من وراء سحابة

د. أحمد الخميسي

بقلم: د. أحمد الخميسي 
في الأول من أبريل عام 1987 فارق والدي الحياة، وترك خلفه مجموعة كبيرة من دواوين الشعر، المجموعات القصصية، القطع الموسيقية، المقالات، المسرحيات، والأوبريتات والعديد من المواهب اللامعة... وترك من ضمن ما تركه عدة أفلام من تأليفه وإخراجه، منهما فيلمان فقط كانا من إنتاجه هما "عائلات محترمة" و"الحب والثمن".
كان الخميسي ـ رحمه الله ـ شاعرًا كبيرًا قال عنه د. محمد مندور: "حيا الله تلك العبقرية الصادقة التي وهبها الله للشاعر، فتعزى بها واعتز عن كافة محن الحياة".
وكان قصاصًا قال عنه يوسف إدريس: "حطم طبقية القصة في مصر، وكانت صحفية جريدة المصري تُباع قبل الثورة على اسمه.
وقال سيد أبو النجا في مجلة الهلال: "إن الخميسي ـ وفق استفتاء حينذاك ـ كان أشهر أبناء جيله."
وقال عنه كامل زهيري: "كان محدثًا ساحرًا يخلع ملوك الكلام تيجانهم ويضعونها تحت أقدامه".

وكان قبل كل ذلك، شخصية عجيبة متعددة الألوان محبًا للحياة، وله حكايات طريفة لا تنتهي مع أصدقائه وخصومه، وعاش حياة تكفي كل ثلاث سنوات منها لحياة أخرى كاملة مستقلة، ولم يترك ضائقة إلا وعاشها، بدءًا من النوم على كراسي المقاهي حين ترك المنصورة إلى القاهرة، مرورًا بالمعتقل، الهجرة، الطرد من كل الصحف. ولم يترك عملاً إلا ومارسه، فاشتغل محصل تذاكر في التروماي، مصححًا في المطابع، مدرسًا، جاب الريف كله مع فرق مسرحية شعبية، كتب الأغاني التي بقيت منها "ماتذوقيني يا ماما" كإحدى أشهر أغاني الأعراس، أنشأ فرقة مسرحية باسمه، مثَّل في مسرحيات بعضها من تأليفه وبعضها لآخرين ولكنه تألق بدوره في فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، كما لمع في الخمسينات مذيعًا عرف بصوته الذهبي. وامتاز قبل كل ذلك بقدرة مدهشة على الخروج من أشد المصاعب التي واجهته بروح متفائلة وقوية؛ حتى قال عنه محمود السعدني: "أن الخميسي كالكرة كلما ضربوها إلى أسفل قفزت إلى أعلى!"

لكن كل مواهبه المتعددة تلك، وكل ذلك العطاء لم ينفعه بشيء في حياته، كما لم ينفعنا بشيء نحن أبناءه الكثيرين بعد رحيله، لأن الإبداع الثقافي في بلادنا يشبه الزكاة التي يقدمها أصحابها لوجه الله؛ فتبقى لنا الفيلمان اللذان قام هو بالمصادفة بإنتاجهما، وأدي فيهما أدوار البطولة نجوم مثل أحمد مظهر ومحمود المليجي وزيزي البدراوي وغيرهم. الفيلمان كلفنا بهما جهة توزيع تسلمنا مرة أو اثنتين كل سنة نصيبنا. البعض نصحنا ببيع الفيلمين لنسترح من وجع الدماغ ، ولسبب ما كنا نحن أبناءه الثلاثة عشر نجتمع ونتملص في نهاية الجلسة من اقتراح بيع الفيلمين دون أن يعلن أحد منا السبب الحقيقي للامتناع. ولم يكن للأمر علاقة بالمال، فعائدات الفيلمين ضعيفة. نعم، لكنها كانت تهل علينا فقط ومعظمنا في زنقة حين يشح المال، ولهذا كان يراودنا شعور عجيب بأن ثمة رجلاً وراء سحابة، يتابع أحوالنا وما أن تشتد الأزمة يدحرج علينا من الأعلى عطاياه وعائدات أفلامه ضاحكًا بوجه مشع وهو يقول لنا: "خذوا ... لكي تتذكروني وتعرفوا قيمتي يا أولاد ..."

في كل مرة نستلم نصيبنا ونهيص ونشكره، وفي كل مرة تصلنا فيها الأموال القليلة نشعر بأن علاقتنا بوالدنا تتجدد، ونفكر بدون وعي أننا لو بعنا الفيلمين فسوف نطفئ شعاع النور الممتد إلينا من أعلى، وحينئذ سيموت والدي ويكف عن الضحك لنا من وراء السحابة، وحينئذ ستنقطع سيرته التي تنبعث عندما نلتقي ونتقاسم الأموال ونلهج بشكره هاتفين له: "صحيح أرسلتها في وقتها".
نجلس نتذكر حكاياته، وكيف دخلت عليه حجرة مكتبه ذات يوم، ووجدته جالسًا وأمامه على المكتب كرة أرضية صغيرة تلف وهو سارح يتابعها بعينيه. سألته ممازحًا: ماذا تفعل؟ هل تدرس الجغرافيا من جديد؟ فقال مبتسمًا: لا يا ابني... أبحث في الكرة الأرضية عن بلد لم أقترض منها الأموال بعد!"
لا نريد ـ لا الآن ولا مستقبلاً ـ أن نقطع صلتنا بوالدي الذي وهبنا أعز ما في الحياة: الإحساس العميق بالكرامة والتواضع الجم، والذي يجدد تلك المعاني كلما دحرج هداياه ضاحكًا من خلف السحابة قائلاً بصوته العميق: "لكي تتذكروني..."