نسيم مجلي
بقلم : نسيم مجلى
ظهر المعلم يعقوب فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر وسطع نجمه إبان الحملة الفرنسية على مصر، ولعب دورا هاما فى ضرب الاتراك والمماليك لأنه كان يرغب فى تخليص مصر منهم، لكن سوء الحظ كان يترصده فمات وهو على ظهر الباخرة قبل أن تطأ أقدامه أرض فرنسا ويكشف عن أهدافه الرئيسية من الرحلة. ورغم أن التاريخ قد سجل مشروعه الخاص باستقلال مصر إلا أن موته المباغت قد ألقى ظلالا من الغموض حول هذا المشروع وأتاح الفرصة للاختلاف فى تقييم دوره وتحديد أهدافه.
وكان المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال أول من اكتشف وثائق هذا المشروع فكتب عن يعقوب وعن دوره الريادى فى كتابه "الجنرال يعقوب والفارس لاسكارس" الذى نشرته دار المعارف سنة 1932، وقارن فيه بين يعقوب وبين زعماء الكفاح الشعبى فى تلك الفترة من أمثال السيد عمر مكرم وغيره ثم وضع يعقوب فى مكانة متقدمة وذلك نتيجة لإحساسه العميق بقوميته المصرية و بعد نظره و تلمسه الوسائل العملية لتحقيق الاستقلال الوطنى .
وكان آخر من دخل الى حلبة الجدال حول يعقوب هو الدكتور أنور لوقا بكتاب أسماه " هذا هو المعلم يعقوب " الذى صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سنة 2002، والذى يؤكد فيه أن يعقوب رجل ينتمي إلى التاريخ الاقتصادي – الذي تحول تحولا جذريا في عصره – ولا ينتمي مطلقا إلى الطائفية (فكلمة "قبطي" لم ترد أبدا في مشروعه) حيث يقول:
من جذوره العريقة بالصعيد ، ودرايته العملية بالقيم الاقتصادية ، وانخراطه في تيارات التواصل التجاري الدولية المتلاقية في مصر = رغم القيود المحلية = نبع مشروع استقلال مصر ،و أصبح عبر الأحداث غاية كفاحه المتواصل ضد الرجعية.
والدكتور أنور لوقا من أقدر الباحثين على كشف خبايا هذا الموضوع الذي يؤرخ لفجر النهضة المصرية ، لأنه يقع في بؤرة اهتماماته البحثية فقد حصل على دكتوراه الدولة من السربون سنة 1957 في الأدب المقارن برسالة رئيسية عنوانها: " الرحالة والكتاب المصريون في فرنسا خلال القرن التاسع عشر" ، ورسالة تكميلية عنوانها " دراسة تأصيلية للنص الطهطاوي – تخليص الإبريز في تلخيص باريس" ثم ترجمة فرنسية له". ثم استمر في أبحاثه على مدى أربعين عاما ليتتبع آثار " المهاجرين المصريين" في فرنسا. معتمدا في البداية على وثائق قصر فانسين Vincinnes (أوراق " جيش الشرق" Arméé d' orient) و وثائق وزارة الخارجية (َQuai d'Orsay ) ووزارة الداخلية (Archives Nationales) ثم راح يستقصي أبعاد هذا الموضوع في دور المحفوظات المتفرقة في جنوب فرنسا ،
وخرج من ذلك كله بحصيلة معرفية بالغة الأهمية. من ذلك مثلا ، الأثر الذي أحدثه وصول المهاجرين المصريين إلى فرنسا في الأزياء وفي الفنون الجميلة وفي الأدب والفكر مما أصبح من قيم الحياة الرومانتيكية في عهد الإمبراطور نابليون. كذلك اكتشف من بين الجنود المجهولين الذين ذهبوا مع يعقوب رواداً كباراً في الفكر واللغة والأدب. فهو يقول: " وممن صنعوا نهضة الاستشراق اللغوي في أوروبا فتى مغمور من أبناء أسيوط عمل كاتبا عند يعقوب وألف قاموسا يحمل اسمه- إليوس بقطر – قاموس فرنسي عربي وضعه فأصبح عمدة الدارسين وبداية نقل ألفاظ الحضارة العصرية." بالإضافة إلى العلامة القس يوحنا الشفتشي الذي جمع بين تعمق اللغات القديمة فكان العضو الشرقي الوحيد في لجنة تأليف موسوعة " وصف مصر" ورغم دوره فى المسئولية العسكرية ضابطا في الفيلق القبطي، إلا أن التاريخ قد نسى وجوده مع أن شامبليون استقي منه صوتيات اللغة القبطية، فكأن باعث الحضارة الفرعونية تسلم منه المفتاح الذى فك به رموز الهيروغليفية.
وبعيدا عن هذه الجوانب الطريفة والهامة ، أحب أن أعرض على القراء لمحة من حياة:يعقوب.
ولد المعلم يعقوب في ملوي عام 1745, والتحق في عهد على بك الكبير بخدمة سليمان أغا الإنكشارية أو رئيسها واستطاع من خلال إشرافه على إدارة أملاك الأغا أن ينمي ثروته الخاصة ، حتى أصبح من الأثرياء وبنى قلعة على رأس سوق القبيلة عند حارة النصارى.
وحين نشب القتال بين مراد بك وجيش قبطان باشا العثمانى اشترك المعلم يعقوب مع مخدومه في هذه الحرب ، وظهرت مواهبه في القتال كما ظهرت في الإدارة. وعندما دخل الفرنسيون مصر ، التحق المعلم يعقوب بخدمتهم وانضم إلى حملة الجنرال ديزيه إلى الصعيد لمطاردة المماليك , وحارب المماليك بشجاعة مما ساعد في القضاء على بعض أوكارهم كما حدث في بلدة العتامنة من أعمال محافظة أسيوط ، مما جعل الجنرال ديزيه يهنئه ويقدم له سيفا تذكاريا تقديرا لبسالته.
ولما غادر نابليون مصر عاد المعلم يعقوب إلى القاهرة وكلفه كليبر بتنظيم مالية البلاد ، وعينه قائدا للفيلق القبطي الذي شكله في مصر ليعاون الفرنسيين في حربهم ضد المماليك والأتراك. ثم عين المعلم يعقوب مستشارا لمسيو استيف مدير الإيرادات العامة، ورقاه القائد العام عبد الله جاك مينو إلى رتبة جنرال وجعله مساعدا للجنرال بليار في مارس 1801 للدفاع عن القاهرة ضد هجوم الجيش التركى و الإنجليزي .. ومنذ ذلك التاريخ ارتبط مصيره ومصير الفيلق القبطي بمصير الجيش الفرنسي ،و عند تسليم القاهرة في يونيه سنة 1801 دخل الجنرال يعقوب في إتفاقية التسليم.
ورحل الجنرال يعقوب ومعه جماعة من فيلقه القبطي مع القوات الفرنسية عند جلائها عن مصر. ولكن الجنرال يعقوب كان يحمل في جعبته مشروعا خطيرا كان في نيته عرضه على الإنجليز والفرنسيين وهذا هو " مشروع استقلال مصر".
ويلخص لويس عوض مشروع الجنرال يعقوب لاستقلال مصر على النحو التالي: " ومحور نظرية الجنرال يعقوب التي يبسطها أمام الإنجليز ، هو أن استقلال مصر في مصلحة إنجلترا أكثر من أي بلد آخر، فإنجلترا سيدة البحار وهي تستطيع أن تمنع بأساطيلها فرنسا من الاستئثار بمصر، ولكن إذا حاولت إنجلترا نفسها غزو مصر فإنها ستصطدم بأكبر قوة عسكرية في أوروبا ، وهي فرنسا ، فمصر المستقلة إذن هي الحل الوحيد الذي يوفق بين مصالح إنجلترا ومصالح فرنسا ، مع مزايا إضافية للإنجليز وهي أن تجارتهم البحرية سوف تنتفع من زراعة مصر التي لا يمكن أن تزدهرإلا في جو يسوده السلام ، كما أنها ستنتفع من منتجات أفريقيا التي تعد مصر بابها الطبيعي.
وسوف تحافظ مصر على استقلالها في المرة الأولى على الأقل بموافقة الدول الأوروبية. فإذا لم تكف القوى الأوروبية المتضافرة للحيلولة دون عدوان الترك والمماليك على مصر ، فالجنرال يعقوب يرى الحل في وجود قوة أجنبية مرتزقة في مصر قوامها بين 12 ألف او 15 ألف جندي تتكون منها نواة الجيش المصري. وهي في نظره كافية تماما لرد عدوان الترك على حدود الصحراء وقمع المماليك في داخل البلاد..
أما نظام الحكم الذي يقترحه الجنرال يعقوب لمصر المستقلة فهو قيام حكومة وطنية يكون هدفها الأول تحسين حال الفلاح. وهو يرى أن طول استعباد المصريين تحت الترك والبكوات المماليك قد حرم مصر من النور الكافي لتكوين رأي عام بصير يمكن أن يخرج منه عمل سياسي لتغيير نظام الحكم ، فهو يرى إذن أن كل تغيير في نظام الحكم لابد وأن يأتي من القمة، أي من الحاكم. ولكن يعقوب يرى أن إنشاء حكومة قومية تعمل بروح العدل المقرون بالحزم و تستهدف إسعاد المصريين ، لا شك سيؤلف من حولها قلوب الأكثرية الساحقة من سكان البلاد الوادعين الجهلاء إلا أن الجنرال يعقوب لا يفصل فكرته عن تكوين هذه الحكومة القومية أو سلطاتها أو طريقة ممارستها لحكم البلاد.
وبعد تحليل مستفيض لأحوال مصر آنذاك يميز الدكتور لويس بين ثلاث تيارات كبرى في تلك الفترة العصيبة من تاريخ البلاد:
1- تيار " أي شئ إلا حكومة الأوروبيين" ولو كان استمرار حكومة الترك والمماليك وقد جرف هذا التيار المتطرف المصريين الذي قاتلوا تحت لواء العثمانيين في ثورة القاهرة الثانية بين 20 مارس و 21 أبريل 1800 بقيادة ناصف باشا ونصوح باشا.
2- تيار " أي شئ إلا حكومة الترك والمماليك" ولو كان قبول حكومة الأوروبيين ، وقد جرف هذا التيار المتطرف الذين قاتلوا المماليك ثم الترك تحت لواء الفرنسيين بقيادة الجنرال يعقوب وهم الوجه الآخر لثورة القاهرة الثانية.
3- تيار " إنقاذ ما يمكن إنقاذه" ممثلا في علماء الأزهر وأعيان البلاد المعتدلين الذين تكونت منهم أجهزة الحكم القومي ولا سيما الديوان العمومي والديوان الخصوصي. وهو تيار يقوم على قبول الأمر الواقع بالقوة القاهرة ريثما تسنح الفرصة لتغييره. وقد استمرت هذه التيارات تتلاطم في محيط السياسة المصرية والفكر المصري ولم تندمج في تيار واحد كبير بصورة ملموسة إلا فى ثورة 1919.
جاء هذا الكلام في كتاب لويس عوض " تاريخ الفكر المصري الحديث" سنة 1969 وبعدها أخذت تنهال عليه الاتهامات من جلال كشك ثم محمود شاكر ومحمد عمارة وأحمد الصاوي وآخرين. وقد أوذي لويس عوض كثيرا من هذه الهجمات الظالمة ، وكتب شهادته عليها في سيرته التي سماها " أوراق العمر" فقال :
جر ذلك على الكوارث لأنه فتح دمل التعصب الدينى فى بعض المثقفين المصريين فطفح كل مافيه من قبح على السطح وسوف يحاسب التاريخ الرجعية العربية حسابا عسيرا لأنها سجدت أمام التمثال الذي أقامه شفيق غربال للجنرال يعقوب ثم مزقتنى إربا لمجرد أني رددت آراءه وترجمت وثائقه ، ونقادي لا يستطيعون إدعاء الجهل لأني أصلت لهم كل شئ قلته عن الجنرال يعقوب في شفيق غربال. فإذا كانوا قد رجعوا إليه ومع ذلك تعمدوا تمزيقي لطرحي قضية " يعقوب اللعين" بهذه الحيدة أو بشيء من التعاطف فإن هذا يثبت سوء نيتهم. وإذا لم يهتموا بالرجوع فهذا يثبت انحطاطهم لإصرارهم على الإدانة رغم وجود شهود النفي. وعلى كل فقضية الجنرال يعقوب أخطر من أن تصرف بكلمتين فلي إليها عودة في مكانها الطبيعي".( صـ 329 ) .
ومن الملاحظ أن من كتبوا قبل ثورة يوليه 1952 يجمعون ، مسلمون ومسيحيون ، على تمجيد يعقوب ورفعه إلى مرتبة البطل الوطني و اعتباره رائد دعوة الاستقلال. وفي مقدمة هؤلاء الدكتور شفيق غربال في كتابه " الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس" 1932 والأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف الذي اشترك في تحقيق كتاب الجبرتي " مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"وذلك في مقاله " المعلم يعقوب وموقفه من الحملة الفرنسية " بجريدة البلاغ ( 22/9/1947) وفيه يقول:
" إن يعقوب كان أول سياسي مصري فكر في جعل المسألة المصرية مسألة دولية على أن تستقل مصر استقلالا تاما عن الحكم العثماني، وأن تكون باستقلالها هذا واسطة لكبح أطماع فرنسا وإنجلترا ، وهما الدولتان اللتان كانتا تتصارعان لتوطيد النفوذ في مصر وحوض البحر المتوسط."
وعلى نقيض هذا جاءت كتابات الستينات التي نشرت ردا على الدكتور لويس عوض.. فقد أصر كتابها على إدانة يعقوب واتهام لويس عوض بالفرعونية والطائفية.. ويرجع سبب هذا التناقض في رأي إلى أن شفيق غربال ومحمد فهمي عبد اللطيف وغيرهما كانوا يعيشون في مناخ الديمقراطية الليبرالية في مصر الثلاثينات والأربعينات، وكان لديهم الحرية والدافع لرؤية الواقع التاريخي لمصر العثمانية على حقيقته دون تحيز أو تزييف. أما كتاب الستينات وما بعدها الذين عارضوا لويس عوض فقد تأثروا بأيديولوجية الوحدة القومية في عهد عبد الناصر أو أيديولوجية الدولة الدينية التى يحلمون بها واسقطوا هذا الإحساس على مصر العثمانية الإسلامية فرأوا يعقوب خائنا أو في أحسن الحالات منشقا على نظام المجتمع الإسلامي كما يظن الدكتور أحمد حسين الصاوي في كتابه " المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة".
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=16620&I=414