بقلم: نوال السعدي
ينتمى الإبداع الفكرى إلى «المعارضة» فى كل زمان ومكان. الإنسان المبدع يشعر بالموت إن نافق السلطة الحاكمة المتسلطة، أو نافق المعارضة إن تحولت هى نفسها إلى شكل من التسلط الفردى، أو شلل منغلقة على نفسها غير ديمقراطية.
منذ العصر العبودى حتى اليوم يتشرب العقل (الوعى واللاوعى) الخضوع للسلطة المستبدة، والتمرد عليها فى آن واحد، انقسم الإنسان إلى شخصين اثنين، أحدهما يخضع ويطيع ويستسلم، والثانى يعارض، يتمرد ويثور.
ازدواجية الشخصية هى النتيجة الطبيعية لازدواجية القوانين فى الماضى والحاضر، فى السياسة والاجتماع والأخلاق والأديان والأعراف والتقاليد والقيم المادية والروحية، انقسمت الروح كما انقسم العقل والجسد، وانفصل كل منها عن الآخر، حلقت الروح فى فضاء المثالية الضبابى، هبط الجسد إلى قاع المادة الصلب، أصبح العقل معلقا مذبذبا بين السماء والأرض، بين الخضوع والتمرد، بين الحكومة والمعارضة، بين الكذب والصدق، بين الخيانة والأمانة، فى الحياة العامة والخاصة، انفصلت الحياة العامة عن الخاصة، يمكن للإنسان أن يظل شريفا محترما فى الحياة العامة وهو خائن غير محترم فى حياته الخاصة، يمكن لرئيس دولة (مثل بيل كلينتون) أن يخون زوجته ويظل مخلصا للدستور والوطن، يمكن لجورج بوش أن يدمر شعب العراق ويظل بطلا قوميا، يمكن لمناحم بيجن أن يدمر شعب فلسطين ثم يحصل على جائزة نوبل، يمكن لرئيس عربى أو أفريقى أن يخون شعبه، ثم يموت زعيما مرموقا يمشى فى جنازته رؤساء العالم.
الانفصام فى الطب النفسى (يسمونه الشيزوفرينيا) يصيب بعض الأفراد، لأسباب تتعلق بمشاكل فردية أو عائلية، لكن الانفصام مرض العالم البشرى كله منذ نشوء العبودية، يؤكد التاريخ هذه الحقيقة، لا يعرفها أغلب أطباء النفس فى العالم، بسبب عدم دراستهم التاريخ، والانفصام فى التعليم الطبى بين الطب الوقائى والطب العلاجى، وانفصال الصحة النفسية عن الصحة الجسدية، عن الصحة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية.
يقوم العلم والتعليم فى العالم الغربى والشرقى على الانفصام بين العقل والروح والجسد، بين العلوم الطبيعية كالطب والكيمياء، والعلوم الإنسانية كالأدب والسياسة والتاريخ. يقوم علم التاريخ مثل علم السياسة والأخلاق على إخفاء الحقائق الإنسانية قبل نشوء العبودية، قبل نشوء القيم المزدوجة فى المجتمع، وارتفاع السيد الحاكم إلى ما فوق السماء، وهبوط العبد المحكوم إلى ما تحت الأرض، ومن تحته زوجته وما يملك من ماشية وأولاد وبنات، ما سمى باسم: «الفاميليا» فى اللغات القديمة.
يلعب الإبداع دورا رائدا للقضاء على القيم المزدوجة، الازدواجية تعنى الكيل بمكيالين، أى الظلم والتفرقة بين البشر لأسباب سياسية أو دينية أو عائلية أو عرقية أو جنسية. يفتح الإبداع الطرق الجديدة، لا يمشى مع الآخرين فى الطرق الممهدة القديمة، يمشى فى طرق وعرة لم يمهدها أحد، يمشى وحده تماما يضرب فى الظلمة، لا يسانده أحد إلا عقله الذى ينشد الحرية والعدل، قد يلعنه الجميع لكنه يمضى فى طريقه..
يمضى الإبداع وحده فى الطريق الصعب، لا ينشد الجوائز أو يخاف العقاب، يبحث عن التحرر من القيود، عن معرفة جديدة، وهى صعبة دائما، هى مدفونة فى بطن الأرض، جوهرة ثمينة غير معروفة بعد، ينشدها الإبداع، قد يجدها فى حياته وهذا نادر فيموت فرحا، وقد يموت فى الطريق إليها، فيموت فرحا أيضا، فالطريق الجديد هو فرح الإبداع ولذة الحياة، ليس الفوز بكرسى الرئاسة أو البرلمان، أو الحصول على الوسام الوطنى. فرح الإبداع لا يعنى غياب الحزن أو الألم أو الإحساس بالفقدان، يفقد الإبداع أعز ما يملك إلا العقل الخلاق، الذى يقضى على كل الأحزان وكل المفقودات أو المفقودين.
الإبداع لا يحصل على جائزة، لأنه لا يتقدم للحصول على جائزة، جائزته الوحيدة هى السير فى طريق جديد، اكتشاف المجهول واستشراف المستقبل، ليس للإبداع سلطة إلا سلطة الإبداع، لا يطيع ولا يخضع إلا لعقله، وما ينتج عنه من عمل أدبى أو فنى أو علمى أو فلسفى أو اجتماعى أو سياسى أو اقتصادى أو تاريخى أو أى مجال آخر.
الإبداع ليس له مجال واحد بل يشمل أيضا العلاقات الإنسانية: الصداقة والحب والزواج، والزمالة فى العمل الثقافى والاجتماعى والسياسى. يهدف الإبداع إلى القضاء على الظلم وتحرير النفس والآخرين. الملايين من النساء والمقهورين يوقظهم الإبداع. الأغلبية الصامتة تنطق، تفقد الخوف واليأس، تتمرد وتثور وتغير أسس النظام.
ليس للإبداع سقف أو حدود، بعض الناس يجعلون من المعارضة معبوداً جديداً بأمل الخلاص من معبود قديم.المعارضة حين تجلس على العرش تصبح أكثر تسلطا وبطشا، لماذا؟
هل ولدت أحزاب المعارضة من رحم السلطة الحاكمة؟
هل تصبح المعارضة ديمقراطية بقرار جمهورى؟ كيف تكون فى بلادنا ديمقراطية إذا كان النظام السياسى والثقافى والتعليمى والدينى يقوم على الديكتاتورية؟
الديكتاتورية منذ العصر الفرعونى نرضعها منذ الولادة، كل مؤسسة صغيرة أو كبيرة يتسلط عليها فرعون، من الأسرة إلى الدولة إلى البرلمان إلى الأحزاب المعارضة والشلل الأدبية والسياسية. الشعب كله يرضع الديكتاتورية منذ الولادة حتى الموت.
الديكتاتورية أسلوب حياة ينخر فى الشخصية المصرية، يحول المرأة أو الرجل إلى مسخ إنسان، ممسوح الوجه: مثل القرش الممسوح، مثل الموظف فى الحكومة، مثل الزوجة فى بيت الطاعة. الديمقراطية أسلوب حياة لابد أن تبدأ فى البيت. الأب الديكتاتور ينتج أسرة من العبيد، الأسرة المقهورة هى نواة الشعب المقهور، الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تحدث دون ديمقراطية اجتماعية ثقافية تعليمية تغير شخصية المرأة والرجل.
الديمقراطية تحتاج إلى تغيير شخصية النساء والرجال قبل تغيير الدستور، لأن الإنسان هو الذى يغير الدستور وليس العكس، وإذا كان المعارض الجديد، أو المرشح الجديد للحكم، قادما من وراء المحيط، لو أنه تشرب منذ الطفولة بالديمقراطية، (إن كانت هناك ديمقراطية منذ الطفولة)، فهل يتحول إلى ديكتاتور عاجلا أو آجلا؟ هل تعزله الطبقة ذاتها التى حملته إلى كرسى العرش إن هدد مصالحها الراسخة فى صلب النظام الرأسمالى الأبوى الديكتاتورى؟
السؤال الوارد الآن: كيف يمكن إرضاع الشعب كله الديمقراطية إذا كان لبن الأم مسمما بالخنوع للديكتاتورية؟ هذا هو التحدى، هذا هو الإبداع، الطريق الصعب الجديد، وليس السير فى طريق المطار الممهد منذ مائة عام لاستقبال المرشح الجديد.
نقلاً عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=14775&I=369