بقلم: حازم صاغية
«محامون بلا قيود» يريدون منع «ألف ليلة وليلة» بسبب «إباحيّتها». وهم إذ يقاضون الدولة المصريّة لأنّها ناشر الكتاب، يبرهنون، مرّة أخرى، كم أنّ دولنا وأنظمتنا ورقاباتها الرديئة متقدّمة على «مجتمعاتنا المدنيّة» ورقاباتها.
والحال أنّ «القيود» كثيرة جدّاً، وإن كانت هنا غير مرئيّة قياساً بقيود السلطات. فهي تطاول الخوف من النفس والخوف على النفس مثلما تطاول الخوف من العالم ومجرياته ومن إغراء الحريّة الذي لا يُقاوَم.
هؤلاء الخائفون من التعرّض لـ «الوقوع في التجربة» تنهار مناعتهم في اللحظة التي يكفّون معها عن إقامة الشعائر والطقوس ومطاردة الساحرات، بسيف «التكفير» مرّة و «التخوين» مراراً، ودائماً تحت عناوين الحفاظ على الأخلاق أو مكافحة التطبيع أو محاربة الاستشراق الخ. وغالباً ما يكون جهاز الدولة ومتفرّعاته أقرب إلى الحريّة والمعرفة من أهل الشعائر والطقوس «المدنيّين»، من دون الإغفال عن جبن هذا الجهاز في أحيان، وتواطئه معهم في أحيان أخرى.
كائناً ما كان الحال، فالرسالة الضمنيّة تبقى إيّاها: إنّ الخوف من التقدّم، والعجز عنه تالياً، يفاقمان هذا التخثّر وتلك المراوحة في المكان نفسه، لا بل الرجوع المتعاظم إلى الوراء.
فنحن إذ نخوض حروبنا المتواصلة ضدّ الحداثة وضدّ الحريّة، نتطهّر من العالم بقدر ما نطهّر تاريخنا وثقافتنا نفسيهما من المعنى، دالّين على عدم جدارة تاريخيّة بما يُفتَرض أنّه حقّنا وأنّه ملكنا.
لقد كتب الروائيّ اللبنانيّ حسن داوود كيف أنّ «ألف ليلة وليلة» كانت، مثل كلّ شيء مفيد تقريباً، اكتشافاً أتانا من هناك، من الغرب، «بعد أن كدنا ننساها هنا»، وكيف أنّ «كثيرين من روائيّي العالم ذكروا كيف أنّها ألهمتهم في سعيهم لتجاوز البنى الراسخة للرواية التي كان لا بدّ من إخراجها من تقليديّتها، وكيف أنّها فتحت لهم أبواباً للتخيّل الذي، في حكايات الكتاب وقصصه، تخطّت كلّ حدّ، فرُحنا نقرأ عن أمكنة خرافيّة ومسافات لا قِبَل للخيال بإحاطتها وجزر هي، لغرابتها وأبعادها الأسطوريّة، أوسعت مساحة الأرض وأخرجت كائناتها من جاذبيّتها. وهذا، كلّه، من دون أن يخسر بشر القصص شيئاً من منازعهم الأرضيّة التي نعرفها ونحسّها».
لكنّ عناصر السبق هذه، التي عدّد داوود بعضها، هي بالضبط مصادر اللعنة. ذاك أنّنا مضينا بعيداً جدّاً في معاركنا السياسيّة بحيث فاضت إلى الثقافة وعموم أوجه الحياة. وهذا بمثابة انقلاب عميق على العقل وعلى الاتّصال بالعالم يشقّ طريقه، بلا هوادة، منذ عقود. وهو يكسب أرضاً بعد أخرى.
فإذا كان الإصلاح الدينيّ، في أحد أبرز وجوهه، يعني قراءة الدين قراءة غير حَرفيّة، بحيث يُعتمَد المجاز والاستعارة والصور، فإن المطلوب اليوم هو العكس تماماً: أن يُقرأ الادب قراءة حَرفيّة تجرّده من المجاز والاستعارة والصور.
وإذا كان التعلّم والتثاقُف ومعرفة العالم وتعريف أنفسنا بالعالم من شروط الحضور فيه، فإنّ ضدّيّتنا حياله باتت غير معنيّة بذاك الحضور أصلاً.
والألمان الذين حضنوا الفلسفة والموسيقى الكلاسيكيّة، واحتلّوا صدارة المشهد الثقافيّ الأوروبيّ، كانت تكفيهم «ليلة الكريستال» أو «ليلة الزجاج المكسور» في 9 و10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1938 كي يقهروا ذينك التاريخ والمعنى. ذاك أنّ ليلة واحدة من البربريّة تكفي لقتل ألف ليلة وليلة.
نقلا عن العربية.نت
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=17693&I=439