سامى إبراهيم
بقلم: سامي إبراهيم
حتى نؤمن بفكرة معينة أو نقتنع بأيدولوجيا معينة، فإننا نحاول التحقق من صحتها، بدايةً من خلال المنطق العلمي والأساس الرياضي الذي يملكه عقلنا، وبما أن منطقنا الإنساني نفسه يتغير وبالتالي تحليلنا للأمور يتغير فهذا معناه أن إيماننا بتلك الفكرة أو الأيدولوجيا يتغير وبالتالي فإن حياتنا تتغير.
جميعنا نسعى نحو الحقيقة، وهذا السعي لا لنحقق اليقين المطلق، وليس لنكتشف أسرار الكون الغامضة، بل ليجعلنا نصل لنتيجة تؤمن لنا حياة متكيفة مع واقع غير معلومة لنا خصائصه. هذا البحث عن الحقيقة يجعلنا نصل لنتيجة توافقية تضمن لنا الاستمرار المنطقي في هذه الحياة مع وجود كل الظواهر الغير مفسرة من قبل المنطق العلمي نفسه.
والإنسان أثناء بحثه عن الحقيقة تراوده دائمًا أسئلة حول الوجود والخلق والظواهر التي لم يستطع العلم أن يوجد تفسير منطقي لها. وهذه الأسئلة غالبًا ما تدفعه إلى الشك، الشك بإيمانه بفكرة معينة أو أيديولوجيا معينة سواءً كانت دينية أو قومية أو عشائرية، أي تدفعه للشك بوجود الله، الشك بالحياة الثانية، الشك بتقاليد المجتمع، الشك بمصداقية تنظيمه السياسي، الشك بتاريخ شعبه الذي يفتخر بمنجزاته. بالتالي يقع الإنسان في صراع يقض مضجعه ويحرمه من الراحة، وغالبًا ما يقع في صراع هذه الأسئلة: ما الذي يجدر الإيمان به؟ ومن الذين ينبغي أن يصدقهم؟ وأين الحقيقة من كل هذا؟ وما معنى الحقيقة؟
العقبة الأولى والأهم التي تعترض الإنسان وتجعله يبدأ رحلة بحثه عن الحقيقة والتي يبدأ بها صراعه الفكري مع ذاته ومع الآخرين هي فكرة "الله". وفكرة الله هذه يستقيها الإنسان أولاً من واقعه الديني الذي وجد به. لكن لماذا هناك قلق وأسئلة تقض راحة الإنسان إذا كان الدين قد وفر له جميع الأجوبة عن الله والكون والخلق والوجود؟! السبب هو أن الدين لا يقوم على منطق علمي ولا يستند في نظرياته على الأساس الرياضي. هذا المنطق العلمي والأساس الرياضي الذي اكتسبه الإنسان من خلال التجارب المثبتة والنظريات المبرهنة قد جعله في تناقض وحيرة؛ فالإنسان يذهب للمدرسة لمدة خمسة عشرة سنة لكي يتعلم المنطق العلمي والأساس الرياضي ليأتي الدين وينسف جميع النظريات والأسس التي تلقاها الإنسان. فالحقيقة المهمة هي أن الدين لا يعتمد الأساس العلمي وتحدث المشكلة عندما يتعلم الإنسان أن كل حقيقة يجب أن تعتمد المنطق العلمي لكي تكون صحيحة. هذا يؤدي بنا إلى السؤال المهم: كيف أوجد الإنسان فكرة الله؟ ولماذا أوجد الإنسان منذ فجر التاريخ وعلى مر الأزمان إلهًا يعبده ويسجد له ويقدم له الأضاحي؟
عندما يكون الإنسان طفلاً، فإن أول صورة يرسمها عن الله تكون لوالده الكلي القوة والذي يؤمن له الحماية والأمان والمحبة وكل ما ينجيه من أهوال العالم الخارجي، لكن عندما يكبر ذلك الإنسان يكتشف بأن والده ليس الله، بل أنه مجرد إنسان عادي، وبما أن الإنسان بحاجة لحماية دائمة من أهوال وشرور العالم الخارجي فقد ابتكر لنفسه أب قوي جدًا سرمدي وخالد، حنون، محب، كلي العدل، معطاء، يؤَمِن الحضن الدافئ له من جهة، ومن جهة أخرى ـ وهي المهمة ـ يؤَمِن له حياة ثانية بعد أن يموت! أي أن الإنسان في لا وعيه لا يستطيع أن يتخيل نفسه ميتًا وبنفس الوقت يرى الموت نتيجة محتمة ونهاية منطقية وأكيدة له، فيتولد لديه صراع نفسي مرير بين اللاوعي والوعي. فلجأ إلى حل وسط يخفف من حدة هذا الصراع، هذا الحل يتمثل في أن الإنسان يسلم بفكرة الموت، لكن الموت هو عبارة عن انتقال لحياة جديدة يكون فيها سعيدًا وهانئًا وخالدًا. من هنا جاءت فكرة الله بشكل مبسط. أما الدين فهو عبارة عن مجموعة من الأفكار والمبادئ والآراء والتعاليم والأيدلوجيات التي يؤمن بها فرد، وبمقتضى هذه التعاليم والأفكار يتواصل مع إلهه من جهة ومع الآخرين من جهة أخرى؛ أي أن الدين يشرح له طريقة التعامل مع المعطيات التي تشكل محيطه الحيوي. إذ لماذا يأخذ الناس مفهوم الله بالكثير من الخوف والتعقيد بينما هو بسيط جدًا وليس معقدًا كما يظن معظم البشر؟ لندرس مفهوم الله بشكل أكبر وأكثر توسعًا.
انظر هذه الآية:
""في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله... فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يُضيء في الظلمة... والكلمة صار جسدًا وحل بيننا". (يو 1:1)
الكلمة هي الله، أي أن الكلمة التي ينطقها البشر هي الله، فالكلمات إذا تعبر عن ديننا عن إلهنا. والذي لديه القدرة على امتلاك الكلمة يصبح إلهًا ويصبح دينًا، جودة هذا الله أو ذاك تأتي من قدرته على نشر أفكار سامية ـ كلمة ـ تصبح مرجعًا للناس وتصبح سننًا وشرائع وقوانيين يلتجأون إليها طلبًا للعدل ولتنظيم حياتهم.
المسيح كان راعيًا ونجارًا وأصبح إلهًا بنظر مليارات من البشر، لأنه نشر كلمته التي قامت على المحبة "أحبوا أعدائكم... وصلوا لمضطهديكم... من طلب قميصك أعطه ردائك... من سخرك ميلاً امشي معه ميلين... سامح أخاك الإنسان سبع سبعين مرة!!"
الله تجسد في المسيح عندما قال: "أحبوا أعدائكم فأي فائدة تنالون إذا أحببتم الذي يحبونكم ... أحبوا أعدائكم وصلوا لمضطهديكم."
اينشتاين مخترع مبدأ الإنشطار النووي ألم يكن إلها متجسدًا خالدًا. تخيل بلحظة واحدة تستطيع قنبلة نووية حديثة أن تبيد مليون وثمانمائة إنسان وتمحو أثرهم من وجه الأرض وتقتل الحياة في بقعة تمتد عشرات الكيلومترات لخمسمائة مليون سنة، ألا تحاكي هذا القدرة قدرة الله. كما أن استخداماتها الطبية في معالجة السرطانات وتوليد الطاقة الكهربائية للملايين من البشر وتحلية مياة البحر لا تعد ولا تحصى. وبعد هذا كله ألا نعتبر أينشتاين إلهًا؟
بيتهوفن وهو أصم وضع السيمفونية التاسعة التي أعتبرها النقاد والموسيقيون أعظم السيمفونيات على الإطلاق (نشيد الفرح)، أفلا تحاكي هذه القدرة قدرة الله. موتزارت عزف أعقد ترتيلة كنسية سرية وهو في سن الثالثة فقط عندما سمعها لأول مرة! ألا تحاكي هذه قدرات إلهية.
دافنشي رسم مخطط تصميمي دقيق لطائرة هليكوبتر بشكلها الحالي الآن ووضع طريقة طيرانها منذ أكثر من خمسمائة سنة أي في وقت لم يكن نظام الصرف الصحي معروفا بعد! كما أنه رسم غواصة بشكلها الحالي! ورسم صاروخ ذو دفع نفاث! بالإضافة لعشرات الرسوم التصميمية لآليات والتي إلى الآن تذهل العلماء، هل سبق الزمن برؤيته لهليكوبتر أو غواصة أو صاروخ! أليس إلهًا دافنشي. أليست قدرات إلهية.
ألم يكن واطسون وكريك وهما من اكتشفا الخريطة الوراثية للإنسان آلهة متجسدة فقد بات بالإمكان الآن تعديل الجينات الوراثية لخلق الإنسان الذي يريدون؟
ألم يكن أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي إلهًا متجسدًا فقد أمد مليارات البشر بالنور، بالإضافة لمئات الاختراعات المذهلة والمدهشة والتي دفعت عجلة البشرية مئات السنين للأمام!
روسو كان نادلاً في مطعم وبعدها أصبح ملهم الثورة الفرنسية، التي حملت للبشرية مفاهيم جديدة كحق الشعوب في تقرير مصيرها والعدالة والمساواة ستبقى هذه خالدة إلى الأبد.
الله تجسد في بوذا عندما أوجد فكرة النيرفانا: كهدف للمارسة الروحانية البوذية التي تنتقل فيه الروح لحالة السلام الكلي الأبدي. واليوجا أي التوق لله والسعي للإتحاد به.
الله تجسد في نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت".
الله تجسد في هيجل عندما وضع "علم المنطق" و "فنومنولوجيا الروح".
الله تجسد في غوته عندما وضع "فاوست".
الله تجسد في فرويد عندما أسس علم النفس.
الله تجسد في وفيفالدي وتشايكوفسكي وشوبان في سيمفونياتهم.
الله تجسد في شكسبير، ديكينز، موليير، هوغو، همنغواي، وبوشكين عندما كتبوا روائعهم ومسرحياتهم.
ثم أن الله كمفهوم يتميز عن البشر بالخلود، أي أن الإنسان يستطيع أن يكون عادلاً لأبعد حدود وكريمًا بشكل يفوق تصور العقل وعبقريًا، ذكيًا، خارقًا، مدمرًا، قويًا، معاقبًا، وإلى أخره من الصفات اللاهية، فإذا استطاع أن يكون خالدًا فإنه لن يختلف عن الله بشيء. الحقيقة تقول أننا نحن البشر قد استطعنا أن نحقق صفة الخلود، لكن كيف تم ذلك: لدينا في الهندسة قانون حفظ الطاقة الشهير: "الطاقة لا تفنى ولا تخلق من العدم"، وبما أننا نحن البشر طاقة بالمعنى الفيزيائي والرياضي والطبيعي لما نملكه من خصائص، فهذا معناه بأننا خالدون أي أن أثارنا هي التي ستبقى خالدة والخلود صفة الله الأساسية التي يتميز بها. عظماء التاريخ كلهم مخلدون، أي أن أعمالهم وآثارهم التي يستخدمها البشر خالدة تماما كمفهوم الله، وبذلك اكتسبوا صفة الخلود. وهي الصفة التي يتميز بها الله عن الإنسان بالمفهوم المجرد.
هناك حقيقة مثبتة خلال آلاف السنين من عمر الحضارة البشرية وتستند على منطق علمي هذه الحقيقة تقول: أن الدين هو فلسفة أفرزتها الحاجة إليها في الزمن الذي ولدت فيه.
في النهاية عندما لا يرغب الإنسان في معرفة الحقيقة من حوله فإنه يغلق عينيه وأذنيه خوفًا من تلك الحقيقة التي ستسبب له انهيار في القناعات التي آمن بها خلال عمره كله، أي أنه غير شجاع بما يكفي ليواجه التناقضات التي يعيشها مع ذاته ومع واقعه، وبالتالي هو غير مستعد لتحمل الخطر الذي من الممكن أن تسببه انهيار قناعاته التي يعتمدها في طريقة تفكيره تلك القناعات التي سحقت ذاته وأماتت فيه روح الإبداع. فلينهض الإنسان وليحطم تلك القيود ولينتج قناعاته من وعيه الذاتي الحر. بذلك يحقق سلامة نفسه وصفاء عقله ويتمكن من العيش بحرية وبسعادة أكبر. جبران يقول: "لو أن الطبيعة استمعت لمواعظ الإنسان عن القناعة لما وجدنا نهرًا يجري صوب البحر، ولما تحول شتاء إلى ربيع."
http://www.copts-united.com/article.php?A=15826&I=394