في نقد الخطاب الديني السلفي

شاكر فريد حسن

بقلم: شاكر فريد حسن
لقد طرأت على مجتمعاتنا العربية خلال العقود الأخيرة تحولات وتغيرات قيمية وبنيوية متعددة وظهرت تيارات فكرية ومذهبية وسياسية مختلفة، كما نشأ ما يسمى بـ"غول"التطرف الديني التكفيري المنفلت على العلمانية والعقلانية، ونتيجة ممارساته وهجومه الغوغائي اقتحمت الشوارع العربية حوادث عنف واغتيال راح ضحيتها العديد من المفكرين والمثقفين العلمانيين النخبويين السابحين ضد التيار السائد، المؤمنين بالاجتهاد والداعين إلى تحديث العقل العربي الإسلامي وتجديد الفكر الديني.
وفي الوقت الذي تزدحم فيه الحياة الحديثة المعاصرة بكل عناصر العلم والمعرفة والفلسفة والتكنولوجيا والتفاعل العميق مع التطورات والأفكار الجديدة، نرى التيارات الدينية السلفية والغيبية الظلامية المتطرفة، التي تموج فيها مجتمعاتنا العربية الإسلامية تفرض احتكارًا على الدين والفكر الديني، وتخنق الفكر، وتنشر الأساطير والخزعبلات، وتحارب بشراسة التنوير والإصلاح والحداثة، وتفسر الدين تفسيرًا معاديًا للعقل والاجتهاد، وتطرح أفكارًا شديدة التعصب والتخلف والرجعية إزاء الثقافة والفكر والإبداع والتطور العلمي، وتدعو للعنف وتكفير المجتمع وتهديم النسيج الاجتماعي ومصادرة رأس المرأة وملامحها.
وما من شك أن الرجعيات والأنظمة العربية تقوم باستثمار واستغلال سياسي للدين يكون زريعه تدمير المجتمع العربي الإسلامي عدا عن تعميق التناقضات والصراعات الطائفية والقبلية فيه وتمنع تطوره وتقدمه، كذلك فإن الجماعات والحركات المتأسلمة ذات الطابع السلفي الظلامي تتغذى من النفط السعودي وتستثمر اللحى والجلباب والحجاب من أجل سرقة الفقراء وسرقة الأوطان.
لقد استخدم السلف الفكر الديني بعمق ووعي وعقلانية، لتأصيل وعصرنة المفاهيم الإسلامية ورفع مستوى الوعي العربي الإسلامي وتحويل الدين إلى رافعة للمجتمعات العربية الإسلامية لتتمكن هذه المجتمعات من التصدي للتحديات التي تجابهها، لا سيما في الميادين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وإن رواد الفكر العربي الإسلامي المضيء والمشرق من رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وقاسم أمين وصولاً إلى جيل طه حسين واحمد لطفي السيد وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد وسواهم، ساهموا فعليًا في نهضة المجتمع وتحرير المرأة ومشاركتها الفعالة في مختلف مناحي الحياة، ودافعوا عن حرية الرأي والتفكير واحترام الرأي الآخر، بينما نجد الأصوليات الإسلامية السلفية تعمل وتسعى جاهدة إلى تقييد حركة الراهن وجعله أسير الماضي، وأن تمجيدها لهذا الماضي هدفه تهديم الحاضر دون تقديم برنامج ومشروع مستقبلي عصري وتجديدي وعقلاني.
كذلك فإن السلفية الجديدة ترى أن كل الأسئلة القائمة التي يطرحها الإنسان موجودة في الغريزة أو في الدين، ونتيجة ذلك فإن الإنسان لا يقرأ الدين على ضوء أسئلة الحياة وإنما يقرأ الحياة على ضوء تعاليم الدين.
وفي حقيقة الأمر أن تراثنا يحمل في ذاته مجموعة من القيم الروحية والأخلاقية العليا، ويزخر بالنزعات المادية والعناصر والجوانب التقدمية والديمقراطية.
وقد حافظت هذه العناصر على بقائها ورسوخها من خلال علاقتها المادية الصادقة مع ثقافتنا القومية التقدمية، وهذا التراث كان وسيبقى دائمًا مع وحدة المظلومين والمقهورين ضد الظالمين والمستبدين.
ولا جدال أن قوى التعصب وجماعات الإسلام السياسي هي قوى متعصبة ورجعية ومتزمتة معادية للإبداع وللعلم والديمقراطية والتعددية والحرية وشرعية الاختلاف، والمساواة للمرأة، ومعادية للحضارة الإسلامية السمحة التي تحمل ملامح ديمقراطية وعقلانية مدهشة، وأيضًا معادية لقوانين التطور ولطموحات الإنسان العربي في التقدم والتطور الحضاري في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية.
ومن نافل القول، إن قيادات الحركة السلفية يتسمون بمعاداة العقل والتفكير المنطقي استدلالاً بالنص المقدس الذي يدعو هو نفسه إلى ضرورة أعمال العقل وتحريض النبي الكريم على هذا بقوله: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".
إنهم يديرون ظهورهم لكل مستجدات الواقع والحياة ويؤسسون لفكر أحادي يقدس النص ويكرس الجهل والتبعية ويعادي الثقافة والفن والإبداع، ويفرضون معايير وأوضاع ماضوية تعتبر ردة حضارية ودعوة إلى تمزيق المجتمع وعزله عن حضارة العصر، ومحاولة فرض سلطة دينية على هذا المجتمع.
ولذلك فعلى القوى التحررية التقدمية والتيارات الفكرية والأيديولوجية العلمانية المكافحة والمقاتلة لأجل التجدد العام لمجتمعاتنا العربية، كشف حقيقة وزيف الجماعات الدينية الأصولية السلفية التكفيرية المتطرفة التي تعارض التأويل المستنير والعقلاني للنصوص الدينية.
وهذه الحركات تدعي الإسلام وتشوه جوهره الوسطي الإنساني وبعيدة عن روح وجوهر الإسلام الحقيقي المتسامح والمنفتح، وعن تراثه وتقاليده وتعاليمه المتميزة بالسماحة واحترام الآخر، الإسلام الذي يدعو إلى الثورة على الظلم السياسي والقهر الطبقي والاجتماعي ومواجهة الفقر والجهل والتخلف، ونشر المحبة والوئام والتكافل بين البشر، علاوة على التصدي بالفكر والجدل والسجال لخطابها السلفي المنغلق ومشروعها السياسي، وإبراز صورة الإسلام النيّر الذي أعطى وقدم الكثير للحضارة العربية الإسلامية.. الإسلام المشرق الذي ينشد الحرية والإنعتاق وتهذيب الإنسان ورقيه وتطوره.
وأيضًا الوقوف في وجه دعاوى الشعوذة السياسية والظلامية، لأن هذا دفاع عن حق مجتمعاتنا على امتداد الوطن العربي في التقدم الحضاري ومواكبة روح العصر باتجاه بناء وتأسيس الدولة المدنية المعاصرة القادرة على التخطيط العلمي المنهجي الواقعي في خدمة طموح الجماهير إلى حياة أفضل وأجمل وأخصب، لا دولة الإكراه والتعصب الأعمى والجاهلية الجديدة والطائفية المقيتة البغيضة، ودولة العنف والتصفيات الجسدية والاغتيالات الفكرية لكل من يجرؤ على الاجتهاد وممارسة الحرية التفكير العقلاني المغاير والبديل.

كاتب وناقد فلسطيني