مفهوم المواطنة على المحك

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
لعل أهم ما تتميز به الساحة المصرية الآن هو الاختلاط في الرؤىَ والمفاهيم، وبالطبع ما يترتب على هذا على أرض الواقع من فوضىَ وصدامات، تتخذ أشد صورها بشاعة في الهجمات الغوغائية على الأقباط وكنائسهم ومساكنهم ومتاجرهم، وكأن هؤلاء الغوغاء يقومون بفتوحات مقدسة ينتصرون فيها لله وهم يكبرون باسمه، فيما يقومون بممارسات أبعد من أن تكون مرضيه لله.. فالإنسان لا يفعل هذا بأخوة له، إذا كان يستشعر أنه وإياهم أعضاء في جسد واحد هو الوطن.

الخلافات بين الأفراد والناس عموماً واردة، والمثل الشعبي يقول "المصارين في البطن بتتخانق"، لكنها بالطبع في خناقها هذا تسلك أسلوبًا يتفق مع كونها أجزاء في ذات الجسد، وليست أجزاء متعادية منقطعة الصلة ببعضها البعض.. أما حين يغيب مفهوم الانتماء للوطن، أو يستبدل بولاء أعلى هو الولاء للجنس أو الدين، فإن البناء الوطني يتصدع ثم يتفتت، ليتحول الوطن إلى شظايا متناحرة متنافرة، وهو ما نحن في مصر مقبلون عليه الآن، إذا لم نتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ونعود جميعنا إلى الرشد والرشادة، وهذا لن يتحقق إلا إذا حددنا بشجاعة وبدقة مكمن الخطورة، وليس فقط التلهي بمظاهرها، التي هي أحداث العنف، وحملات الازدراء والكراهية، التي تتفاقم يومًا فيومًا.

أخطر ما يواجهنا هو اصطفاف المصريين خلف أقطاب متباعدة متنافرة، ومكمن الخطورة هنا هو أن هذه الأقطاب التي تفرقنا، هي بالأساس عزيزة علينا جميعًا.. ليس أعز وأكرم لدى المصري من رجال الدين، فهم الذين يدلونه على طريق التقوى والسماء، وهذا بالطبع عظيم ورائع، لكن ما جد بمصرنا الآن نتيجة لمشروع الإسلام السياسي، هو امتداد نشاط رجال الدين الإسلامي إلى الساحة السياسية، والتي هي بالحقيقة مجموع كافة النشاطات الإنسانية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها كثير.. كان من المتوقع بالطبع أن يهرع الأقباط أيضًا للالتفاف حول رجال الدين، كفعل تلقائي وحتمي، مقابل ما حققته جماعة الإخوان المسلمين المحظورة من رواج لأفكارها، ومن اختراق للمجتمع ولكافة مؤسسات الدولة حتى السيادية منها.. ليصير الوطن المصري وطنين، والشعب المصري الواحد شعبين، ولما لا يحدث هذا وقد أعلن السادات أنه رئيس مسلم لدولة إسلامية؟!

الآن إذا كان الأقباط هم الأكثر تضررًا من هذه الحالة -على الأقل بصفتهم أقلية- رغم أن الوطن ومواطنيه جميعهم متضررين، فالوطن المنقسم على ذاته يخرب على رؤوس كل من فيه، وليس فقط على رؤوس أغلبية أو أقلية... فلابد إذن أن يكون الأقباط في مقدمة الساعين إلى وحدة الوطن، وإلى إرساء مفهوم المواطنة على أرض الواقع، وليس فقط ترديد مقولاتها في الاحتفالات وخلال تقبيل ذوي اللحى بعضهم لبعض أمام كاميرات الصحف والفضائيات.. طريق إنقاذ الشعب المصري من هاوية الانقسام يبدأ من أن نمارس نشاطاتنا جميعها من منطلق الوطنية، وليس من منظور طائفي مقيت.. نفعل هذا في تجارتنا وأعمالنا، وفي علاقاتنا الاجتماعية.. نتصرف على هذا النحو أيضًا في نشاطنا واهتماماتنا السياسية.

يشغل الساحة السياسية الآن موضوع التغيير المنشود بقيادة د. محمد البرادعي، وينشط الشباب على الشبكة العنكبوتية وفي أرض الواقع، يحشدون ويحتشدون تأييدًا لنوايا الرجل من أجل تحديث مصر.. وسط هؤلاء الشباب نرى الأسماء القبطية متحمسة، ومشاركة لكل شباب مصر في ذلك الحراك الرائع، بما يدفع بدماء لشرايين الأمل التي كانت قد أوشكت على التيبس.. لكن مع الأسف، ونتيجة لشيوع النظرة الطائفية والتمرتس خلف الرؤى العنصرية الضيقة.. نتيجة أيضًا للاعبين في الساحة المصرية، يستفيدون شخصيًا من حالة التخندق لمكونات الشعب المصري، نجد أصواتًا تعلو هنا وهناك، تضفي على مسيرة البرادعي السياسية والثقافية الوطنية لونًا عنصريًا بغيضًا، لا يبعث على الأمل في أن نجد عبر ذلك الحراك حلولاً لمشاكل الوطن المزمنة، بل وأيضًا يجعل منه مجالاً جديدًا للفرقة بين أبناء الوطن الواحد.

ما أحذّر منه إخواني ومواطني من مسلمين ومسيحيين، ليس فقط مقاومة الحراك الحادث أو الانفصال والتباعد عنه لمبررات ومنظور طائفي، بل وأيضًا أحذّر من الدعوة له وفق تلك الرؤى الضيقة المقسمة للوطن وللشعب الواحد.. هكذا يستوي من يشجعون ويدعون للبرادعي بصفتهم أقباط، مع من يستجيبون لأصوات تخرج من قيادات كنسية متجاوزة حدود رتبتها الدينية، لتعلن تأييد الأقباط للحزب الوطني، أو تأييد مبارك أو جمال مبارك.. هذه التصريحات أو الدعايات لا يمكن أن تكون سعيًا لتحسين أحوال المصريين، وفي القلب منهم الأقباط.

نعم الأقباط لهم معاناة خاصة، فوق ما يعانيه الشعب المصري جميعه، ومن الطبيعي أن يكون حل تلك الإشكاليات التي يتعرض لها الأقباط على رأس أولوياتهم في خياراتهم السياسية، لكن هذا لا ينبغي أبدًا أن يجعلهم يتصورون أنفسهم في حراك الساحة السياسية بصفتهم الدينية فقط..
إن مصلحة الأقباط خاصة تتوافق مع مصلحة الشعب المصري كله، والتي وإن غابت عن ذهن البعض من العامة أو من سيئي النية، إلا أن المستنيرين من كل الانتماءات الدينية يدركون ذلك حق الإدراك.. هم يقاومون أيضًا انقسام الوطن إلى مسلمين ومسيحيين خارج دور العبادة، ويقاومون تغلغل الجماعة المحظورة ودعاياتها المخادعة، ويطالبون بدولة مدنية، ينفصل فيها الدين عن السياسة..

حين ينساق الأقباط وفق عزلتهم الطويلة، ليتخذوا موقفًا "مع أو ضد" وفقًا لانتمائهم الديني، فإنهم هكذا يخذلون المستنيرين من أخوة الوطن من غير المسيحيين، كما يخذلون بالطبع دعاة الوحدة الوطنية من المسيحيين، والذي يرون أن مستقبل هذا الوطن وتقدمه رهن بوحدة أبنائه، وليس بفرقتهم وتشرذهم.
لا مبرر إذن لاتخاذ موقف قبطي من البرادعي لتعاونه مع جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، لأن مواطنين مسلمين شرفاء يرفضون أيضاً منه أن يفعل ذلك..

كما لا يوجد مبرر للولاء الأبدي للحزب الوطني، تخوفاً من بعبع الإخوان، فعلي يدي هذا الحزب صار الدم القبطي مباحاً لكل من هب ودب، دون رادع أو حسم، بل ويتم ذلك تحت رعاية رموز الحزب الوطني وقياداته.. فليندمج الأقباط في الحياة السياسية مع إخوانهم من كافة الانتماءات الدينية، لنبحث ما هو في صالحنا جميعًا، وبعيدًا عن التوجيهات والوصايا المقدسة، تلك التي نجلها كل الإجلال إذا ما جاءت في مكانها الطبيعي، فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة، لكن علينا أن نرفضها بحزم وحسم إذا ما تجاوزت تلك الحدود، لتجعل من الأقباط طائفة معزولة داخل وطنها.

kghobrial@yahoo.com