عماد خليل
كتب: عماد خليل – خاص الأقباط متحدون
بعد أن عرضت قناة «الجزيرة» الوثائقية خلال (يناير) الماضي فيلمًا وثائقيًا رائعًا عن قداسة البابا شنودة الثالث، والذي كان من إعداد المبدعين سامح حنين وعبد الله الطحاوي، كان المخرج الشاب إياد صالح يضع اللمسات الأخيرة على عمل وثائقي هو الأوّل من نوعه.. العمل الذي يحمل عنوان «الراهب والبابا» (إنتاج شركة I Film) يتناول سيرة الراهب متى المسكين (1919 ـــــ 2006) ويرصد العلاقة الشائكة التي ربطته بالبابا شنودة الثالث..
الشريط الذي يتوقع صنّاعه أن يثير الجدل في «مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية» في (أبريل) المقبل بالعاصمة القطرية الدوحة، يستعرض العديد من القضايا الجدلية التي فرضتها طبيعة شخصيّة متّى المسكين، أول متخرّج من جامعة ينضم إلى سلك الرهبان في الكنيسة المصرية.
منذ دخوله الدير عام 1948، اختار متى حياة العزلة وأسّس النظام الحالي للأديرة في مصر الذي يرتكز على تأمين سكّان الدير متطلباتهم الحياتية بأنفسهم وعدم الارتباط بالعالم الخارجي إلا في أضيق الحدود.. وبينما يتعامل الكثير من الأقباط والمسلمين في مصر مع متى المسكين باعتباره نموذجًا لرجل الدين المتصوف، يغوص الفيلم في التعتيم الذي تعرّضت له سيرته في الكنيسة المصرية بسبب أفكاره التي تختلف مع سياسة البابا شنودة.. إذ يعتبر المنتقدون أن البابا شنودة حوّل الكنيسة إلى دولة مستقلة وجعل انتماء الأقباط لها يوازي انتماءهم لبلدهم الكبير.. وهو الأمر الذي
أسهم في أن تلعب الكنيسة دورًا سياسيًا، وخصوصًا في ما يتعلق بالعلاقة مع النظام الحاكم في مصر..
أما "متى المسكين"، فكان يدعو دومًا إلى فصل الكنيسة عن الدولة، معتبرًا أنّ الخلافات تكون دومًا بين الشعب والحكومات لا بين المسلمين والمسيحيّين.. وهي الأفكار التي ما زال يدعو إليها المحذّرون من الفتنة الطائفية بغض النظر عن الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إليها.
لكن اليوم، يعتبر بعضهم في الكنيسة المصرية أنّ هذه الأفكار تضر بحقوق المسيحيين، وهو ما يفسر وجهة النظر التي طرحها الفيلم عن تهميش تاريخ الأب متى المسكين، ومنع توزيع مؤلفاته في الكثير من الكنائس المصرية، وعدم الاستعانة بتلاميذه في أي مهمات دينية.. والمعروف أنّ الأب متى المسكين رفض تولي الباباوية حين عزل الرئيس أنور السادات البابا شنودة عام 1981.. وهي واقعة يتناولها الشريط، إضافةً إلى الكثير من مقاطع الفيديو النادرة وشهادات 14 شخصية إسلامية ومسيحية حول العلاقة الشائكة بين البابا شنودة والأب متى المسكين..
وقد استعان إياد صالح بأحد الممثلين لأداء مشاهد تحاكي الأحداث الحقيقية التي مر بها الأب متى المسكين منذ ترك مهنة الصيدلة ووزّع ممتلكات عائلته على الفقراء واحتفظ فقط بثمن تذكرة القطار الذي أوصله إلى الدير.
متى المسكين.. اللاهوت قبل السياسة *
عبد الله الطحاوي
"من الصمت الاختياري إلى الصمت الأبدي"... هكذا طويت صفحة مهمة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بعد أن دفن الأب "متى المسكين" في مغارة بصحراء دير أبو مقار، داخل مقبرة حفرها بنفسه، ولم يتبقَ سوى القصة والدلالة.
القصة بدأت مع شاب تتفجر بداخله فتوة الشباب، إلا أنه قرر بيع ما يملك للبحث عما يطفئ قلقه الروحي، فاتجه إلى الرهبنة، وصار رمزًا وحالة استثنائية من العطاء الفكري والسلوكي تجعل من الرجل علامة من العلامات البارزة في تاريخ الكنيسة المصرية.
البداية
اسمه الدنيوي "يوسف إسكندر"، وكانت سنة 1919م هي أول موعد له مع الحياة مع ميلاد المواطَنَة المصرية دستورًا وفكرة.
تخرج في كلية الصيدلة جامعة القاهرة عام (1944م)، وافتتح صيدلية بدمنهور وكان ميسورًا، لكنه بعد فترة باع كل ما يملك من سيارة وفيلا وقرر أن يلتحق بحياة الرهبنة في دير الأنبا صموئيل بالصعيد؛ لأنه أفقر الأديرة وأبعدها عن العمران.
كانت بداية دخوله في سلك الرهبنة قوية، فبعد سنتين من التبتل والتأمل كُلف أن يكون أبًا روحيا لرهبان الدير لا سيما الشباب المتقدم للرهبنة حديثًا؛ بل إنه هو من أقنع "نظير جيد" (الاسم الدنيوي للبابا شنودة الثالث) خريج كلية الآداب بأن يصبح راهبًا، فتتلمذ على يديه.
كان "متى" ظاهرة في ممارساته واختياراته، وأثار انتماؤه للرهبنة فضول كثير من شباب الأقباط المثقفين؛ حيث يعتبر من أوائل المتعلمين الذين فتحوا الطريق أمام التكنوقراط لقيادة العمل الديني، وهو الجيل الذي ينتمي إليه الأنبا شنودة والأنبا "غريغوريوس" أسقف البحث العلمي، والأنبا "صموئيل" أسقف الخدمات (قتل مع السادات في المنصة)، وهو جيل طموح سعى نحو التحديث والتطوير، وينتمي هذا الجيل في معظمهم إلى شرائح الطبقة المتوسطة من سكان المدن.
وقد حاول هذا الجيل التغيير من أفكار الكنيسة، ونجح بالفعل في ذلك سواء على المستوى النسكي الروحي (كما فعل متى المسكين) أو النصوصية الاجتماعية (مثل الأنبا شنودة والأنبا غريغوريوس)، أو الاستنارة والانفتاح (مثل الأنبا صموئيل)، إلا أنه مع مرور الأيام هيمن التيار المحافظ النصي على مزاج الكنيسة، بعد أن تم نفي الأب "متى" بأفكاره إلى الصحراء، واختزال الاستنارة والانفتاح في الجانب المؤسسي دون المضمون.
المسكين.. مشاكسًا!
وللأب "متى المسكين" تاريخ من الصدامات مع الكنيسة:
الصدام الأول: بدأ عام 1954م عندما اختاره الأنبا "يوساب" بطريرك الكنيسة القبطية، في ذلك الوقت، ليكون وكيلاً له في مدينة الأسكندرية بنفس درجته الكهنوتية، فمكث فيها عامين بسط خلالهما نفوذه الروحي عليها، فاتسعت شعبيته، وحتى الآن توصف الأسكندرية بأنها (متّاوية الهوى)، إلا أنه اصطدم مع الاتجاهات الراديكالية ونفوذ أصحاب المصالح، يقول الأب متى: "رفضت أن يتقاضى القساوسة العطايا من الناس، وقررت لكل منهم راتبًا شهريًا من الكنيسة كان 80 جنيهًا وهو مبلغ كبير، وسعيت للقضاء على الإسراف، فانقلب أصحاب المصالح على إصلاحاتي التي أخذت بها الكنيسة فيما بعد، وكان أن أجبرت على ترك موقعي"، ولعب المجلس الملي بالأسكندرية دورًا كبيرًا من أجل تنحية الأب متى.
الصدام الثاني: تمثل في إغلاق الباب أمام ترشحه لمنصب البطريرك عام (1959م) من قبل الاتجاهات المتشددة بعد وفاة الأنبا "يوساب" على الرغم أن ترشحه تم من "مدارس الأحد"* ممثل الفكر الجديد لجيل الرهبان المثقفين، والتي دفعت بعدد من المرشحين ومنهم الأنبا شنودة، وتعللوا في ذلك بشرط السن لعدم مرور 15 عامًا على رهبنة هؤلاء الشباب رغم أن القانون يكتفي بعشر سنوات؛ حيث عدل القانون لاستبعاده وغيره من الرهبان الجدد.
الصدام الثالث: كان بعد جلوس الأنبا "كيرلس السادس" على الكرسي البابوي؛ حيث أصدر الأنبا قرارًا بحرمان الأب متى من الكهنوت، وأمر جميع الرهبان العاملين داخل المؤسسات الكنسية والمدن العودة إلى أديرتهم.. وأمر الأب متى بالخروج من "بيت التكريس" في حلوان، ولكنه رفض تنفيذ القرار، وخرج مع 12 راهبًا وذهبوا إلى مكان مهجور في "وادي الريان" بالقرب من الفيوم، ومكثوا لمدة 10 سنوات داخل إحدى المغارات الموحشة، وكان من بين هؤلاء تلميذه الراهب "أنطونيوس السرياني" (الأنبا شنودة) فيما بعد، والذي قرر مع عدد من الرهبان ترك المكان لقسوته ووعورته.
الصدام الرابع: وقع عقب استبعاده للمرة الثانية من توسد الكرسي البابوي بسبب اقتطاع حياة العزلة الاختيارية عن حياة الرهبنة، وبالتالي لم يستوفِ شرط الرهبنة، وشاعت أقوال إنه تم استبعاده لأسباب تخص ميوله الاشتراكية الناصرية التي انقلب عليها الرئيس "السادات"؛ حيث فضل السادات اختيار رجل دين بالمعنى المهني والحرفي، ورأى في البابا شنودة - في بداية الأمر- أنه يحقق ذلك الشرط.
اللاهوت والكنيسة.. قبل السياسة
اتسعت هوة الخلاف بين البابا شنودة والرئيس السادات حول بعض القضايا والسياسات، خاصة تمدد الظل الدعوي والخدمي للكنيسة وازدياد وتيرة الاضطرابات الطائفية بالإضافة إلى الموقف من تقنين الشريعة، واتفاقية السلام مع إسرائيل.
وفي هذه الأثناء كتب الأب متّى عدة مقالات وأجرى مجموعة لقاءات صحفية حول هذه القضايا، برؤية تختلف عما طرحه البابا شنودة، وهنا لعبت السياسة دورها، وتم استدعاء أفكاره وكتاباته عن ضوابط الدور الديني والخدمي للكنيسة لتصدر من قبل الأجهزة الرسمية للإيحاء أن بجانب الخلاف السياسي مع الأنبا شنودة ظلالاً دينية وانحرافًا عن المسار يجب أن يُقوم، وتم التلويح بالأب متى لخلافة البابا بحسبانه الزعيم المعارض والمصحح الديني لعثرات الكنيسة، لكنه رفض وكانت إجابته للسادات: "بأن الشخص الذي سيتم تنصيبه بطركًا بهذه الطريقة هو شخص محروم من قبل أن يجلس على الكرسي؛ وذلك لأسباب تخص القانون الكنسي الذي يحدد أن خلو المنصب مرتبط إما بالجنون أو الفساد المالي أو الأخلاقي أو الهرطقة".
وقيل: إن الأب متى هو من اقترح تشكيل لجنة خماسية لإدارة الكنيسة بدلاً من البابا شنودة، واشترط ألا يكون "متى" نفسه من بينها، واستقبل الأنبا شنودة تشكيل هذه اللجنة بسخرية قائلاً للأنبا صموئيل أحد أعضائها: "إن كرسي مار مرقص ليس دكة حتى يُجلس عليها السادات خمسة من الرهبان".
وقد حاول الأب متى عبر جولات مكوكية أن يقرب بين الأنبا شنودة والسادات إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، وتسربت شائعات وأقوال تتهمه بالخيانة، وأنه كان وراء نفي البابا شنودة، وتزعم هذه المواقف المتشددة عدد من رموز الكنيسة لاسيما الأساقفة الذين اعتقلهم السادات عام 1981 وهم من أعضاء المجمع المقدس، وساعدت العلاقة الخاصة بين الأب متى والسادات على رواج تلك الأقوال والاتهامات، لا سيما أن النظام منح الدير الذي يقيم فيه الأب متى 200 فدان من أجل استزراعها.
ومما زاد سخونة القضية أن البابا شنودة كان من الذكاء الشديد بحيث مرر مطالبه الخاصة بالجماعة القبطية بجانب موقف سياسي تلاقى مع موقف الجماعة الوطنية الرافض للتطبيع وزيارة إسرائيل، في حين بدا أن ثمة ارتباكًا يحيط بموقف الأب متى الذي أيد المشروع الاجتماعي والسياسي الناصري القائم على الاشتراكية، فضلاً عن دعوته السابقة للجهاد الفكري والجسدي ضد إسرائيل، لتعكس مواقفه المؤيدة للسادات شكًا في وعيه السياسي، وعدم إدراك للحظة التاريخية، لا سيما أن نظام السادات كان معاكسًا لنظام عبد الناصر في توجهاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
والواضح أن موقف الأب متى المسكين يتسق مع أفكاره ورؤيته للدور الاجتماعي للكنيسة التي يحصرها داخل التوجيه الروحي فقط، وأن الكنيسة يجب ألا تقف موقف المنادي أو المؤيد للسلطان الزمني؛ حيث تحرك بصفته الراهب الناسك صاحب الشعبية والحظوة الذي لا تعنيه الحسابات السياسية ولا معادلات الصمت والكلام، فما كان يهمه هو اللاهوت والكنيسة لا التاريخ والسياسة.
فوق الحساب
ونظرًا للشعبية التي يتمتع بها الأب متى لم يستجب البابا شنودة للدعوات المطالبة بعقابه أو حرمانه، والتي انطلقت من المجمع المقدس الذي ظل بعض أعضائه يتحينون الفرصة لتصفية الحسابات بادعاء تجديفه في العقيدة، وإن لم يجرؤوا على مصادرة أي كتاب من كتبه.
ولكن عندما أصدر أحد رهبان دير "أبو مقار" كتابًا يؤكد فيه الأصول الأرثوذكسية لكتابات الأب متى المسكين، انبرى البابا شنودة للرد عليه في سلسلة من الكتابات؛ فضلاً عن تعليقه في بعض أشرطة الكاسيت على بعض أفكاره التي تتحدث عن الخلاص الروحي بوصفها من القيم المُؤسسة للبروتستانتية.
وبمرور الزمن خفت حدة الاحتقان بين الأنبا شنودة وبين الأب متى المسكين؛ حيث قام الأول بزيارته في أثناء مرضه، ونشر خبر الزيارة في مجلة الكرازة التي يحررها البابا بنفسه، والتي وصفت الأب متى المسكين بالقمص المكرم، وتكريمًا له حفظ له البابا شنودة كافة سلطاته الرهبانية والروحية داخل دير أبو مقار، ولم يتدخل في الشئون المالية الخاصة بالدير حرصًا منه على عدم استفزاز شعبيته التي يعرف أنها موجودة، وإن كانت كامنة حيث تحولت صورة متى المسكين لما يشبه الأسطورة لدى العوام.
التوحد في الصحراء
تعتبر فترة العزلة الاختيارية بعد إبعاده عن البطريركية ورفضه العودة إلى دير الأنبا صموئيل، والتوحد في وادي الريان من أخصب فترات حياته.
وتعددت التفسيرات حول هذه العزلة؛ حيث رآها البعض أنها كانت من أجل مزيد من التنسك والتصوف، في حين رآها آخرون أنها تعكس تمردًا سلبيًا على القرار البابوي والتكريس أكثر لتياره الذي بدا أنه ينمو سريعًا خارج الإدارة الرسمية في الكنيسة وسط قطاع كبير من الرهبان.
وعلى هامش حياة التأمل، تولدت لديه أعمق وأهم الكتابات؛ حيث حاول تلخيص آلامه في أفكار نقدية بسيطة وواضحة للقارئ العادي، والمثير أنه في العزلة تماس مع قضايا الساعة مثل الديمقراطية والاشتراكية التي حاول إيجاد نقاط اتفاق بينها وبين مبادئ المسيحية، وإن لم يتعدَ إيمانه بها جوانبها الأخلاقية دون التعمق في أطرها الاجتماعية أو الاقتصادية.
وبعد عودته إلى دير الأنبا مقار، أقام فيه توسعة عمرانية وزراعية، فزاد من 7 أفدنة إلى 300 فدان مزروعة، ثم ألفي فدان.. وأنشأ مزرعة كبيرة للأبقار وحوَّل أبو مقار إلى تجربة مفيدة في الاستصلاح.
وفي الدير استأنف نشاطه في التأليف الذي تجاوز الـ 180 كتابًا و300 مقالة، منها شروحاته لأسفار العهد الجديد في 16 مجلدًا، كما ألف مجلدًا ضخمًا عن القديس أثناسيوس في حوالي 800 صفحة، ومجلدين عن الرهبنة في مصر في 800 صفحة، وبعض هذه الكتب ترجم إلى لغات عديدة.. وهو صاحب منهج خاص في تفسير الكتاب المقدس؛ حيث يقوم بإعادة ترجمة النص والتعرف على كاتبه، ثم يبدأ في الشرح والتفسير من خلال نصوص الآباء.
الأحد.. ضد.. الأحد
"الأب متى المسكين هو مثال مضيء في تاريخ الرهبنة"... عبارة من المقدمة التي كتبها نظير جيد "البابا شنودة" لواحد من أهم كتب متى المسكين وهو "حياة الصلاة الأرثوذكسية"، الذي يعتبر في نظر اللاهوتيين من أهم ما كتب عن الصلاة المسيحية.
ويلاحظ البعض أن الخلاف بين متى المسكين والبابا شنودة بدأ منذ اللحظة التي ترك فيها أنطونيوس السرياني (الأنبا شنودة) مغارة التوحد في وادي السريان لقسوة الحياة، وربما أيضا لنفور في المنهج والرؤى، رغم أن الرحم التي أنجبت الرجلين كانت واحدة وهي "مدرسة الأحد"؛ الأمر الذي يوضح أنها لم تكن خيارًا فكريًا محددًا بقدر ما كانت دافعة لأفكار وآراء متنوعة للإصلاح الكنسي.
وعندما نفرق بين الأب متى والأنبا شنودة فنحن نفرق إذن بين تيارين:
الأول: يرى أن التربية الروحية هي الدور الرئيسي والوحيد للكنيسة، وأن أي أنشطة أخرى اجتماعية أو سياسية هي خروج على تقاليدها، ويرى أن الرهبنة هي طريق إصلاح الكنيسة، وألا تكون الكنيسة سببًا في انعزال المواطن عمليًا أو روحيًا، فالكنيسة لا تعادي نظامًا سياسيًا ولا تمالئه، وهو ما يمثله الأب متى.
والثاني: يرى أن الإصلاح يبدأ بالإحياء الاجتماعي والثقافي للجماعة القبطية، وأن العلاقة بين الكنيسة والدولة تتشكل على أرضية الندية والضغط والطلبات، أو بمعنى آخر أن تكون الكنيسة وسيطًا بين الدولة والمواطن القبطي، وهو ما يمثله التيار المهيمن على الكنيسة الآن.
يقول محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب": "إن كليهما يمثل مدرسة في العمل.. فالبابا شنودة يرى أن الكنيسة مؤسسة شاملة مكلفة بأن تقدم حلولاً لكل المشاكل وأجوبة لكل الأسئلة المتصلة بالدين والدنيا، أما متى المسكين فكان له رأي آخر وهو أن الدين علاقة بين الله وضميره، وأنه لا ينبغي أن تكون له علاقة بالسياسة".
الخطاة.. أولاً
وإذا اقتربنا أكثر من عالم متى المسكين، لا سيما في اتجاه دور الكنيسة الرعوي، فسنجدها تدور حول معنى واحد.. وهو أن الكنيسة ليست مؤسسة الأقباط أو جامعة الدين والهوية، وأن المسيحية ليست جنسية أو قومية بديلة، وضرورة ضبط الحدود بين الطقوس الدينية والأدوار السياسية، بين ما هو سمائي وما هو أرضي، ما لله وما لقيصر.
فأوضح أن الكنيسة تختلف عن السلطان الزمني في كونها تعتمد على الإيمان وليس على ذراع البشر.. تعتمد على الله وليس على العدد والتكتل، وبالتالي مهمتها ليست خدمة المجتمع ولكن خدمة الإيمان، وأن تخدم المسيح في أشخاص الخطاة والعرايا والأذلاء والمشردين.
وحذر الأب متى المسكين من خروج الكنيسة عن هذا الاختصاص والنزوع للسلطان الزمني، وتجييش العواطف والمشاعر باسم الصليب، أو أن تسعى الكنيسة وراء أموال الأغنياء أو أن ترتمي في أحضان أصحاب النفوذ؛ لأنها إذا حاولت الجمع بين السلطان الديني والزمني، ودأبت على المطالبة بحقوق طائفية وعنصرية فشلت المسيحية أن تؤدي رسالتها.
ورأى أن جوانب الرعاية الاجتماعية مثل: رعاية الشباب اجتماعيًا وتوجيههم وتثقيف العمال وفحص أحوالهم ومطالبهم والعناية بالطلبة، وإقامة النوادي والمعسكرات، وترتيب المؤتمرات لبحث المشاكل الداخلية والخارجية للشباب، بل وإقامة المستشفيات والملاجئ، وهذا يحتم أن تدرس الكنيسة نظام الحكم حتى يكون مخططها الاجتماعي موافقا لمخطط الحكومة وإلا فالصدام بين الكنيسة والدولة أمر لا مفر منه.
وقد خشي الأب متى المسكين من عودة الفكر القسطنيطيني (نسبة إلى الإمبراطور الروماني قسطنطين) تحت أي ثوب جديد، لا سيما إذا عجزت الكنيسة عن ضبط الإيمان بالإقناع والمحبة، وهرعت إلى الملوك والرؤساء لتصدر منشورًا ملكيًا بالإيمان، عندها تكون الكنيسة قد أخطأت الطريق؛ لأن الإيمان لا يحميه السيف والقانون.
ورأى أيضًا الأب متى أنه من الخطورة أن تطلب الكنيسة القوة من السلطان الزمني أو تحض على الاستهتار بقوة الدولة؛ لأن في الأولى خروجًا على الكنيسة، وفي الثانية خروجًا على المنطق المسيحي؛ بل ويعتبر الاستهتار بالسلطان الزمني أو الدولة هو تشجيع على الشر والأشرار، وحض الرعية على الاستهتار بواجباتهم نحو الحكومات بحجة أن الكرامة والخضوع والولاء لله فقط وبالتالي للكنيسة، وربما لإيهام البعض بأن المسيحية عدو للدولة الوطنية، فعند هذه الحالة يتحول الدين إلى عثرة في طريق تقدم الإنسان والارتقاء الوطني؛ لأن هذا الفهم يدفع إلى بث الفرقة والانقسام والتكتل الديني والتعصب، ويولد عقدة الاضطهاد عند الأقليات فيجعلها مركز ثقل في الدولة بل ويعيق تقدمها.. ويشدد على أن كبت الروح الوطنية نوع من وأد الروح الإنسانية.
ويرى الأب متى المسكين أن الكنيسة تسأل فقط عن الإيمان، وبالتالي لا ينبغي لها أن تلفت وزيرًا أو مسئولاً مسيحيًا في تصرفاته الحكومية؛ لأنه ليس تحت سلطانها.. وهو ما يفرض عليها أن تدفع المواطن المسيحي نحو المشاركة وإبداء الرأي في كل ما يخص وطنه دون أن توحي لأبنائها بالتزام خطة معينة بسلوك تصرف تجاه الدولة حتى لا تكون الكنيسة مسئولة أمام السلطان الزمني أو "وسيط" بين الدولة والأقباط؛ لأن الكنيسة إن فعلت ذلك تكون قد انشغلت عن قلب الإنسان، فالكنيسة لو تمسكت بهدفها الصحيح، فإنها سوف تجد نفسها ملتزمة بالبشارة المجانية ومرتبطة بالخطاة المتعطشين للتوبة.
وقد توفي الأب "متى المسكين" في (8 يونيو 2006م) عن عمر يناهز (87) عامًا، ودفن في دير أبو مقار في حفرة حفرها بنفسه في الجبل.
http://www.copts-united.com/article.php?A=15204&I=379