حبل الكذب قصير

د. عبد الخالق حسين

بقلم : عبدالخالق حسين
التقنية المعلوماتية الحديثة (مواقع الانترنت والرسائل الإلكترونية وغيرها)، كمعظم الأشياء في الحياة، سلاح ذو حدين، يمكن استخدامها للخير والشر. فجانب الخير هنا يتمثل في تمكين المثقفين التنويريين من نشر أفكارهم التقدمية الخيرة لخدمة البشرية، أما الحد الآخر من هذا السلاح فهو أن الأشرار أيضاً يتمكنون من تضليل الرأي العام بنشر سمومهم وأكاذيبهم وأفكارهم الظلامية بنفس السهولة. ففي هذا العصر، بإمكان أي شخص إصدار بيانات وتقارير ملفقة ونشرها على المعمورة وكأنه مؤسسة إعلامية ضخمة، بل وحتى يمكنه الادعاء بأنه زعيم حزب أو رئيس مؤسسة ودون أن يكون لهذا الحزب، أو المؤسسة أي وجود، فما عليه في هذه الحالة سوى أن يفتح له موقع على الانترنت ينشر فيه تلفيقاته، ثم يقوم بتوزيعها على مئات الألوف من العناوين الإلكترونية لتصل إلى أكبر عدد من الناس في لمح البصر، وكل مستلم يقوم بدوره بتوزيعها على العشرات من معارفه وأصدقائه، ثم جاء الـtwitter  والـ facebook ليسهلا ويوسعا مجال النشر أكثر. وهكذا نحن نعيش في عالم خطر يمكن تدمير سمعة أي شخص أو حزب أو تنظيم أو شركة بالكذب في لحظات.

المشكلة أن هناك أناس طيبو السريرة يصدقون كل ما يتلقون بدون تمحيص فينشرونه على معارفهم "لتعميم الفائدة"، إذ أعتدنا على استلام العشرات من رسائل وتقارير ومقالات مسمومة يومياً تحت أسماء وعناوين وهمية، هدفها تشويش الفكر وخلط الأوراق وتشويه سمعة الخصوم السياسيين وغير السياسيين.

وعلى قدر ما يتعلق الأمر بقضيتنا العراقية، فإطلاق التصريحات والبيانات والتقارير الكاذبة صارت مهنة يمارسها حتى سياسيون ومن مختلف المستويات والدرجات في خضم الصراع على السلطة، وكل يحاول الحط من قدر خصمه وبأي شكل كان وبأي ثمن. وكما ذكرت سابقاً أن في عرفنا العراقي، نعتبر معارضة السلطة والتهجم عليها، أيا كانت هذه السلطة، جيدة أو سيئة، هي شرط من شروط الوطنية، ومدعاة لكسب الشعبية ورفع مكانة المثقف. وهذا المفهوم هو جزء من أعرافنا وتقاليدنا الاجتماعية ورثناها من الأجيال السابقة بسبب ظلم الحكام على مختلف العهود. لا شك أن معارضة السلطة الجائرة عمل وطني نبيل، ونقدها عندما ترتكب أخطاءً واجب أخلاقي على المثقف يشعر بالمسؤولية، ولكن ماذا على المثقف أن يعمله إزاء تصريحات وأكاذيب ضد من هم في السلطة؟ هل عليه أن يسبح مع التيار ويساير موجة الأكاذيب والتلفيقات، وبذلك يخون دوره كمدافع عن الحقيقة، أم يتصدى لها ويفضحها ويحاربها؟

تطرقت لهذا الموضوع في مقال سابق لي بعنوان: (في نقد السلطة) أكدت فيه أنه يجب على المثقف تحري الدقة فيما يستلم من أخبار وتقارير كي لا يسقط في فخ الكذابين، حتى ولو كانت هذه الأكاذيب ضد السلطة، وإلا سنفقد مصداقيتنا، وفق الحكمة القائلة: "حدِّث العقل بما لا يليق فإن صدَّق فلا عقل له".

مناسبة هذه المقدمة والمقالة هي التصريحات الأخيرة التي أدلى بها  السيد صالح المطلك لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية يوم 26/4/2010 والتي جاء فيها ما يلي: "كشف القيادي في القائمة العراقية صالح المطلك، رئيس جبهة الحوار الوطني، عن مغريات قدمها له نوري المالكي رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، من أجل الانشقاق عن القائمة التي يتزعمها إياد علاوي والانضمام إلى ائتلاف دولة القانون. وقال المطلك لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من عمان أمس: «التقيت محمود المشهداني، الرئيس السابق للبرلمان العراقي، الذي جاءني مبعوثا عن المالكي حسبما أخبرني، وأبلغني تحيات رئيس الوزراء وطلبه مني بالانشقاق عن القائمة العراقية والانضمام إلى قائمة دولة القانون»، منوها بأن «المشهداني نقل لي أن المالكي يعرض علي أي منصب أشاء في الحكومة القادمة بدءا برئيس الجمهورية». (الرابط في الهامش).

لا شك أن الديمقراطية العراقية هي ناشئة ولم يعتد عليها العراقيون، فبدلاً من المنافسة الشريفة بين الكتل المتنافسة لإقناع الناخبين ببرامجهم الانتخابية لخدمة الشعب، يلجأ هؤلاء إلى الأكاذيب في محاولة يائسة لتشويه صورة الخصم. فمنذ بداية الحملة الانتخابية بدأ قادة "العراقية" و"دولة القانون" إطلاق تصريحات متبادلة حول الاختلاف في الرؤى والمواقف، تطورت إلى اتهامات من جماعة القائمة "العراقية" ضد قائمة "دولة القانون" بأنها تحاول شق صفوف "العراقية" وذلك بمحاولة إقناع بعض الكيانات والشخصيات بترك الأخيرة والانضمام للأولى مقابل مناصب. ولكن معظم هذه الاتهامات كانت مبهمة وغامضة ودون تحديد أسماء من يطلقها، وبدون سند مقنع، فتنفيها جماعة "دولة القانون". ولكن آخر هذه التصريحات جاءت من السيد صالح المطلك، بشكل صريح والتهمة هذه المرة موجهة إلى المالكي شخصياً؟

هذا التصريح من السيد صالح المطلك ليس غريباً، إذ عودنا الرجل على تصريحات مشابهة، ولما يضيق عليه الخناق يتنصل منها، فمثلاً صرح قبل مدة في مقابلة له على قناة "العربية" يمجد فيها حزب البعث وقادته، ويتهم أعداءه بالعمالة لأمريكا وإيران، ثم تنصل منها لاحقاً عندما أبعد عن الانتخابات لأن تصريحاته تلك كانت مخالفة للدستور. كذلك لاحظنا كلما تحصل عملية انفجار في العراق يسارع المطلك وأمثاله إلى توجيه إصبع الاتهام إلى إيران وعملائها، والمقصود بعملاء إيران هم الأحزاب الشيعية، وتبرئة فلول البعث وأتباع القاعدة من الإرهاب.

ثم جاءت تصريحاته الأخيرة لـ"لشرق الأوسط" أن المالكي عرض عليه منصب رئاسة الجمهورية مقابل تخليه عن "العراقية". إن هكذا تصريحات تنشر في صحيفة محترمة واسعة الانتشار مثل (الشرق الأوسط) لا بد وأن تؤدي إلى ردود أفعال حادة وسريعة، ولها دلالاتها الخطيرة. ومن هذه الردود أن جاء النفي من مكتب رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، وكان متوقعاً. ولكن الأهم وغير المتوقع أن جاء النفي حتى من قائمة "العراقية" نفسها وعلى لسان السيد حيدر الملا، القيادي فيها، "في تصريح أدلى به لصحيفة (المشرق) قوله:"لا صحة لهذه الأنباء”. وأخيراً جاء النفي من الدكتور محمود الهاشمي نفسه الذي هدد المطلك بمقاضاته على هذه الكذبة. ولما وجد المطلك نفسه محاصراً من كل جانب ولا خلاص له، لجأ إلى تكذيب تصريحه السابق ونفيه وإلقاء اللوم على صحيفة الشرق الأوسط.

والسؤال المهم هو: ماذا يعني كل هذه الفوضى في التصريحات المتناقضة من قادة قائمة "العراقية"؟ وماذا يعني هجوم السيد طارق الهاشمي على السلطة القضائية المتمثلة في "الهيئة التمييزية" في قرارها بإبعاد عدد من المرشحين وحتى الفائزين، وهجومه السابق على "المحكمة الاتحادية" في إجابتها على سؤال حول (الكتلة النيابية الأكثر عدداً). كذلك الرحلات المكوكية التي تقوم بها قادة "العراقية" لدول الجوار على أمل فرض الضغوط على الكتل الأخرى للرضوخ لرغباتها والتحالف معها في تشكيل الحكومة بقيادة الدكتور علاوي؟ 

إن هذا السلوك يكشف عن مدى استماتة قيادة كتلة "العراقية" وتهافتها على السلطة، وهي ليست لوجه الله أو لوجه الشعب والوطن، أو لإنجاح الديمقراطية كما يدعون. فالحل موجود في الدستور ولا داعي لكل هذه التحركات الاعتباطية والصراخ بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذ لا يمكن لأية قوة حرمان قائمة "العراقية" من حقها في تشكيل الحكومة إذا اتبعت هي الأصول القانونية المطلوبة واستوفت الشروط اللازمة.  ولكن الحقيقة التي تحاول العراقية إنكارها هي أن أية كتلة وحتى لو كانت لها أكثرية المقاعد، لا يمكنها تشكيل الحكومة ما لم تتحالف مع كتل أخرى، لذا وإذا تريد أن تشكل الحكومة عليها أن تنجح في عقد تحالف مع كتل أخرى أولاً. والحقيقة الأخرى التي تحاول العراقية تجاهلها هي أنه من حق الكتل الأخرى أن تتحالف أو لا تتحالف مع "العراقية" أو غيرها. لذلك فليس من الحكمة أن يتشبث قياديو "العراقية" بتركيا والسعودية وسوريا، والمحافل الدولية وغيرها للضغط على الكتل السياسية الأخرى وإرغامها على التحالف مع العراقية في سبيل أن يصبح علاوي رئيساً للحكومة. ففي النظام الديمقراطي ليس هناك إرغام، إذ من حق أية كتلة أن تتحالف أو لا تتحالف، مع كتلة أخرى وحسب مواقفها وشروطها السياسية. لنفرض أن الكتل الثلاث الأخرى (الإئتلاف الوطني ودولة القانون والتحالف الكردستاني) رفضت التحالف مع العراقية، وهو الأكثر احتمالاً، فهل بإمكان الجامعة العربية والأمم المتحدة والحكومات الأجنبية فرض هذا التحالف عليها بالقوة؟؟

ومن كل ما تقدم، يبدو لي أن قادة "العراقية" فقدوا صوابهم والدليل هو كثرة رحلاتهم المكوكية واستماتهم وتهديداتهم، تلميحاً وتصريحاً، بحرق العراق ما لم يشكلوا هم الحكومة، وأخيراً لجوءهم إلى إطلاق الأكاذيب الصريحة لتحقيق أغراضهم. لذلك أوجه نصيحة إلى قائمة "العراقية"، أنه إزاء هذه الأكاذيب الصريحة التي أطلقها صالح المطلك زعيم "جبهة الحوار الوطني" مؤخراً، ليس من مصلحة أية كتلة احتضان هكذا تنظيم وبقيادة هكذا شخص اشتهر بالكذب الصريح.
لقد اشتهر غوبلز، وزير دعاية هتلر، بقوله: "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، ونحن نعرف إلى أي مزبلة انتهى غوبلز وسيده هتلر. لذا على تلامذة غوبلز الصغار استخلاص الدرس، إذ تقول الحكمة: " يمكنك أن تكذب على كل الناس في بعض الوقت، وبعض الناس في كل وقت، ولكن لا يمكنك أن تكذب على كل الناس في كل وقت". إن صالح المطلك بأكاذيبه الأخيرة خسرآخر ما تبقى له من مصداقية وماء وجه، وكل من يدافع عنه سوف يفقد مصداقيته أيضاً، لأن حبل الكذب قصير.

هوامش: تقارير ذات صلة بالموضوع:
1- 
المطلك لـ «الشرق الأوسط»: المالكي عرض علي رئاسة الجمهورية مقابل
2- 
المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء يكذب ادعاءات صالح المطلك
3- 
حيدر الملا ينفي تلقي المطلك عرضاً من المالكي للانشقاق عن العراقية 
4- 
المشهداني: اتصلت بالمطلك لإقناعه بالعودة إلى العراق.. وليس لعرض منصب
5- 
المشهداني يهدد المطلك بالقضاء

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع