أيمن عبد الرسول
بقلم: أيمن عبد الرسول
أدب الاختلاف، مفردة أصبحت غائبة عن قاموسنا الثقافي العام.. وأصبح مفهوم حرية الرأي يعني لدى المتحاربين على تأويله من كل فريق، وفقط، حرية السب والاتهام سواء كان الاتهام بالعمالة السياسية أو التكفير الديني. والكل أصبح ضد الكل على هيئة تكتلات مصالح تضيع بين ملامح معاركها مصالح الوطن حيث لا وطن إلا الذات التي ضاقت بما رحبت فتصورت ضيقها وطنًا لا يتسع لسواها، وفي الوقت الذي تحطم فيه العولمة الحواجز الدولية بين القارات وربما الكواكب، يعيش البشر كجزر منعزلة لا تلتقي إلا وقت الحرب!!!
وهذه الحرب الفكرية لا توصف إلا بأنها حرب قذرة، ولا وقت للسخرية التي يثيرها العدميون من كل مصطلح فلسفي، فيدعون جهلاً أنه ليس ثم حرب نظيفة, والتاريخ والجغرافية يثبتون دائمًا أن هناك حروبًا تراعي قواعد العداء، ولا تصيب فيها قذائف الأصدقاء إلا أهداف العدو المحتشدة ضده، فهل معاركنا الفكرية كتلك التي نتحدث عنها؟!
لماذا نطلق عليها حربًا قذرة؟
لأن عدونا ليس محدد الأعداء ولا يتخذ من ساحة المعركة الرسمية أرضًا للسجال ولا يتورع كذلك عن استخدام أسلحة ممنوعة وغير مصرح بها مثل التجريح الشخصي واستخدام كل الأوراق حتى الكاذب منها ضد ذلك الذي اتخذه هدفًا لضرباته العدائية، مع يقين قاتل، نعم قاتل لكل إمكانيات العودة والسلام مع ذلك العدو المفترض، ومن المفترض كذلك أن الحرب النزيهة - بالعند في أصحاب النزعة العدمية – تكون ضد الفكرة لا ضد ممثلها، مع النصوص لا الشخوص، الغايات لا القامات، مع حفظ المقامات نقاتل – مثلاً – ضد التخلف لا المتخلفين، ضد الغباء على اعتباره معنًى، لا الأغبياء, ضد الكفر أو الإيمان، لا الكفار ولا المؤمنين!!
الاستشهادات في هذه المعركة - إن صحت نزاهتها - من نصوص دالة وأقوال موثقة لا يتخلى دعاتها عنها، ولا يعلنون براءتهم منها, ولا ينكرونها بينما ينافح عدوهم في إثباتها عليهم!
ونظرة سريعة على ما ندعوه في أيامنا الجارية بالمعارك الفكرية ستكشف لنا عن بيع كلي وجزئي لنزاهة المعركة وفروسية خائضيها بمنطق إما النصر لنا أو الشهادة لعدونا، فللحصول على الضربة القاضية على الخصم يمكن أن نستخدم أساليب التخوين والتكفير والاتهامات التي تطال الشرف بمعنييه الجنسي والاجتماعي، ومع ذلك كله ندافع عن "سفالاتنا" بوصفها حرية رأي، حتى ونحن نصادر على الآخر المتعارك معنا منافذ الرأي، وبوابات الحرية!
فمن من الذين خاضوا حربًا فكرية ضد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين شكك في مؤهلاته العلمية؟! ومن كفر علي عبد الرازق وهو يطالب الأزهر بنزع شهادته التى كانت تسمى بالعالمية، وهو يحاكمه على اجتهاده الذي لا يتضاد إلا مع الشيعة, في نفي كون الخلافة المدعوة إسلامية أصلاً من أصول الإسلام؟
لم نجد أحدًا ممن هاجموا الدكتور إسماعيل أدهم على إلحاده المعلن شكك في مؤهلاته العلمية، ولا أنكر عليه حق الاختلاف، بل ولا الحق في الإلحاد!!
وهذه الملاحظات مع بداهتها في عشرينيات القرن المنقضي وثلاثينياته المزدهرة بنماذج الاختلاف المنتج الذي لا يعتمد أسلوب الضربة القاضية، ولا التصفية المعنوية المفضية إلى جهنم التصفية الجسدية، والإرهاب الفكري الذي يبدأ دومًا فكرًا وينتهي غالبًا قتلاً!
ولماذا نذهب قريبًا؟
هل سمع أحدكم عن ابن الراوندي الملحد؟
الرجل الذي أعمل عقله ضد الدين، والفلسفة العقائدية الإسلامية وهاجم المعتزلة (فرسان العقل) الذين انحرفوا عن مقاصدهم السامية، في سبيل السلطة، المهم أنه هاجم الشيعة لحساب المعتزلة، ثم هاجم السنة لحساب الشيعة وصور بدفاعه عن من يدفع أكثر، صورة من يستغل العقل ضد العقلانية، والإلحاد ضد الإيمان، وأصبح من مرتادي مجالس المناظرات الفكرية ذات العيار الثقيل، وعندما مات ابن الراوندي الذي لقب بالملحد، مات على فراشه ولم يقتله متهور باسم الله مثلاً!!
المهم هو أن التاريخ حفظ لنا معارك فكرية يمكن وصفها بالنظيفة، ولم يستخدم الخصم فيها أسلحة محظورة، وقت كانت تدار هذه الحروب، لم تكن الصحف تلح على كتابها لملأ فراغاتها بتجريح خصومهم شخصيًا ولا الفضائيات تقتات على أجساد الآخرين، قبل أفكارهم وتصفية وتشويه حياتهم لحساب جماهير تتعثر في فهم غايتها من رأس محياها!!
متى نستعيد المعارك الثقافية النظيفة؟ سؤال يجب أن يجيب عنه رعاة المعارك القذرة التي عندما تعجز عن مواجهة الفكرة، تقوم بمحاولة القضاء على معتنقيها، ومتى يؤمن خائضو المعارك القذرة، بأن الزبد سيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس سيمكث في الأرض!!
خصوصًا وأن مدعي الدفاع عن الإسلام هم غالبًا أصحاب المعارك القذرة التي تتخذ من الدين ستارًا معلنًا لتصفية المختلفين معهم، ودعاة حراسة الوطن من أعدائه الخونة من وجهة نظرهم، فيضيع المختلفون دومًا، بين التخوين السياسي، والتكفير الديني، وإذا حاولوا التمسك بما يعتقدونه استقلالاً، يتهمهم الآخر بالمراوغة، فإلى متى يضيع أدب الاختلاف في هوجة الإعلام الذي يعمل على امتصاص دماء الآخرين على أيدي الجزارين، الذين إذا رأيتهم على الشاشات أو صفحات الصحف، ينتابني رعب من دم متخيل يسيل على نظارتي الطبية، مهما حاولت مسحها، تعلق بصورهم وسطور كتاباتهم، وغالبًا ما أتساءل في جدية مرعبة، بعد انتهاء هذه المعركة، من سيكون مرمى أهدافهم في المرحلة المقبلة!!
http://www.copts-united.com/article.php?A=14429&I=361