بقلم: أنيس منصور
وأنا أكتب مذكراتي التي أرجو أن تنشر بعد وفاتي اكتشفت من أين جاء توفيق الحكيم بعبارته الصاعقة: انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم، أي كرة القدم. وانتهى التفكير بالعقل ودخلنا في عصر التعبير بالجزمة!
كان من عادة توفيق الحكيم أن يجلس على مقهى صغير في عمارة (إيموبيليا) بشارع قصر النيل. وكنا نقول إنه اختار هذا المكان لأنه يواجه البنك الأهلي.
وكان يضحك ويقول: إنني غير مطمئن إلى الحراسة القوية على مبني البنك الأهلي.. وأنا أجلس لكي أحمي البنك الأهلي.
وكنا نسأله: هل عندك فلوس في البنك يا توفيق بك؟
فيقول: لا.
وكان يضحك ويقول: الطقس شديد البرودة والجلوس بجوار البنك الأهلي جلوس أمام أعظم مدفأة صنعها الإنسان.
ولكن عدت بالذاكرة فوجدت أنه على الجانب الأيسر توجد مكتبة كبيرة لبيع وتوزيع الكتب الفرنسية فقط. وقد أغلقت المكتبة أبوابها، فقد اشتراها أحد تجار الأحذية. فهذه أول مكتبة في مصر تحولت إلى (أحذاخانة). وفى مصر نستخدم كلمة (جزامة) أي الشماعة التي تعلق عليها الجزم. وقد تكون من الخشب أو من القماش.
ولاحظت قبل ذلك عندما كنت في أميركا قبل كذا وخمسين عاما وجود أجزاخانة (صيدلية) تبيع الجزم والكتب. ورأيت أن أنسب تسمية لها هي: «أحذاخانة»!
وكان من الممكن أن يكون نصف المكتبة للجزم.. وأن تكون هكذا أول مكتبة ومجزمة في مصر وربما في العالم. ويبدو أن الحكيم لم ينسَ هذه الواقعة الأليمة.. وأنها ظلت في دماغه حتى حدث ما يحدث في أي إناء يتشبع بالملح، فإذا تشبع قفزت بلورة. وهذا ما حدث للحكيم، فعندما سمع أن أحد لاعبي كرة القدم اشتروه بمليون جنيه، خرج وقال هذا ما لم يبلغه جميع الذين كتبوا من الكاتب المصري الجالس القرفصاء حتى توفيق الحكيم..
وكانت صديقتنا الآنسة إيفت فرزلي صاحبة (مكتبة الكتاب الفرنسي) تقول إنها سوف تبيع مكتبتها لأحد تجار الأحذية، لأنها لا تكسب ولا أمل عندها. فقد كنا نجلس في مكتبتها نتناقش ونشرب القهوة ونشتري الكتب، فهي صالون أدبي أو هي امتداد لمقهى توفيق الحكيم.. ولم يمتد عمر توفيق الحكيم ليعلم أن لاعبي كرة القدم الذين فازوا في كأس الدول الأفريقية قد تلقوا ثلاثة ملايين جنيه لكل واحد منهم. وبعضهم دون العشرين. فقد أصبحنا نمشي على رؤوسنا لأن رؤوسنا جزم!
نقلا عن الشرق الأوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=14524&I=363