سهيل أحمد بهجت
بقلم: سهيل أحمد بهجت
بعد أن يتحدث المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري عن تدهور النقاش بشأن العلمانية "وبدلاً من محاولة تعريف العلمانية تعريفًا مركبًا شاملاً يتفق مع تجربتنا التاريخية ومع رؤيتنا لذواتنا وللآخر" ـ حسب تعبيره ـ وتحوله إلى نقاش تاريخي حول أصل وأصول العلمانية، يقول:
ثم ازداد الأمر تدهورا، وزادت المعركة بين دعاة العلمانية وأعدائها في العالم العربي احتدامًا وضراوة، إذ يقول أتباع الفريق الأول: "إن العلمانية كفر وإلحاد وغزو ثقافي" ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو شرًا مستطيرًا، أما أتباع الفريق الثاني فيقولون: "إن العلمانية هي أن يكون الإنسان إنسانًا، وأن يحكم ضميره، ويحب الخير كنهاية في ذاته، ويدافع عنه وعن حرية الفكر والإبداع والتسامح والمحبة، وأن كل من يقف ضد العلمانية ظلامي يبغي العودة للعصور الوسطى، ويقف ضد الحتمية التاريخية"، ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو جميلاً ورائعًا ونبيلاً، وانطلق دعاة العلمانية يلهجون بالثناء عليها، ويتحدثون عن أن لا سلطان إلا للعقل ويشيرون إلى أوروبا مهد النور والعقل والعلمانية..إلخ" ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 51.
يحاول المسيري إيهام القاريء بأنه هو ذلك الباحث الموضوعي الحيادي وأنه لا يقوم بالنقد إلا بشروطه العلمية، وعلى أساس أنه يضع العلمانية موضع النقد بأسلوب علمي وعقلاني، لكننا حينما سنستمر معه ونتابع منهجه النقدي للعلمانية ـ ومن وراءها الديمقراطية والرأسمالية والتنوير والتخطيط العلمي العقلاني ـ وهو حينما زعم أنه يريد إصلاح السفينة ـ العلمانية ـ فإنه بدلا من ذلك أغرقها بمن فيها، وهذا بالطبع أمر متعلق بالعاطفة لا بالعقل، فنحن حينما نكره كبشر نحاول أن ننسب كل قبيح إلى من نكرهه، كما مر بنا، فالمسيري حكم من البداية بالسلب على كل ما هو غربي ويهودي ومسيحي، بالتالي فهو ينسب ضمنيًا كل ما هو إيجابي إلى المسلمين والشرقيين.
فالعلمانية حسب المسيري هي صنو أو معنى آخر لكلمة إلحاد وكفر أو اللا دينية وكل مفردات المجامع اللغوية التي تصنف الإنكار، وهي مرة أخرى مرادفة للعدمية واللا إنسانية والدكتاتورية، وهذا غير صحيح طبعًا، فلقد رأينا كيف أن العلمانية تتزامن وتتواجد إلى جانب الأنظمة المتناقضة كالديمقراطية ونقيضها الدكتاتورية والوطنية ونقيضها الفاشية والنازية، من دون أن يعني ذلك أن تكون علة لهذه التناقضات، فالعلمانية كائن محايد يحاول إيجاد معادلة نسبية يعيش في ظلها الكائن البشري في ظل تجلياته المتنوعة والمختلفة، ولكن المسيري يريد أن يعلن لنا أن العلمانية لها نظرية "شاملة" تنتهي بالإلحاد وتتسلل هذه المنظومة إلى أدق تفاصيل الحياة وكافة جوانب الحياة، متناسيًا أن الحرية مسألة غير قابلة للتجزئة والتقسيم لأنها إما أن تؤخذ كلية بعلاتها ـ إذ لا مخلوق بدون نواقص أو عيوب ـ أو ترفض كلية فيعود المجتمع إلى غياهب السجن.
و المسيري يقسم نقده للعلمانية إلى نقطتين أساسيتين:
1 ـ حصر بعض تعريفات العلمانية في المعجم الحضاري الغربي.
2 ـ حصر بعض المصطلحات المتداخلة مع مصطلح "العلمانية" أو التي استخدمت في وصف بعض جوانب المجتمع الغربي الحديث.
و يقول عن ذلك:
و سنقوم بتجريد ما نتصور أنه النموذج الكامن وراء هذه المصطلحات وذلك من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها لنصل إلى بعض الأنماط المتكررة، (نسمي هذه الطريقة "التعريف من خلال دراسة مجموع من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل"). بهذا قد نتوصل إلى النموذج المعرفي الكامن وراء مصطلح "العلمانية"، وهو في تصورنا سيكون أكثر تركيبًا وشمولاً وتكاملاً من النموذج السائد، فهو يبين الوحدة الكامنة وراء المصطلحات والظواهرة المتناثرة.
إن التجريد الذي يحدثنا عنه المسيري ليس تجريدًا حقيقيًا، بل نستطيع أن نصفه بأنه تجريد وهمي أكثر من كونه تجريدًا مبنيًا على الواقع، فالظواهر التي توجد في المجتمع لا صلة لها بالقانون العام الذي تقوم عليه الدولة، وإذا كان بعض الأبرياء يقعون ضحية العدالة والقانون فهل يجوز لنا أن نلغي القانون؟ وإذا كانت تنتج عن الحرية بعض الظواهر السلبية فهل الحل يكمن في إلغاء الحرية؟ بالتأكيد الجواب هنا هو بالسلب والرفض، فالحرية لها عيوب ونواقص ولكن الاستبداد والدكتاتورية وثقافة الممنوع هي شر كلّي بالتأكيد، والحل هنا يجب أن يكون راجعًا إلى الإنسان نفسه، والحرية التي تتمثل في تطبيق العلمانية هي أشبه بالغذاء، فكل طعام يأكله الإنسان لا بد من أن يؤثر في صحته بوجه من الوجوه، فهل الحل هو أن يمتنع الإنسان تمامًا عن أكل الطعام؟ أم أن عليه أن يطلع على نوعية الطعام الذي يُناسب سلامة وصحة الشخص؟ من هنا نجد أن التجريد المزعوم والذي سيقوم به المسيري هو مجرد نماذج عشوائية Random لا تعكس صحة أو بطلان أو الإيجابي والسلبي في أي نظرية، فإذا كانت المجتمعات المادية الغربية سلبية ـ حسب المسيري ومؤيديه ـ فلماذا هذه المجتمعات هي على رأس الهرم البشري، بينما المجتمعات التراحمية (التزاحمية كما نسميها) هي في ذيل القائمة وعلى كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟.
إن النماذج التي يريدنا المسيري أن نصدقها في كونها تعكس النظرية الشاملة للعلمانية هي نماذج انتقائية، وبالتالي فهو لا يملك أن يلغي سلبيات الفعل الإنساني، فالإنسان بما أنه حر فهو كائن سلبي إيجابي في الوقت نفسه، وإذا كنا نريد مع المسيري أن نلغي سلبيات الإنسان فذلك سيكون إلغاءًا للإنسان نفسه، فالإنسان كائن يتذكر ولكنه ينسى أيضًا، يرحم ويقسو، يعدل ويظلم، وهكذا نجد أن الفعل الإنساني يصنع كلا النقيضين، الإيجابي والسلبي، فهو حيوان ذو غريزة قبل أن يكون كائنًا عاقلاً، وما نسميه بالفكر والعقل والأخلاق والثقافة كلها منتجات تحتاج إلى وقت وظروف وأسباب كثيرة لتثمر ما هو إيجابي، وحتى لو أثمر العقل وأنتج ثقافة يبقى العقل أحيانًا أسيرًا لغريزة مكبوتة أو غضب لم يتح للفرد أن ينفس عنه، فإذا أدركنا هذه الحقيقة اتضح لنا أن الإنسان هو "كومة حاجات" قبل كل شيء.
يقول الدكتور المسيري:
و تنطلق هذه الدراسة (و كل دراساتي الأخرى) من الإيمان بأن ثمة فرق جوهري كيفي بين عالم الإنسان المركب، المحفوف بالأسرار، وعالم الطبيعة (والأشياء والمادة)، وأن الحيز الإنساني مختلف عن الحيز الطبيعي المادي، مستقل عنه، وأن الإنسان يوجد في الطبيعة ولكنه ليس جزءًا عضويًا منها، لأن فيه من الخصائص ما يجعله قادرًا على تجاوزها وتجاوز قوانينها الحتمية، وصولاً إلى رحابة الإنسانية وتركيبتها (وهذا هو مصدر ثنائية الإنساني والطبيعي التي تسم كل الأنساق المعرفية الهيومانية الإنسانية Humanistic)." المصدر السابق ص 54.
إن هذا كلام نظري جميل، وكلنا كبشر نتكلم "عما ينبغي" أن يكون عليه الإنسان من كمال وجمال واستقلالية وراحة، لكن هذا الكلام النظري الجميل لا يصف الواقع، ولا صلة له به، فالإنسان وطوال التاريخ كان يشن الحرب ويستعبد الآخرين ويسم كل حروبه بأنها "من أجل البشرية" سواءً كانت حربًا عادلة أو ظالمة، ولا يوجد في كل التاريخ أي نظام رفع شعار الظلم والقهر، لأن كل الحضارات زعمت، ولا تزال، أنها قائمة على العدالة والرحمة، حتى لو كانت العدالة والرحمة لا تعنيان إلا الموت والدمار، ومن هنا لا مجال لفصل الإنسان عن الواقع والطبيعة، والطبيعة هنا لا تعني قط "الغريزة الحيوانية" كما يريدنا المسيري أن نفهمها، صحيح أن النازية والعروبة وسائر النظريات القومية العنصرية قسمت البشرية على أساس حيواني، لكن الاستثناء هنا لا يسري على القاعدة، فطبيعة العقل تختلف عن طبيعة المادة، والمسيري تهرّب هنا من إشكال فكري بقي قرونا مثار جدل بين المسلمين وهو: هل الإنسان مخير أم مسير؟ هل هو حرّ أم مجبر؟ هل كل شيء يسير بقدر أم أن الإنسان مفوض إليه فيما يفعل؟ وهنا لا يهمني في مبحثي عن ذلك الذي يجعل الإنسان مجبرا أهو الله أم الطبيعة!! فالمهم أن الإنسان يفقد ذاته في كلا الحالتين، نجد حديثًا دينيًا يقول ـ ونتخذه نموذجاـ:
حدثنا يونس حدثنا ليث عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس، أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا غلام إني معلمك كلمات "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فلتسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" ــ مسند أحمد بن حنبل الحديث 2537.
فهذا الحديث يدل دلالة شبه قاطعة على أن الإنسان مجرد مخلوق خلق عبثًا (فقد حُكم عليه مسبقًا في أن يسقط في جهنم أو يرتفع إلى جنات النعيم)، وهذا قد لا يختلف كثيرًا ـ إن لم يكن أسوأ ـ عن الحتميات المادية في الفلسفة الماركسية التي ترى في الإنسان كائنًا "اقتصاديًا" من دون أي جوانب أخرى، غير أن الماركسية أسلم من تلك النظرية "الإسلامية" التي تنسب هذه الحتمية الظالمة إلى الله والقدر الإلهي أو الوسواس الشيطاني، والشيطان نفسه من خلق الله وبالتالي نسب الأمر إلى الله مرة أخرى، فأن نتهم المادة أفضل من أن نتهم الإرادة الإلهية بالظلم أو النقص، وإذا كان المسيري قرر أن يفصل الإنسان عن الطبيعة، وهو ما لا يمكن إثباته إلا جزئيًا، فإنه لا يحرر الإنسان من المادة عبر هذا الفصل القسري الإجباري، وبمجرد أن يقوم بذلك فهو يرمي الإنسان في ربقة حتميات أخرى أخطر، فهذه الحتميات تلبس لباس القدسية وهي غير قابلة للأخذ والردّ لأنها ببساطة (حتمية غيبية)، ولكن الحتمية المادية المزعومة لا تمتلك خاصية التقديس هذه كونها قابلة للامتلاك الإنساني على عكس تلك الحقيقة التي تُصبغ بصبغة "التقديس" و"الغيب الإلهي" و"الأسرار الإلهية".
http://www.copts-united.com/article.php?A=13396&I=339