نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
الأدب الروائي تخييل والكتابة السياسية تفسير وبينهما مسافة لا يجوز أن تختزل في خلط تأويلي، فما ينتج عن الرواية من أخيلة ليس هو نفسه ما يكشفه التحليل السياسي من وقائع، لكن أحدهما مع ذلك يكشف عن الآخر ويساهم في اضاءته.
عبد الرحمن منيف تخيل السياسي العربي في شخصية أبدعها في رائعته "مدن الملح" هي شخصية "خريبط" التي نجد ملامحها متشابكة مع شخصية "الشخبوط" التي نستلهمها، في تداخل تخيلي واقعي، من تحليلات الكاتب السياسي أسعد أبو خليل، فما الذي يجمع بين شخبوط وخريبط؟
خريبط شخصية روائية رسمت ملامحها مخيلة الروائي في "مدن الملح"، أما الشخبوطي فهو معطى واقعي، هو سياسي متخم لا يمارس السياسة إلا كما يكتب أو يتكلم، تداخل وثيق بين الاثنين ليس فقط في دلالة التهجين والاحتقار، بل كذلك في طاقتهما الايحائية على تعرية الواقع، فهما يشكلان نموذجا للسياسي العربي المتولد في سياق الانحطاط والتدهور في كل مناحي الحياة العربية، ولكي نقترب من الواقعي أكثر من التخيلي سندغم الشخصيتين في مسمى واحد هو الشخبوطي الذي سنفحص خصائصه كشخصية ساخرة وكاريكاتورية مفتوحة على كل التأويلات.
الشخبوطي هو أولا أمي في السياسة وفي اللغة، فكما تملى عليه الكلمة كذلك هو يخضع لاملاءات تحدد كل المواقف السياسية. الأمية هي أجلى خصائص الشخبوطي الذي يتلعثم ويتهجأ الحروف والكلمات. وهو تلعثم يمتد ويتجذر فيشمل اللغة والادراك، إنها سمة ثقافية تشكل علامة فارقة لمدن الملح التي هي بلا تاريخ بلا ذاكرة بلا أصالة بلا ثقافة، المدن الاسمنتية التي هي كما أوضح منيف انفجار طارئ أشبه ببالون يفتقد الانغراس في التاريخ ، لذا فهي ألعوبة في يد السياسي الأجنبي الذي يتكلم ويمارس السياسة، ويجمع بين السلطة والمعرفة، السياسي الذي يقبع في المركز فتتحول رغباته إلى املاءات تشع من المركز نحو الأطراف الخاضعة.
أتذكر هنا أدونيس حينما وجد أن العربي لا يتكلم وإنما يصدر أصواتا، يتأتئ، يموء كالقطط. الشخبوطي إذن هو النموذج الصارخ للزعيم العربي الذي يتهجأ ويصدر أصواتا ولا يتكلم، هذه الخاصية تنتشر كلما تأتى للشخبوطي أن يحتل منصبا مرموقا رفيعا دون أن يحرز نجاحا في امتحان الاملاء، أفلا يبدو أن هكذا زعامات تحتاج إلى دروس تقوية في الاملاء والقراءة؟!
الشخبوطي ثانيا مهجوس بالشرعية لأنه بكل بساطة يفتقر إليها، افتقاد الشرعية وهو المرض العضال الذي يعاني منه الشخبوطي سيؤدي به إلى البحث عنها في الخارج، فهي شرعية مفبركة من الارادة السياسية الناجمة عن رغبات المركز، وكما أن المدن التي أسسها ليست سوى انفجار اسمنتي طارئ كذلك الشرعية الشخبوطية هي هشة متداعية، إنها قبل كل شيء صناعة واختراق أجنبي يؤسس التحالف الوثيق الذي يحمي مصلحة الآخر ويتجاهل تبعا لذلك المصالح الوطنية الحميمة للشعوب التي يتزعمها، تبعية مطلقة وانحياز كلي لهذا الآخر يجعلان من هذا الزعيم سمسار، آلة تتقن تنفيذ الأوامر، إنه وجه أليف في الخارج لكنه في الداخل وحش ضاري مجهز بكل تقنيات الترويض للرعايا.
ولأنه كذلك فهو مزود بجهاز مناعة ضد التغيير، فزعيمنا يجثم ككابوس لا يتزحزح عن السلطة، لأنه زعيم منذ ولد وحتى يموت. ليس في قاموسه ما يشير إلى أن هنالك شيء إسمه تقاعد، الموت وحده هو الكفيل بتقديم وجه جديد ولكن بعد أن تتعرض كل أجهزة الدولة إلى الشيخوخة والعقم، وإذا كان لابد من اصلاح فيجب أن يتماهى كليا مع الخيارات السياسية في أروقة مدن المركز وليس في "مدن الملح".
ما أشبه الشخبوطي بالكائن الطفيلي الذي يفتك بكل شيء ويعتاش على غفلة الرعايا بل وتجيير ضمائرهم لضمان استمراره في السلطة. ولكن خاصية الثراء الذي هو فوق القانون هي أهم ما يمكن أن نستشفه من سمات وخصائص الزعيم الشخبوطي، إن شعرة منه تساوي مليار، إنه كرش منتفخ مشحون بأوراق الدولار، لا يهيمن على ما يتصل بالزعامة وحسب بل كذلك على كل مناشط الحياة التجارية، ولعله قد يصاب بسكتة قلبية فيما لو تفوق عليه أحد رعاياه في حشد المال وكمية الأرصدة في المصارف الأجنبية.
الشخبوطي لا يتعامل إلا بأرقام فلكية، فالدم الأزرق الذي يسيل في عروقه يجعل منه كائن فلكي بينه وبين مواطنيه مسافات ضوئية، إن عمولة واحدة في صفقة يكون طرفا فيها هي بحجم ميزانية دولة، ولا نخشى عليه الرقابة، فزعيمنا هذا لن تطاله المحاسبة القانونية فيما لو اختلس أو سرق، كيف وهو فوق القانون بل هو نفسه محض قانون، وإذا حدث لا سمح الله أي طارئ غير محسوب يستوجب الادانة فإن هناك دائما من سيكون كبش فداء والله غفور رحيم!
وكل ذلك لا يتم إلا بفرض طوق حديدي من الصمت. الشخبوطي صاحب الدم الأزرق محاط بسور عال من الكتمان والسرية، وإذا شئنا أن لا نتهور أكثر سنقول أنه يقطن في جزر الواق واق، لا أحد يعرف أين وماذا يحدث داخل دائرة السلطة، كل شيء محاط بالسرية، حتى التجاعيد التي ترتسم على سحنته الاستثنائية يجب أن تخفى، أما خصلات الشعر التي كان يفترض أن تبيض فيجب طلائها بلون أسود أو حتى أشقر، أما سنوات عمره أو فيما إذا كان قد تعرض إلى جلطة دماغية فإن كل ذلك يجب أن يعد من المعلومات السرية التي تمس الأمن القومي.
هذه السرية والغموض الذي يكتنف كل ما يمت إليه بصلة تتحول إلى ثقافة عامة يحتل الصمت فيها قيمة مركزية، والصمت هو نقيض الفكر أو الكلام، ولذلك فإن هذه الثقافة معاقة فكريا، إنها مع ذلك تتكلم لكنها تتلعثم، نواجه هنا تعتعة في الكلام مماثلة تماما لحالة الزعيم حين يتهجأ ولا يجيد حتى قراءة خطاب موجه للأمة. أفلا يجب حينها أن تشعر الأمة بالدونية والنقص؟
لا يمكن أن يستتب الأمن والسلم والحال كذلك إلا بتكريس الزيف ، ولذلك فإن كل ما يترشح عن الشخبوطي هو وهمي: مؤسسات المجتمع المدني، الاصلاح والتغيير، المكاسب والانتصارات، الاشكالات والحلول، الأوضاع المعيشية للمواطنين، الانجازات الوطنية والتنموية. إن كل ذلك ليس له أي انعكاس على أرض الواقع، وإنما واجهة ومزاعم تتجمل من خلالها السلطة الشخبوطية التي تحمل إرادةً تحور حتى الحوار الوطني إلى حوار طرشان، هم كذلك يتهجأون، وكأن هنالك عدوى تجتاح كل شيء.
إن حوار الطرشان يستبعد كل ما هو جوهري وحاسم من القضايا الوطنية التي على أساسها تدشن الحوارات الوطنية. عندما يتحدث الوطني عن حوار فإنه يجب أن يعنى بكل ما يشكل في الصميم قضية جوهرية، كالتي تتعلق بالتحديث السياسي الجذري، أما إلهاء المواطن المسكين بكل ما هو عرضي فهو من صنع الشخبوطي نفسه الذي يسعى عبر الحوار الوطني إلى ادماج ما هو مفتت ولكن في اطار متكسر أكثر هشاشة. والمضحك فعلا أن يحيد الشخبوطي نفسه عن كل ذلك وكأنه غير معني بما يجري أو كأنه طرف محايد خارج لعبة الصراع. ولعل من نافل القول أن نذكر بأن الشرط الأساسي لكي لا يكون الحوار الوطني زائفا هو أن يترافق مع توجه جاد نحو المشاركة السياسية والتمثيل الحقيقي لمكونات المجتمع. ولكن هذه أبجديات لا يجيد تلاوتها الشخبوطي.
الشخبوطي أخيرا يستنسخ ذاته في صورة الموظف التابع، الموظف التابع الذي يملك من الحمق بحيث يكفي لتقليد الشخبوطي في تهجؤ الكلام، الكلام سيشمل كل التبريرات التي تضفي الشرعية على "عمل السلطة" بما فيها التبرير الديني الذي بإمكانه أن يجعل من العسف والتقصير مبرر والحجة دائما: "قضاء وقدر" وإليكم نموذجا تخيليا:
أبله وبليد كان يدير قسم في دائرة حكومية قابله مواطن لغرض التشكي من قرار هو في نظره ظالم، وبعد جولات وصولات من النقاش والمرافعات لم يكن أمام هذا المواطن "الغلبان" إلا الابتزاز العاطفي، بما قد يؤدي في تصوره إلى اعادة النظر. عرض المواطن بقلق كل المخاطر التي قد تصل إلى حد المجازفة بالحياة، وبعد كل ما بذل من جهد في محاولة اقناعه ولو عن طريق اللعب على وتر التعاطف الانساني، لم يكن أمام هذا الأبله التعس إلا اللجوء إلى اللازمة التبريرية التي يحتجب خلفها كل استهتار شخبوطي، هذه الحجة "اللازمة" استلت من خطاب ديني، مهمته الأساسية خلع الشرعية على الواقع والسلطة الشخبوطية، لازمة عادة ما تحول "القتل" إلى "موت"، أو الكارثة والابادة والجرائم التي هي بحجم وطن إلى حالة طبيعية مبررة تماما فقط لأن الله أراد. اللازمة هذه تشحن الخطاب السياسي الشخبوطي في كل تجلياته بطاقة تخديرية وتبريرية عالية: كل ما سيحدث من مآسي يجب أن تقابل بخضوع المؤمن الذي يبتسم مع السلطة الشخبوطية وهي تجلده كل يوم باسم: القضاء والقدر والعناية الشخبوطية!
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=14305&I=359