الرئيس الأمريكي الأسبق، هاري ترومان: (إذا واجهت وحشاً يجب أن تعامله كوحش)، يعني أن معاملة البعثيين كديمقراطيين عملية انتحارية. فهيئة المساءلة والعدالة هي نفسها (هيئة اجتثاث البعث) التي صوت عليها البرلمان، والذي تم تغيير اسمها، بينما بقي الأعضاء دون تغيير. كما ويجدر القول أن قرارات (هيئة المساءلة والعدالة )غير ملزمة، بل أنها مصدر للمعلومات، أي أنها تكشف فقط عن الأشخاص الذين تشملهم المادة السابعة من الدستور، وتقدم البراهين على صحة الكشف، وعلى السلطة التنفيذية أن تأخذ بها أو ترفضها، وهي قابلة للتمييز من قبل هيئة قضائية قانونية عينها البرلمان العراقي باسم (الهيئة التمييزية) وقراراتها ملزمة لجميع الأطراف. فأين التعارض مع القانون في هذه الحالة يا سادة يا كرام!!

خلاصة القول أن البعث لا يمكنه العودة إلى الحكم، سواءً عن طريق الانقلابات العسكرية التي ولىّ زمانها، أو عن طريق الانتخابات، ولكننا نعتقد أنهم ما زالوا يتمتعون بقدرات هائلة في التخريب، وخاصة إذاما تمكنوا من إيصال عدد منهم (أربعين بعثياً كما صرح صالح المطلك) إلى البرلمان، فعندئذ بإمكانهم شل عمل البرلمان، خاصة وفي هذه الحالة يتمتعون بالحصانة البرلمانية. وعندها سيكون البرلمان والحكومة الناتجة عنه مشلولين لا حول ولا قوة لهما.
مرة أخرى نذكر السيد رئيس الجمهورية وكل أصحاب النوايا الطيبة بالحكمة القائلة: (الطرق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة) وعلى العاقل أن لا يلدغ من جحر مرتين. فالبعث هو البعث ولا فرق بين بعث صدامي وغير صدامي، فليس صدام هو من أنتج البعث، بل البعث هو الذي انتج صدام حسين، وبإمكان البعث أن ينتج صداماً آخر.
ألا هل من يسمع؟
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع