لـيليـــان ... قصة قصيرة

هاني رمسيس

بقلفم : هاني رمسيس
ترقرقتْ بعينيها الدموع و تقطّع خيط الدّم الأحمر ينسال على جانبى فمها ، و هى تلوك بأسنانها فريستها ... ترنّحتْ برقصة الموت فوق أشلاء ضحيتها ... شاركتْ أصابعُها فى نسج أكفان قتيلها ... سارعتْ تحملُ على كتفيها نعشه ، وسبقت الجميع و رفشها بساعدها إلى حيث تحفر قبره ... و عند القبر تمازجتْ قطرات الدموع بالدماء ، و تساقطتْ على التراب و فوق صدر من أحبته ... و وارته الثرى .
تلك كانت النهاية ، و حيث وُجِدْتْ نهاية ، فهناك لابُد من بداية ، وبين البداية والنهاية ، أحداث تتصاعد و صراع يتجلى و مشاعر تتباين ، و حيث كل هذا يتكلم و يتحرك و ينفعل البطل ، و البطل هنا كان فتاة ، و الفتاة كان اسمها "ليليان"  .

كانت من الوهلة الأولى تبدو ملائكية الطلعة ، سماوية الملامح ، ترتسم على وجهها إبتسامة هادئة ، و فوق الإبتسامة تستكين مسحة حزن طفولية بريئة ، تُضفى عليها مزيدا من الجمال و الوداعة و الغموض .
هذا ما استشعره "يوسف" ، حين التقتْ عيناه بعينيها ، قوة غريبة تنفذُ إلى أعماقه ، أحس بها بوعى القروى المفطور على الطبيعة ، بأحلام الشباب التى لا ترضى إلا عن الكمال شريعةً .
و دون أن يتنبّه ، سمع قلبه العذرى يخفق لها خفقاته الأولى ... أهى الصدفة ؟ أم نداء روحها لروحه ؟ ... هكذا تساءل منذ المرة الأولى ، و هما يقفان وجهاً لوجه ، ليقترب منها ، يحادثها و تحادثه ، و يتكرر اللقاء .

لكنه فشل فى الإجابة على تساؤله و إكتفى بأن يرى فيها روحاً علوياً سابحاً ، و نفساً صافية طاهرة ، و فوق النفس و الروح قواماً معتدلاً ، غصناً رخصاً مهذباً ، لوحة رائعة ، بعينيها النجلاوين المهويتين و بشرتها القمحية و شعرها الكستنائى يحيطُ بوجهها و ينسدل على وجنتيها ، منساباً فى نعمومة الماء ، حتى يغمر الأكتاف .

كان يوسف قد ترك القرية ، منذ أربع سنوات واستقر فى القاهرة حيث دراسته الجامعية ، و خلال هذه السنوات لم يعرف إلا الدراسة طريقه ، و لم يكن إلا الكتاب رفيقه . لكن منذ رآها بدأت معالم طريقه تتغير و أفكاره تتشكل و تولد من جديد ، ثمة روح آخر يشاركه حياته ، يقتسم معه خبزه النورانى المعجون بالأحلام الزهرية .و منذ تلك اللحظة و الأيام تمر و الليالى تتوالى ، و القصة تكبر و تتقدم و تتصاعد ، و معها الحب ينمو و يزهر و تتفتح أنواره .

و اليوم يأتى ، لكن ليس كسابقيه من الأيام ، يفاجئه أخوه زائراً ، و اليوم يطلبُ أخوه أن يراها ، متشوقاً كيف تكون صورة هذه الفتاة التى فازت بقلب الأخ الأكبر ، و اليوم أيضاً و بلعبة الأقدار يكون موعداً للقاء .

استقل يوسف و أخوه الأتوبيس ، فى طريقهما إليها ، و بدأ الأخ بلهجة صعيدية يفخّم الحروف ويملأ بها فمه ، يكلمه عن القرية و أهلها ، و يوسف يرد عليه – برغم كل هذه السنوات فى القاهرة – بنفس اللهجة ، يستطعم الحروف التى افتقدها زمانا ، فهو لا يستريح لتبديل الحروف ، فتغيير اللهجة يغيّر دلالة الأشياء ، فمن يفقد الجيم المعطشة أو القاف القاسية ، يفقد صورته وشكله و ربما وجوده أيضاً.

ظل الأخ متحدثاً ، و يوسف يطرق إليه دون أن يحادثه أو يتسمّعه ، إنما شئ سيطر عليه ، أشبه بخدر يسرى فى جسده و بواطنه تثور .

كان أخوه يقُص عليه كيف أن إحدى تلميذاته و التى لم تتجاوز سنوات المراهقة تركتْ أهلها و بيتها من أجل شهوة جمحتْ بها و سيطرتْ على نفسها ، من أجل فتى غرّر بها .
 
" مسكينات أولئك الحمائم فى أجواء الجوارح ، بريئات أولئك الحملان بين أوكار الذئاب ، ما هُن إلا لعبة فى مثلث الموت الذى يتمخض بهن ، ما أبعدهن بجهلهن و غباوتهن عن محبوبتى ، إنك لم ترى طيفها ، لم تعرف أناملك أثير روحها ، لم تسبيك رجاحة عقلها ".
بهذا كان يحادث نفسه هارباً من نظرات أخيه المكسورة المعاتبة .

يوماً ما وقف يوسف خادماً و قدوة و معلماً أمام هذه البائسة ، ولم تلبث طفلة صغيرة خجولة ، وديعة كحمامة داجنة .
لذا فقد انهارتْ كبرياء فراسته و علمه بالناس ، و لامس الفشل فوق جبينه إكليلاً من شوك ، فلم يجد بُداً وقد ظهرت عليه إمارات صغر النفس ، من أن يبعد ببصره- المغشى بالتساؤلات- من النافذة .

من النافذة ، تراءتْ له محبوبته ، إن طيفها يسيطر عليه ، تتحرك أمامه دائماً ، تجانبه أينما خطا ، تجاوره حيثما جلس ، لكن هذه المرة لم تكن بجواره ، إنما و الأتوبيس فوق كوبرى قصر النيل ، كانت تتخاطر فى ثوبها الطويل الفضفاض ، وتعلقُ ذراعها بذراع رجل.

طفق يحدث نفسه : "يبدو أن كلام أخى أزعج نفسى "
فرك عينيه ، و تأكد من سلامة نظارته ، حتى ابتعد الأتوبيس .
الأخ يتكلم و يوسف صامت و الاتوبيس يتحرك ، و يصل الأخان إلى حيث مكان اللقاء ، فيظهر المكان خالياً ، فيخفق القلب و تتهرب العيون و يذهب الأخ .
يعود يوسف و قد تغير الجو فقد بدا ملبداً بغيوم رمادية لا يلوح له أفق ، وفى عودته وحيداً يقطع الكوبرى على قدميه ، و يبرق ثانيةً طيف حبيبته ، تلتحم بذراع شاب طويل أسمر على وجهه آثار بثور .
هز يوسف رأسه ناكراً مذهولاً فخيال محبوبته دائماً مبتسماً يحيط به هالة من نور ، دائماً هى كائناً وسيطاً بين الإنسان و الملائكة ، لكن ما يراه الآن هو نزول بها من أعلى مراتب الملكوت الروحى إلى أقصى درجات الموات .
يقترب منها فى خطوات مضطربة ، و هو لا يزال على صراعه غير مصدّق ما يراه ، إلى أن حدث وإلتقت العيون ، و انفعلتْ ، رأته فتلجمتْ ، حاولتْ أن تبث الشجاعة فى نفسها ، أن تبادر بذكاء بالمصافحة ، رسمتْ على وجهها ابتسامة زائفة ، شحذت ذهنها ، انهارتْ و هربتْ ، عبرت الطريق بسرعة خاطفة ، كالمجنونة و هى تتخطى السيارات ، و هى تضع يدها على قلبها المرتعش مثل أداة الجريمة فى يد القاتل ، أرادتْ من الأرض أن تبتلعها ، ترجتْ السماء أن تطهرها بنار حارقة .

كانت تلتحمُ بذراعه ، إنها الخطوة التى لم يجرؤ يوسف أن يقدم عليها ، فقد رأى فى الحب مذبحاً مقدساً و هيكلاً طاهراً ، الإقتراب إليه فى خشوع و هدوء و استحياء .
كانت تلتصق به و يلتصق بها ، فالمياه المسروقة دائماً حلوة ، و خبز الخُفية أبداً لذيذ ، و لا يعرف أحد سرّه .
ناداها يوسف فى شرود و بلادة ، فتوقفتْ ، لكن هذه المرة أدركت أن اللعبة انتهتْ ، و أن الستار قد نزل على النهاية ، فلم تستطع أن تقاوم أو تنكر ، و إن ظلتْ غليظة القلب متعجرفة ، تتلمس التوافه ، تستحضر شيطانها بالمبررات ، و الذى لم يكن يوسف فى احتياج إليه ، لكن أنّى لها أن تعرف أن قوة السماء فى غيثها و قطرات دموعها .

انكسرتْ المرآة ، ظهرتْ العيون الحمراء و المخالب الحادة ، تلاشتْ القشور الذهبية ، سقطتْ أردية النور ، إن صوتها نعيباً فى أذنيه ، منطقها صداعاً مبرحاً فى رأسه ، جاهلة ، صخابة ، حمقاء ، انطفأ سراجها  وإذ الليل بعد فى أوله ، و فى ليلها و ظلامها تقبعُ الأخيلة و أرواح الشر و ضيوفها .
ذهبتْ ، كما ظهرتْ فجأة ، و معها كل شئ ، و استمر يوسف سائراً غائباً عن الدنيا ، يبتسمُ ساخراً من نفسه ، يبكى بكاءاً مسجوناً ، فتهطلُ دموعه داخل أحشائه .
طفق سؤاله القديم يراوده كما تراود حباتُ الدموع الجفون : أهى صدفة أم نداء روحها لروحه ؟

* * *
على الجانب الآخر من الكوبرى ، فى مقابل الكورنيش ، كانت تقف مركب صغيرة تتهادى على سطح الماء ، عليها فتاة عشرينية ، تتمايل ، تتلوى و تنثنى و تنحنى ، تهتز و ترتعش ، ترقص لتجتذب الرجال إلى المركب .
صناعتها أن ترقص حتى تطعم فمها و ربما أفواه أُخر .
صناعتها و عيشها و قدرها ، رضتْ أو رفضتْ ، أن ترقص و تتمايل و تهتز ، تحت أضواء صاخبة و أمام الناس ، أولئك الذين يحملقون فيها ، و يرمقونها بنظرات كلها تحرّق و شهوة ، يطلبونها و يمنّون بها أنفسهم ثم يلعنونها و يكفرونها .
صناعتها و وظيفتها ، و لم تكن يوماً لعبتها .

h_ramsis@yahoo.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع