«الحزبلاوية».. كمان وكمان

بقلم: نبيل شرف الدين

فى مطلع هذا العام كتبت هنا عن «الحزبلاوية»، وهم طائفة من باعة الاحتقان للجماهير المأزومة. وتشير التسريبات فى قضية خلية «حزب الله» التى أوقفتها أجهزة الأمن مؤخراً، إلى أن هؤلاء لعبوا دور «الجناح السياسى» لحزب حسن نصرالله، وروّجوا له، وجعلوه بطلاً من وهم.

وحين حذرنا من هذا التنظيم الإرهابى منذ حرب لبنان حتى حرب غزة، كان صبية نصرالله ووكلاؤه فى مصر يكيلون لنا الاتهامات المغلظة، وكعادتها كانت الدولة المصرية غارقة فى العسل، تبث وسائل إعلامها المتهافتة عشرات البرامج التى تشيد بنصرالله وجماعته، وتصفها بالمقاومة الباسلة، وترسخ فى أذهان العوام والدهماء صورة خرافية للعمامة المسلحة، ويبدو أن أحداً لا يتعلم من تجارب اللعب مع شيطان الأصولية بصورتيه الشيعية والسلفية.

لم تنتبه الدولة لخطورة الملّا نصرالله إلا بعد أن تورط صراحة فى تحريض الجيش المصرى، وحينها انقلبت الصورة بشكل مفاجئ، مما أفقد الخطاب الرسمى مصداقيته، فكيف يصدق الناس حديثاً يتهم نصرالله بالتآمر على مصر، من نفس وسائل الإعلام التى طالما وصفته بأنه «سيد المقاومة»، ومن هنا كان مأزق صانع القرار المصرى، الذى أتصور أنه يفتقد الرؤية الاستراتيجية فى تقدير المواقف وتثمين الشخصيات، ولا يرى أبعد من موطئ قدميه.

يختصم فقهاء وعوام السلفية والتشيّع فى تفاصيل لا حصر لها، ويتقاتلون عبر الإنترنت والفضائيات فى معارك «الروافض والنواصب» الشهيرة، ومع ذلك تجدهم يصطفون معاً حين يتعلق الأمر بالتصدى لنداء العقل وقيم الحداثة، والسبب ببساطة هو أن التطرف ـ كالكفر ـ ملة واحدة، فلا يجمع بين المتطرفين سوى معاداتهم للحرية والتنوير، لأن الخفافيش لا يمكن أن تنمو وتزدهر إلا فى الظلام، حيث تسود مشاعر الهوس الدينى، ويغيب صوت العقل، ولهذا ترعى إيران الشيعية تنظيمات متطرفة مرجعيتها سلفية، كالجهاد الإسلامى وحماس، مع أن أنصار هؤلاء هم أنفسهم الذين ينشرون الرعب ضد شيعة العراق.

المسألة إذن ليست دينية ولا مذهبية ولا يحزنون، بل هو «تحالف المهووسين»، ضد الطامحين لغدٍ أفضل لأمتهم، وأجواء أكثر حداثة واتساقاً مع العالم. فإيران لم تكن يوماً حامية للشيعة، لأن التشيّع صناعة عربية بالأساس، وإيران ليست سوى دولة قومية فارسية، حتى لو اختطفت عمامة الإمام.

أما الأكثر أهمية فى هذا السياق، فهو ما ينبغى أن تفهمه جيداً دائرة صناعة القرار المصرى، وهو أن التطرف يبدأ من العقول، والحروب تندلع فى أذهان الناس قبل أن تتحول لصواريخ وعبوات ناسفة وسيارات مفخّخة، وأن من يرعى أو حتى يسمح ويغض الطرف عن هذا التمدد الدينى المهووس، على يد كيانات أدمنت الإرهاب الفكرى، سواء كانت تنتمى للإخوان أو السلفية أو الجهادية أو الشيعية، لا فرق.

ثمة أمر آخر فى هذا السياق يتحدث عنه عالم النفس التحليلى «سكينر»، فى كتابه: «تكنولوجيا السلوك الإنسانى»، يقول: «إن هناك شيئاً انتحارياً فى الإنسان، ربما نسميه مثلاً غريزة الموت، هى التى تؤدى فى ظروف معينة للاقتتال»، وهذا يعنى أن الخطاب الإعلامى المائع والمتخبط، الذى تعتمده آلة الميديا المصرية الرسمية، هو الذى يهيئ نفوس ملايين البشر لقبول فكرة خرافية مؤداها أن رجلاً مثل «نصرالله» بطل.

ومن هنا أتصور أن الخلية التى أوقفتها أجهزة الأمن بتهمة العمالة لحزب الله ليست أخطر حلقات الصراع الراهن بين مشروعين: الأول هو الدولة ممثلة فى مصر، والثانى هو العصابة أو الجماعة ممثلة بكيان «نصرالله»، بل يتعلق الأمر بالجناح السياسى والإعلامى لـ«الحزبلاوية» كمذهب جديد فى مصر، ولا يستساغ هنا القفز على حرية التعبير كأهم آليات الديمقراطية، فتجارب ألمانيا وإيطاليا- وهما دولتان عصريتان- تدحض هذه المتاجرة الرخيصة بالقيم النبيلة، ومحاولات الالتفاف على أرقى منجزات الضمير الإنسانى.

ففى البلدين ليس مسموحاً بقوة القانون تمجيد النازية أو الفاشية ولا رموزهما، فالشعوب- كالأشخاص- ينبغى أن تتعلم دروس التاريخ، وإلا أصبحوا مثل الأعراب الذين يرفضون التعلم، ويصرون على أن يلدغوا من الجحر ذاته عشرات المرات، متسلحين بالمكابرة، ومنطق التبرير، وغريزة الانتحار.

nabil@elaph.com
نقلاً عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع