بقلم: د. نوال السعداوى
كان المفروض أن أكتب مقالى هذا من القاهرة، لكن الطبيعة انفجرت غضبا، على معاقل النظام الرأسمالى الصناعى العسكرى فى الغرب، من بركانها المتفجر فى أيسلندا، غطت سحب رماده السماوات العليا فوق القارة الأوروبية الاستعمارية العجوز، عطل الدخان الأسود الكثيف، المشبع بذرات بركانية، طرق الطيران الجوى فى بلاد كثيرة، منها بريطانيا، حيث كنت فى العاصمة «لندن» بعد أن ألقيت كلمتى فى المهرجان الأدبى العالمى، بدعوة من نادى القلم الدولى، قلت فى كلمتى كيف يتجاهل النقاد الذكور إبداعات الكاتبات فى الشرق والغرب، كما تجاهل المؤرخون الذكور إسهامات الأم الكبرى، إلهة المعرفة والحكمة، فى اكتشاف الزراعة والعلم والفن؟!
خيانة ذكورية عالمية ومحلية، من الدولة والعائلة، مقابل الإخلاص والتضحية النسائية.فى الفندق الذى نزلنا فيه بجوار جامعة لندن والمتحف البريطانى، تجمعنا نحن المدعوين من مختلف البلاد، أدباء وأديبات، فنانين وفنانات من كل فروع الفن، الموسيقى والغناء والمسرح والسينما، بدأوا يثورون ضد الطبيعة الأم، قالوا إنها خذلتنا جميعا، لنصبح سجناء فى لندن بلا عمل، وقد انتهى المهرجان، وتم إلغاء كل الرحلات من مطار هيثرو الرئيسى فى لندن، ولم يعد أمامهم إلا أن يصبوا اللعنات على الأم الكبرى إلهة الطبيعة والبراكين والزلازل، إلهة الموت سخمت، «سخماط» كما كانت جدتى تقول فى الكوارث وترجعها إلى سخماط إلهة الموت، وإلهة الحياة أيضا، كانت جدتى الفلاحة فيلسوفة بالسليقة، تقول إن أمنا سخماط هى إلهة الموت والحياة معا، القادرة على صنع الحياة والقادرة على أخذها أيضا.
كان الرجال الذكور أكثر غضبا منا نحن النساء، خاصة أنا (نوال السعداوى) الكاتبة المصرية، التى أشادت بإلهة المعرفة إيزيس فى مصر القديمة، وإلهة العدل ماعت، وفى مسرحيتى «إيزيس» أعدت إليها مكانتها الفكرية والفلسفية، لم أجعلها مجرد زوجة لأوزوريس، أو أرملة تبكى على زوجها، وترمم أجزاء جسده المبعثرة فى وادى النيل، كما صورها معظم الكتاب الرجال، ومنهم توفيق الحكيم، فى مسرحيته «إيزيس».
بدأت أغضب على الأدباء والفنانين من جميع الجنسيات، الذين ينفسون عن غيرتهم الأبدية من المرأة المبدعة الخلاقة، أو خوفهم التاريخى العتيق من أى امرأة لها عقل يفوق عقولهم، أو غضبهم الخفى القديم والحديث من زوجاتهم أو من أمهاتهم، أو من أمهات زوجاتهم «حمواتهم»، ويعالجون عقدهم النفسية الدفينة تجاه المرأة.
أيدتنى النساء بحماس، وبعض الرجال غير المؤرقين بذكورتهم وتفوقهم الجنسى، أغلبهم من الشباب المبدع المساند لقضية تحرير النساء والفقراء وشعبى فلسطين والعراق وغيرهما، لكن العجائز من الأدباء والنقاد التقليديين تأففوا من خلط الأدب بالأيديولوجيا، راحوا يصطادون الشابات من الأديبات، رأيت ناقدا أديباً ألمانيا فى التسعين من عمره يجرى وراء شابة انبهرت بثرائه المالى وفقره الأدبى.
تحول بهو الفندق إلى خشبة مسرح، شاركنا جميعا فى مسرحية تلقائية، كنا نحن المؤلفين والممثلين والمخرجين والموسيقيين، أصبح نزلاء الفندق هم الجمهور المتفرجون، هكذا تغلبنا على السأم والغضب بالإبداع الجماعى والخلق الفنى والأدبى، أذاب الإبداع الجدران والفروق الموروثة بين البشر، اتسعت مساحة الوطن والأهل وشملت الكون.
تذكرت كيف تغلبت على السأم والغضب فى سجن النساء بالقناطر الخيرية (خريف ١٩٨١) فى عصر السادات، السجن هو أى مكان تعجز عن الخروج منه، بأمر من الحاكم المستبد، فى سجن مصرى يشبه أقفاص الحيوانات، أو بأمر من بركان أيسلندا المستبد، فى سجن فندق خمس نجوم فى لندن، السجن معاناة نفسية أكثر من المعاناة الجسدية، هو الإحساس بالظلم، بالقهر، بالعجز أمام قوة كبرى.
بالكتابة الإبداعية كسرت قضبان السجن، خلال ثلاثة شهور كتبت «مذكراتى فى سجن النساء».
منذ طفولتى كرهت كل السجون فى حياتى، منها جدران البيت الأربعة، أنتظر صافرة الإنذار بالغارة الجوية، لأجرى مع أسرتى والجميع إلى المخبأ تحت الأرض، حيث تزول الجدران العائلية، وألعب مع ابن الجيران والكون من حولنا مطفأ العيون والأنوار، اقترن الحب فى الثامنة من عمرى بسعادة الحرية، انتظارا للموت، فى الحرب العالمية الثانية.
أخف السجون هو السجن السياسى بأمر من الحاكم المستبد، قفص الزوجية ربما أخطر لعامة النساء، الزوج المستبد يخرج من القفص بإرادته المنفردة، يطلق زوجته كما يفرقع أصابعه، يفتح فكيه ليتثاءب ويقول طالق ثلاث مرات فقط، تصبح فى الشارع مطلقة محتقرة دون مورد، اليوم يمكن للزوجة أن تخلع زوجها إن تنازلت عن حقوقها كلها، لابد أن تكون مستقلة تعول نفسها، تستطيع تسديد أجر المحامى ليرفع قضية الخلع، شىء لا يحدث لأغلب النساء الكادحات بمن فيهن الطبقة الوسطى، أصبح نصف الشعب المصرى يعيش تحت خط الفقر، يبيع الأب ابنته الطفلة لرجل عجوز، تتعذب الزوجة فى سجن الزوجية بسبب الفقر، وتتعذب فى الطلاق بالعار والفقر الأشد، فى سجن النساء بالقناطر الخيرية شعرت بعض النساء بالحزن حين صدر القرار بالإفراج عنهن، لا أنسى دموع سجينة شابة وهى تودعنا، تمنت أن تبقى فى السجن لآخر عمرها، كان الإفراج أو الخروج إلى الحرية، مخيفا لها، كالطلاق أو الانطلاق من سجن الزوجية.
إحدى الفنانات معنا فى سجن لندن، كانت سعيدة بهذا البركان المتفجر فى أيسلندا، منع سفرها إلى بيتها فى استوكهولم، شمس لندن هذا الربيع لا تعرفها استوكهولم، هى أيضا لا تريد العودة إلى زوجها، يكذب عليها ويخونها، عاشت معه أربعين عاما دون أن تعرف حقيقته، التقت فى لندن بشاب مسرحى فى الأربعين من عمره، سألتنى: أحببته يا نوال وهو يصغرنى بعشرين عاما؟ قلت لها: زوجك فى التسعين ويعيش مع فتاة تصغره بخمسين عاما؟ قالت: هل من حقى التمتع بالحب فى الستين من عمرى؟ قلت: من حقك التمتع بالحب حتى الموت ثم إن عشرين عاما ليست شيئا يا ماريانا، السيدة خديجة أم المؤمنين المثل الأعلى لنا جميعا- تزوجت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهى أكبر منه بعشرين عاما. هتفت ماريانا: فانتاستيك!
وأطلقت ضحكة ارتج لها البركان فى السماء، وقالت: نسيت الضحك منذ أربعين عاما.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=17099&I=425