بقلم: حلمى النمنم
لا تمتلك مصر قوة صناعية كبرى مثل ألمانيا أو اليابان أو الصين، ولا تتمتع بثروة نفطية طائلة على غرار عدد من الدول العربية، ونحن - كذلك - لا نمتلك مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية، وبمقياس مستوى دخل المواطن نحن فى وضع ليس طيباً، قياساً على بلدان عديدة حولنا، ولم تكن مصر قبل عقود أو حتى قرن أو قرنين ذات ثقل اقتصادى ضخم، ومع ذلك فقد تمتعت بمكانة متميزة، ولعبت دوراً مهماً فى محيطها العربى وأيضاً الإسلامى، فضلاً عن الأفريقى، وحين نحاول البحث عن أسباب ذلك الدور نجد أنها البلد الذى كان قادراً على أن يتابع الحداثة والتقدم فى العالم.. وانعكس هذا فى مؤسسات وأشخاص قدمت نموذجاً للريادة.
فى عز الظلام العثمانى كان الأزهر قادراً على أن يكون نقطة جذب للدارسين من العالم الإسلامى كله، وفى العصر الحديث تميزت مصر بأنها أرسلت البعثات مبكراً إلى أوروبا، وكانت لديها نماذج مثل رفاعة الطهطاوى وجيل بأكمله من رواد الفكر الحديث، ومصر استطاعت أن تؤسس بجهد أهلى جبار الجامعة الأولى فى المنطقة، بالمعنى الحديث، الجامعة المصرية، ومصر كذلك هى التى قدمت لعالمها العربى والإسلامى مشروع تحرير المرأة، فكانت المدرسة السنية، ونهضت المرأة المصرية بقوة فى مختلف المجالات.. وحين كانت تذكر مصر، يتم التوقف عند أسماء مثل الطهطاوى وقاسم أمين وطه حسين وسهير القلماوى وأمينة السعيد وعائشة راتب.. والقائمة طويلة وممتدة، يكفى أن نذكر ونتذكر - الآن - اسم العالمة الجليلة د. رشيقة الريدى التى تعمل منذ عقود على التوصل إلى حل علمى للقواقع التى تنمو فيها البلهارسيا على طول نيل مصر.
وبينما ينهض من حولنا يصرّ فريق منا على أن يسحبوا من مصر نقطة التميز الكبرى فيها، فنفاجأ بمن يُصر على أن تحرم المرأة المصرية من العمل فى القضاء، قبل ذلك هناك من أصر على أن تكون مصر فى مؤخرة الدول التى أخذت بنظام نقل الأعضاء للمرضى، والنتيجة أننا - فعلياً - نتراجع عمن حولنا، ففى ١١ دولة عربية تعمل المرأة بالقضاء، ولنذكر هنا السودان واليمن، ووصلت المرأة إلى مناصب قضائية رفيعة، وحدها المصرية التى يجب أن تحرم من هذا الحق.. وفى ٢٩ دولة إسلامية تعمل المرأة بالقضاء، لكن يبدو أن الإسلام لدينا مختلف، الإسلام فى ٢٩ دولة إسلامية لا يجد غضاضة فى عمل المرأة بالقضاء، وعندنا لا يحتمل ذلك!!
المؤسى هذه المرة، أن الرفض يأتى من الجمعية العمومية لمجلس الدولة، وتاريخياً كان القضاء والقضاة فى طليعة الاستنارة، ولدينا نماذج عظيمة مثل عبدالعزيز فهمى وسعد زغلول، والقائمة طويلة، وفى وقت من الأوقات حين أراد الملك فؤاد أن يأخذ مصر إلى مغامرة فى المجهول بالدعوة إلى إحياء الخلافة، وتشكلت لجنة للعمل فى هذا الاتجاه، وكان من تصدى لمشروع الملك ولجنته قاضياً شاباً، هو الشيخ على عبدالرازق بكتابه المهم «الإسلام وأصول الحكم»، وهكذا قال كلمة الحق أمام السلطان الجائر، ودفع الثمن كاملاً، محتملاً وصابراً.
نعرف أن هناك مناخا ثقافياً انتشر فى المجتمع مشبعاً بآراء سلفية وأصولية، تستعذب رفض المرأة وكراهيتها، وبالتأكيد المجتمع القضائى جزء من المجتمع كله، يتأثر بما فيه، لكن نحن ننتظر من المجتمع القضائى أن يكون قادراً على تجاوز تلك الحالة، وأن يكون فى طليعة الاستنارة والانتصار للمهمشين وللضعفاء وللمظلومين، وحرمان المرأة من حق العمل فى القضاء هو انحياز للتهميش وانتقاص حقوق ٤٩٪ من سكان مصر.
حرمان المرأة من حق العمل فى القضاء يعنى انسحاباً من الدولة الحديثة والعودة إلى دولة العصور الوسطى ومنطقها، ذلك المنطق الذى يحصر المرأة فى دور معين وساحة محددة داخل المجتمع، وهذا المنطق نفسه لا يسمح بوجود مؤسسة اسمها مجلس الدولة ولا محكمة النقض ولا المحكمة الدستورية، ولا يقبل القضاء بمفهومه الحديث الذى نتعامل به، والحقيقة أن تلكؤنا فى الأخذ الكامل بمبادئ وقواعد الدولة الحديثة طال أكثر مما ينبغى، وهذا التلكؤ يؤدى إلى ضعفنا وتراجعنا، فلا نحن دولة على غرار العصور الوسطى بكل ما لها وما عليها، ولا نحن دولة حديثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، نحن فى مرحلة البين.. بين، والغريب أن المؤسسات الحديثة هى التى تصر على الوقوف بنا فى هذه المرحلة أو تسعى بنا إلى عصر مضى وانقضى.
فى دولة العصور الوسطى كان يمكن للسلطان قنصوه الغورى أن يعزل جميع القضاة بتوجيه شفوى، لأن حكماً صدر ولم يعجبه، أما اليوم فلا يمكن عزل قاض واحد، ورأينا ما حدث حين أرادت السلطة التنفيذية، ممثلة فى وزير العدل، أن تقترب من المستشار هشام البسطويسى والمستشار مكى.. وهذا من إنجاز الدولة الحديثة، التى تفرض منح المرأة جميع الحقوق، كما فرضت استقلال القضاء استقلالاً تاماً.
أعرف أن قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة ليس حكماً نافذاً، وهو ليس ملزماً، لكن القرار يعنى أن هناك مناخاً ثقافياً قائماً على «التمييز» بين البشر على أساس الجنس (ذكر/أنثى) وهذا يعنى أن جميع أنواع التمييز الأخرى يمكن أن تكون مقبولة، تمييز على أساس الدين (مسلم/مسيحى)، أو تمييز على أساس الثروة (غنى/فقير) وغير ذلك كثير وكله وارد، والعقلية التى تجيز مبدأ التمييز لن تمانع فى أى تمييز آخر وفق أى أيديولوجية أو حتى ميل خاص وهوى ذاتى لدى مجموعة ما.
حين وقع التمييز ضد المصريين لصالح الأتراك والمستتركين وقعت الثورة العرابية، وعندما مورس التمييز فى الاستقلال ضد مصر والمصريين، بدعوى أنهم ليسوا أهلاً للاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى وقعت ثورة ١٩١٩، ثم جرى تمييز ضد الفقراء لصالح قلة من الملاك فقامت ثورة ١٩٥٢، وهكذا فإن أى تمييز يمارس ضد فئة أو قطاع من المجتمع يؤدى إلى الثورة أو قيام هوجة تحرق فى طريقها كل شىء، ولابد أن نعمل على تجنيب مجتمعنا وبلدنا مثل هذه اللحظة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=14561&I=364