د. محمد مسلم الحسيني
بقلم: د. محمد مسلم الحسيني
الإحساس وجود غير مادي ندركه ونعيه لكننا لا نستطيع تفسيره وتحليله، فهو لا يتسم بخواص وخصائل المادة، أي ليس له وزن أو حجم أو كثافة، كما ليس له أمواج أو ذبذبات أو ترددات، فلم يره أحد تحت عدسات المجهر ولم يعطه خصائص كيمياوية أو فيزياوية أحد.
الإحساس في الحقيقة لا يلمسه إلاّ وعي الإنسان وإدراكه ويعتبر المعنى الحقيقي للحياة بل هو أساس وجودها. فالإنسان في حياته ومن خلال كلّ فعالياته وأعماله وتصرفاته يسعى لكسب الإحساس الموجب ويحاول تجنب الإحساس السالب. هذا هو الميزان الذي يعرّف معنى الحياة، فمن دون الإحساس تفقد الحياة مغزاها ونظامها، فكل فعاليات الحياة تنحصر في "ميزان الإحساس".
يسعى المرء في كل مراحل حياته على ترجيح كفة الأحاسيس الموجبة، المنبثقة عن "المتعة، الرفاه، الراحة والاستقرار، الصحة" وغيرها، على الأحاسيس السالبة المنبثقة عن "الفاقة، المرض، الحزن، العذاب، التعب" وغير ذلك. الذي يحالفه الحظ في هذه الحياة هو الذي يستطيع أن يغلّب كفة الأحاسيس الموجبة على كفة الأحاسيس السالبة.
رغم أهمية الإحساس في حياة الإنسان إلاّ أنه شحّ من يبحث ويتعمق في دراسته وفي معرفة صنوفه وخباياه، وعلى هذا الأساس رأيت أن أكتب ملخصا عن الإحساس قد يكون محفزًا للدراسة والبحث والتنقيب، لما لذلك من أهمية في مجالات صحة الجسد والنفس واستواء التصرف الاجتماعي.
كي ينطلق الإحساس فلابد من دواعي تحفيز "بواعث" أو مصادر إيعاز، وهذه تختلف في طبيعتها، فمنها المادي ومنها غير المادي ومنها الذي يعمل داخل ذات الإنسان ومنها ما يؤثر عليه من الخارج. البواعث المادية قد تكون على هيأة أمواج كهرومغناطيسية أو عناصر ميكانيكية أو كيمياوية أو جينيّة، بينما البواعث غير المادية فهي القيم والتعاليم والثقافات الاجتماعية التي يتلقاها ويتأثر بها الإنسان في مجتمعه وأثناء حياته. وعلى هذا الأساس أستطيع أن أصنف الإحساس حسب مصادر تكوينه ومحفزات صنعه "بواعثه" وحسب فهمي وإدراكي "الشخصي" له إلى الأقسام التالية وبإيجاز:
1- الإحساس الحسّي:
وهو ألإحساسي المنبثق عن الحواس الخمس، حيث ينشأ هذا النوع من الإحساس من خلال وجود نظام الحواس العضوية الخمس وهي "البصر، السمع، الذوق، الشم، واللمس" هذا النظام الحسّي يتطلب وجود مجسّات حسيّة وأعصاب ناقلة وخلايا دماغية متخصصة للتفسير. فلو نظر أحدنا إلى وردة جميلة، تقوم العين بأخذ صورة لها ويقوم العصب البصري بنقل هذه الصورة إلى الجزء المتخصص من الدماغ ويدعى "الفص البصري" ومن ثم يتم تفسير الصورة، وعلى ضوء ذلك ينطلق الإحساس.
هذا الإحساس، دون شك، هو إحساس موجب أي "استئناس وانشراح" لهذا المنظر. على نقيض ذلك، تستطيع العين أيضًا نقل صورة لشيء آخر إلى الدماغ، تؤدي إلى تحفيز الإحساس السلبي عند الإنسان، قد تكون صورة مزعجة أو منظر مؤلم. وهكذا تسير القاعدة على الحواس الأربع الأخرى.
2- الإحساس الفسلجي أو الوظيفي:
وهو إحساس بحكم الضرورة، ينشأ عند الكائن الحي من أجل الديمومة والبقاء والبحث عن مستلزمات العيش.
ومن أمثلة ذلك "الجوع، العطش، البرودة، السخونة، التعب، النعاس، الرغبة الجنسية" وغير ذلك من المتطلبات الفسلجية التي من شأنها تجهيز الكائن الحي بما يحتاج إليه من أجل ديمومته. فلو لم يكن هناك جوع لما أكل الإنسان، كما إن التلذذ بالأكل لا يجعل المرء يملّ ويبطر على حاجته للأكل بشكل مستمر.
إذن هنا يكمن شعور أو إحساس مزدوج في هذه العملية، فمن جهة ينشأ الإحساس بالجوع مما يدفع الإنسان إلى الأكل من أجل تجنب إحساس سالب، ومن جهة أخرى تحصل لذة ومتعة عند الأكل في حالة الجوع وهو كسب لإحساس موجب. والغرض الطبيعي من كلّ هذا وذاك هو الديمومة والبقاء.
الإحساس الحسي والإحساس الفسلجي يتطلبان وجود حوافز مادية خارجية أو داخلية. فصورة الوردة الجميلة مثلاً يعتبر محفز مادي خارجي لحصول الإحساس، أما الجوع فيحصل بمحفزات داخلية ميكانيكية وكيمياوية على حد سواء. التقلصات التي تحصل في المعدة في حالة خلوها من الأكل وإفراز بعض العصارات كحامض "الهايدروكلوريك" تؤثر على المجسات المتخصصة في المعدة التي تنقل بدورها حالة خلاء المعدة من الطعام إلى الخلايا الدماغية المتخصصة والتي تعلن حالة الجوع لدى الإنسان.
3- الإحساس الفطري:
هناك أحاسيس فطرية لدى الإنسان تنشأ مع نشوئه وتختلف في درجتها ومقدارها حسب الطبيعة التكوينية للفرد وحسب المتغيرات الخارجية التي قد تزيد أو تنقص من درجة هذه الأحاسيس. ومن أهم الأمثلة على الأحاسيس الفطرية هو: "الحب والكراهية، الفرح والحزن، الأنانية والغيرة، الأمومة والأبوّة، حب البقاء، الغضب، الخوف، القلق" وغيرها.
4- الإحساس المكتسب:
يكتسب الإنسان خلال حياته الاجتماعية الكثير من القيم والأعراف والمبادئ من مجتمعه وذلك من خلال التربية العائلية أو التثقيف الخارجي، فتحصل برمجة دماغيّة على ضوء ذلك كفيلة بإطلاق عنان الإحساس. اكتساب المفاهيم والتأثر فيها يعني خلق محفزات مكتسبة لصنع أحاسيس إيجابية أو سلبية على حد سواء.
من الأمثلة الهامة على الأحاسيس المكتسبة هو ما ينبثق عن الممارسات والمفاهيم المجتمعية التالية: "العبادة، مساعدة الآخرين، الكرم، حب الشهرة والظهور،التباهي، الفوقيّة والسيطرة، الخجل" وغيرها من الأمثلة. فالإحساس النابع عن العبادة مثلاً هو الشعور بالطمأنينة والارتياح نتيجة للاعتقاد بضمان الثواب في يوم الآخرة من أجل كسب إحساس مستقبلي إيجابي، ألا وهو دخول الجنة أو لتجنب إحساس مستقبلي سلبي وهو الخلاص من النار. غياب مثل هذه الأعراف عن المجتمع الذي ينشأ فيه الفرد تعني غياب محفزات أو بواعث مثل هذه الأحاسيس.
5- الإحساس المركب:
وهو على نوعين: إحساس مركب بالأعراض وإحساس مركب بالبواعث. ففي الأوّل يصنع المحفز الواحد أو الباعث للإحساس أحاسيس مختلفة في نفس الوقت، ففي حالة المرض مثلاً يحسّ المريض بالألم ويحس بالتعب ويحس بالكآبة ويشعر بالنعاس، كلّ هذه الأمور قد تحصل في وقت واحد ومن محفز واحد.
أما النوع الثاني فهو على العكس من ذلك، فقد تتشارك محفزات مختلفة في صنع إحساس واحد، فمثلاً إحساس الخوف قد يكون منبعثًا بالاكتساب أو عن طريق الفطرة أو كحالة مرضيّة. كذلك الحال بالنسبة لـ "أضداد الإحساس الثنوية" مثل السعادة والشقاء، الفرح والحزن، التفاؤل والتشاؤم وغيرها، إذ تلعب الحالة النفسية دورها بذلك إضافةً إلى أثر الفطرة والجينات الوراثية والخبر الشخصية.
6- الإحساس التناقضي:
وينتج عن صراع وتضارب محفزين للإحساس متباينين في المصدر وفي آن واحد. فمثلا يحصل تضارب بين المحفز القيمي الذي تبرمج الدماغ على أساسه من خلال الثقافة الاجتماعية وبين المحفز الغريزي أو الفسلجي عند الإنسان.
بتعبير آخر:
تحصل عند الإنسان،في بعض الأحيان، صراعات داخلية بين رغبتين متباينتين، كالرغبة الـ "جنسيّة"، على سبيل المثال وليس الحصر، تدعوه للممارسة غير الشرعية ورغبة مقابلة مضادة لها تمليها القيم الدينية أو الأخلاقية تدعوه للعفة والتحفظ. إن تغلبت القيم على الغريزة، فقد ينتاب الإنسان الإحساس بالكبت نتيجة منع إحساس غريزي، هذا من جانب ومن جانب آخر يشعر الإنسان بالراحة لعدم ارتكاب -ما يعتقد- ذنب. وإن تغلبت الغريزة على القيم فأنه سيشعر بلذة الفعل لكن قد ينتابه الإحساس بالندم أو ما نسميه تأنيب الضمير. هذا التناقض في الإحساس هو ما نسميه "صراع العقل مع العاطفة".
الإحساس التناقضي يكون محسوس وقوي حينما تتقارب درجة الرغبة الغريزية أو الفسلجية مع قوة الرادع، حيث تحصل عملية صراع داخلي قد تؤول إلى الإحساس السلبي مثل الكبت والندم وطبقًا للحالة. استمرار وتكرار فعل الإحساس التناقضي، خصوصًا في مراحل مقتبل العمر والشباب، قد يقود إلى معاناة نفسية تظهر علاماتها على سيرة الإنسان وتصرفاته الاجتماعية لاحقًا وقد تصل إلى حد الأمراض النفسيّة.
أما إن كان الفارق في الإحساس كبير بين المحفزين ولا يرقي إلى درجة الإحساس التناقضي، فاحتمالية حصول الكبت أو الندم ضعيفة جدًا ولا تحصل مضاعفات على الصحة النفسية.
7- الإحساس غير الطبيعي "المرضي":
وينتج هذا عن محفزات مرضية تؤدي إلى تصرفات وسلوكيات غير سويّة تولّد الإحساس بنوعيه الإيجابي والسلبي. لا تحصل هذه الحالة عند الأشخاص الأسوياء، بل تحصل بسبب أمراض عقلية أو نفسية أو اجتماعية.
من الأمثلة المعروفة عن هذه الأمراض التي تعتبر محفزات لأحاسيس مرضية غير طبيعية هي: "مرض فصام الشخصية، داء الكآبة، مرض القلق النفسي، الساديّة وهي التلذذ بإيذاء الغير، الماسوشيّة وهي التلذذ بإيذاء النفس، الشخصيّة السايكوباثيّة التي تضطهد الغير من أجل الاستمتاع بالسيطرة، الشعور بالنقص، جنون العظمة" وغير ذلك من الأمراض.
8- الإحساس المتافيزيقي:
وهو إحساس تنبؤي مبهم غير معروف المصدر نسميه "الحاسة السادسة" وتختلف درجة وجوده من فرد إلى آخر، فمن الناس من لديهم هذا الإحساس بشكل متميّز وواضح ومن الناس من ليس لديه مثل هذا الإحساس وقد يرفض التصديق بوجوده. هذا الإحساس له أوجه متنوعة ومتعددة ويظهر بطرق مختلفة. من الأمثلة المعروفة لذلك هو ظاهرة الحدس وإشارات الأحلام وتخاطر الأفكار وغيرها.
رغم أن الإحساس وجود غير مادي وغير ملموس إلاّ إن الإنسان يستطيع أن يصف حال هذا الإحساس فيقول أحس بالبرودة وأحس بالحرارة وأحس بالحزن وأحس بالألم، أي يستطيع تصنيف نوعية الإحساس من خلال إدراكه ووعيه بهذا الإحساس.
كما يستطيع أيضًا أن يصف درجة وكمية الإحساس فيقول أشعر بجوع شديد أو أشعر بحزن عميق أو فرحت فرحا كثيرا رغم أنه لم يقس القوة أو العمق أو المقدار بموازين القياس. كما أن درجات الإحساس تتفاوت عند البشر حيث تعتمد على عوامل متعددة مثل العمر وطبيعة الجينات الوراثية والخبر الشخصية والحالة النفسية والاجتماعية وغيرها.
السؤال الذي يطرح نفسه هو من الذي يحس وأين هي منطقة الإحساس؟ الجواب المادي وحسب المعرفة العلمية المتوفرة سيكون دون شك بأن الخلايا الدماغية المتخصصة في الحس "الخلايا الحسيّة" هي التي تعتبر مركز الإحساس ومنطقته. لكن المعترضين على هذه الإجابة سيقولون بأن الخلايا الحسية في الدماغ ما هي إلاّ مراكز ترجمة أي تترجم ما يصلها من الداخل والخارج من محفزات للإحساس، فهي ليست نفسها التي تحسّ وتشعر، إنما هناك جهة أخرى أو كنه آخر يتحسس ما يترجمه له الدماغ والخلايا الحسيّة. لكن ما طبيعة هذا الكنه وما هي ماهيّة هذا الوجود؟.
الجواب سيكون دون شك هو " النفس"، فالنفس هي التي تشعر وهي التي تحس، وهي وجود غير مادي أيضا ندركه بالوعي كما هو حال الإحساس.
لقد سلّم الكثير من العلماء والباحثين بوجود افتراضي للنفس في ذات الإنسان وطبقا لهذا التسليم فقد بنوا نظرياتهم وتحليلاتهم العلمية. فكم من الأمراض النفسية قد وجدت في منطقة النفس وكم من العقد النفسية قد وصفت وصنفت على هذا الأساس. بل قامت مدارس علاجية في التحليل النفسي لمعالجة الأمراض النفسية المستعصية، وقام العالم النمساوي الشهير سيجموند فرويد في وصف طبقات النفس الثلاثة والتي لخصت بالهو والأنا والأنا الأعلى. إذن النفس تفرض وجودها رغم إنعدام وجودها المادي، فهي كالإحساس بل إن الإحساس بحد ذاته يعتبر جانب مهم جدّا من جوانب النفس.
أما أين تقع النفس وأين يقع الإحساس، فهي مسألة نقاش وتحرّي وقد يكون الجواب الأقرب للفهم هو: في منطقة "الصفر الذاتي" عند الإنسان.
والصفر الذاتي هو أشبه ما يكون بالصفر العددي والصفر الكوني والصفر الزمني. فحينما نسأل ما هو الصفر العددي مثلاً، سيكون الجواب على الأغلب هو "لاشيء" وهذا غير صحيح، لأن الصفر هو شيء غير ملموس بل هو أصل الأشياء ولولاه لما برزت الأشياء.
فالصفر العددي مثلاً هو أصل الأعداد إذ بدونه تنهار الأعداد وتنتهي، بل لو كان الصفر لا شيء لما حصلنا على نتيجة اللا نهاية العددية أن قسّم على الصفر حتى أصغر الأعداد أو حصلنا على الصفر لو ضرب الصفر حتى بأكبر الأعداد.
فمن الصفر نشأت الأعداد لأن كل قيمة عددية هي نسبة إلى الصفر ومن دونه تنهار هذه القيم. كذلك الحال بالنسبة للصفر الذاتي الذي هو مركز الذات وأساس صيرورتها والذي تتواجد فيه كلّ الموجودات غير المادية كالإحساس والنفس والعقل الباطن ومنطقة اللاشعور والعقد النفسيّة وغيرها من المصطلحات غير المادية والتي هي ملموسة بالإدراك والوعي والتحرّي.
http://www.copts-united.com/article.php?A=16458&I=410