فروق بين الرجال

د. صبري فوزي جوهرة

بقلم: صبري فوزي جوهرة
 اعتدت في الماضي على الاتصال الهاتفي بزيوريخ للحديث مع الزعيم الراحل عدلي أبادير بين الحين والآخر للحديث معه والاطمئنان والاستفسار عن أحواله الصحية من السادة المشاركين له في العمل عندما كانت تمنعه ظروف المرض من استقبال أو إرسال المكالمات مباشرة.. كان لي, ومازال, بالإضافة إليه, أصدقاء أعزاء تعرفت عليهم خلال زيارتي لزيوريخ بدعوة من "الباشمهندس"، وأثناء اللقاء في مؤتمر واشنطن الشهير الذى عُقد في نوفمبرمن عام 2005، والذي دعى إليه الزعيم وتحمل كافة أعبائه المالية من أمواله الخاصة، ثم جاء رحيل الرجل العظيم في آخر أيام العام الميلادي السابق، لقد امتنعت عن الاتصال بالأصدقاء في المكتب لانقضاء السبب الأول بوفاة "الباشمهندس"، وأمسكت لبعض الوقت حتى يتباعد الشعور بالحزن إلى حد ما ومنعًا لزيادة الأعباء على العاملين هناك الذين تراكمت عليهم هموم الحداد واستمرار العمل كما كان أثناء حياة صاحبه.. كنت على ثقة تامة أن "الباشمهندس" قد أعد ونظم كل الأمور لتكمل المسيرة سعيها كما كانت قبل غيابه، وهذا ما أكده لي الجميع.
 
تغلبت أخيرًا على مشاعر الأسى واتصلت بالمكتب هاتفيًا لأعرب عن شعوري بالخسارة الجسيمة، وأقدم عزائي لأصدقائي هناك.. كنت أريد أن أسمع بأذني أن الأمور هناك ما زالت تسير على ما يُرام.. أما عن قضايا الأقباط, فكنت أعلم أن الراحل الكريم كان قد أقام لها راعيًا حانيًا في شخص إحدى كريمتيه تتولى أمورها والاستمرار في دفعها إلى الأمام. وهذا هو ما أكد لي أيضًا بالتمام.
 
جالت بخاطرى بعد انتهاء الحديث مع أصدقاء زيوريخ الفروق الشاسعة بين الرجال.. وأنا لا أقصد فروق المال أو اللون، بل ربما فروق الأصل والنشأة والتعليم والثقافة، وأهمها قاطبة هو التباين في طبيعة وقدر ضمائرهم وشعورهم بالشرف والنخوة والعزة.. فهناك من الرجال من يتبنى الدفاع عن حقوق المظلوم لنبل متأصل في النفس ورجاحة مستنيرة في العقل وشرف متمكن في الإرادة, فيتابع كفاحه من أجل البؤساء حتى بعد الممات, وهناك منهم من يلقى بقسم ألقاه أمام الله والشعب والعالم بأسره إلى عرض الطريق لينفرد بالسيطرة على مقدرات بلاد وشعوب كانت في يوم غابر ذات مجد ويطوعها كاملة وبأسرها ليبقى ويتضاعف تسلطه عليها وإن كان في ذلك خسف بحقوق وحريات الآخرين..

 هناك منهم من يعتريه القلق على ما قد يصيب القضايا التي عمل من أجلها بعد انتقاله من هذا العالم فيضع الأصول والأسس القوية ليستمر العمل والكفاح, وهناك من لا يعبأ بالتدهور والانحسار والتراجع الذي يعكر ويعرقل تقدم الغير ممن اؤتمن عليهم وهو ما زال على قيد الحياة.. هناك من يقتطع من أمواله وميراث زوجته وأنجاله وأحفاده ليظهر الحق ويتحدى العدوان والظلم باسم الضعفاء والمقهورين, وهناك من يستبيح أموال هؤلاء الضعفاء والمقهورين لشخصه وزوجته وأولاده بل ولغيرهم من غرباء محظوظين لا حق لهم فيها.. هناك من لا يكف عن العمل لأجل القريب والغريب وهو يرزح تحت وطئة المرض العضال والسن المتقدم فيجعل من غرفة مستشفاه مكتبًا للعمل يدير ويتدبر ويوجه أعماله واهتماماته منه دون مراعاة لإرهاق أو حساب لتضاعف المرض وازدياد وتيرته, وهناك من يتغيب عن حضور واجب كما يجدر بكبار الرجال قد يخفف من وقع كوارث ومذابح هو المسؤل عنها أولاً وأخيرًا أمام الله والعالم, بينما لا يمنعه عائق عن هيافة الذهاب إلى مطار لاستقبال جماعة لن تنقص البلاد قدر أنملة, بل ستفاد من تلاشيهم واختفائهم التام من العقول والضمائر، فهم ليسوا سوى لغو طفولي في عقول المحرومين من الإنجازات الحقيقية لإنسان هذا العصر، ومن أدنى درجات الحياة الكريمة..

 هناك من يتخير معاونيه ورجاله لأمانتهم وكفائتهم وحسن تدبيرهم للأمور، وهناك من أحاط نفسه بعصابات الأقارب والعقارب التي تلوش وتلدغ كل من شبه لهم أنه قد يعترض على فشل أو سرقة أو فساد اقترفوه.. هناك رجل يستحيل التراب في يديه إلى ذهب، وهناك من تستحيل مدائن وبلاد بفعل إهمالهم ولا مبلاتهم إلى انقاض، وهناك من يجزع ويحزن الجميع لغيابه، وهناك من يتمنون لهم الغياب. 
 
لقد جاهد المصريون وبذلوا دماءهم وأبناءهم وأموالهم "لإزالة آثار" عدوان تمخض عن مغامرات شخص غشيم ومتعافٍ، واسترجعوا أرض الوطن المحتل من براثن الأعداء بما يشبه المعجزات.. ثم خيل لهم أنهم سينعمون بثمرات الكفاح والسلام، ولكن الأحلام تبددت، والبلاد تهددت، والديار تهدمت بلا سبب قهري، لم يكن انحدارنا وتدهور أحوال بلادنا أمرًا محتمًا فرضته علينا ظروف لا قدرة للبشر على مجابهتها.. فقد حلت بشعوب أخرى كوارث كانت أكثر قسوة وأشد وقعًا مما أصابنا ولكنها عملت ونجحت حتى نعمت بأوطان افضل.
 
ماذا حدث لنا؟ ولماذا؟ ربما يرجع الأمر إلى الفروق بين الرجال.