استراتيجية الخطوة التالية

منير بشاي

بقلم: منير بشاي
لأول مرة في التاريخ يخرج عشرات الآلاف من الأقباط حول العالم في تظاهرات شعبية ينددون فيها بالظلم الواقع على اخوتهم في مصر ويطالبون بالمساواة. وكانوا قبلها يذرفون الدموع في صمت بل وربما كان يعتبر بعضهم مجرد الشكوى تعدي على الإرادة الإلهية.
ولأول مرة منذ زمن بعيد نرى رجال الكهنوت يشاركون الشعب في التظاهر بعد أن كان المفهوم السائد هو أن المظاهرات هي أعمال شغب لا تليق بالإنسان المؤمن فما بالك برجل الدين.

ولأول مرة يخرج الأقباط داخل مصر كما في خارجها في مظاهرات، وكان دائمًا يُقال أن أقباط الداخل لا يستطيعوا أن يعترضوا لأنهم يعيشوا في عرين الأسد.

بل ولأول مرة رأينا بعض المسلمين يشاركون الأقباط في تظاهراتهم لأنهم يؤمنون أن الحرية والعدالة والمساواة مبادئ عامة لا تتجزأ تحق للجميع على أساس المواطنة وليس على أساس الدين.

وأيضًا لأول مرة في التاريخ أصبح للأقباط هذا القدر من المساحة الإعلامية، وكانوا قبلها يستجدون من الحكومة المصرية الدقائق القليلة لإذاعة القداس الإلهى في الأعياد، أما الآن فأصبحت لديهم محطات فضائية عديدة تذيع ما يحلو لهم على مدار اليوم وفي كل يوم، وأصبح لديهم مواقع لا تحصى على الإنترنت، وأصبح لديهم اتصال مستمر بالإعلام العالمي عن طريق البيانات الصحفية والمقالات والإعلانات مدفوعة الأجر التي تغطى العالم كله وتتناقلها وكالات الإعلام العالمية بكل اللغات.

هذه مكاسب للقضية القبطية يجب أن نهنئ أنفسنا عليها، وخطوة فاصلة في تاريخ الأقباط ينبغي أن نعرف كيف نبني عليها خطوات أخرى. فالتغطية الإعلامية للقضية أصبحت متوفرة بل ربما بقدر يزيد عن الإحتياج المطلوب، ولكن مع هذا ظهرت مشكلة جديدة وهي معرفة المادة التي يجب أن نبثها وتحديد الأسلوب الذي نبثها به لتحقيق أفضل النتائج.
كنت أشاهد إحدى الفضائيات القبطية وكان الموضوع كالعادة هو الاعتداءات التي تحدث في مصر، وكان البرنامج يذيع ما يصله من أخبار، كانت الأخبار تأتي في مكالمات من مصر وتُذاع مباشرة قبل التأكد من مصدرها أو مدى صحتها، بعض هذه القضايا تبدو هامة شرعية، بينما البعض الآخر لا نعرف ما إذا كانت لها بعدًا طائفيًا أم هي مجرد حوادث فردية وليست ظاهرة اجتماعية عامة.

ثم جاءت ردود الفعل المداخلات لما يُذاع، وكان إما قبول ما يُقال دون فحص أو رفضه أيضًا دون فحص، وحدث تبادل للكلمات الجارحة بين المعلقين والتراشق بالإتهامات. وفكرت في جدوى هذا الأسلوب وهل يمكن أن يصل بنا إلى علاج؟ أم أنه سيكون بمثابة سكب المزيد من الزيت على النار المشتعلة نتيجة الإحتقان الطائفي الموجود في مصر.

وبعدها جاءت مداخلة من رجل مسلم يبدو من صوته الهادئ أنه متقدم في السن قال فيها أنه كمسلم لم يفهم الإسلام يومًا بهذه الطريقة، وأنه تربطه بزملائه وجيرانه من المسيحيين علاقة حب ورحمة، وأنه يعتبر أن الإرهابيين لا يفهمون الإسلام الصحيح. واستمرت المكالمة مدة طويلة كان يحاول الرجل أن يثبت فيها أن الإسلام الصحيح ينادي بالسلام بينما من كان يرد عليه يعترض ويتهمه بأنه لا يفهم الإسلام الصحيح.

ودون التدخل لتأييد هذا الرأي أو ذاك، فمن المؤكد أنه توجد نصوص في الإسلام يمكن أن تؤخذ على أي من الرأيين، ولكن في الحقيقة لا أدري إلى أين يقودنا مثل هذا النوع من الجدل؟ وهل كان المقصود أن نقول للرجل أنك كنت على خطأ طوال هذه السنين عندما كنت تعامل المسيحيين بالمحبة وكان يجب أن تعاملهم بالعنف تنفيذًا لتعاليم دينك؟ وما الخطأ في أن يُقال له: شكرًا لك سيدي أنك فهمت دينك على هذا النحو السلمي الحضاري، وحبذا لو تنشر هذه القيم على بقية من تعرفهم من المسلمين حتى تقل حدة التعصب ويتعلم الجميع كيف يتعايشون الواحد مع الآخر في سلام.

ولذلك اتمنى أن ننتهج الأسلوب المتعقل فيما يُذاع في إعلامنا القبطي، فلا نتسرع في نشر ما يأتينا من أخبار قبل أن يأتينا الدليل القاطع على صدقها، وبعد ذلك يجب نتناول ما يحدث بطريقة موضوعية علمية بعيدة عن التجريح، ويكون هدفنا البحث عن أرضية للعيش المشترك وأن نحاول دائمًا كسب الأصدقاء الجدد إلى صفنا بدلاً من تحويل الأصدقاء القدامى إلى أعداء. وأن يكون هدفنا النهائي هو تهدئة النفوس وليس ترسيخ الضغائن. أقول هذا حتى إذا كان الطرف الآخر لا يفعل المثل.

نعم هناك كثير من النصوص الإسلامية التي تزعجنا، وهي لا شك من العوامل الأساسية التي يستند عليها أمثال الظواهري وبن لادن ومن هم على شاكلتهم في عمليات الإرهاب، ولكن عقلاء المسلمين يمكن إذا أرادوا أن يعالجوا الموقف بإعادة تفسير هذه النصوص للتقليل من تأثيرها العنيف مستندين في ذلك على دراسة التوقيت والظروف الخاصة التي ظهرت فيها النصوص.

علم مقارنة الأديان والدفاع عن العقيدة سيظل دائمًا له مكانة في حياة الناس، وأتمنى أن يتم هذا بروح موضوعية علمية متحضرة بعيدة عن الإجبار. ولكن في مجال الحقوق الوطنية بين أقباط مصر ومسلميها يجب أن نبتعد تمامًا عن الجدل الديني، فلا خيار للطرفين من أن يعيشا معًا جنبًا إلى جنب مع اختلافهم في الدين، في دولة مدنية شعارها: الدين لله والوطن للجميع.

والسؤال الذى يجب أن نطرحه في تعاملنا مع بعضنا البعض كأتباع للأديان المختلفة سواء في مصر أو في العالم هو: هل هدفنا أن نعيش معا في سلام أم أن نعيش في تطاحن مستمر ينتج عنه المزيد من الدموع والدماء والدمار؟

هذا التطاحن سيستمر بالتأكيد إلا إذا لجأ الجميع إلى التعقل، أو إذا كان أحد الطرفين يعتقد أنه يريد ويستطيع أن يقضي على ملايين البشر من الطرف الآخر.

Mounir.bishay@sbcglobal.net