الشيخ رفاعة الطهطاوى 1-2

نسيم مجلي

بقلم :نسيم مجلى
كثيرة هى الكتب التى تحدثت عن حياة الطهطاوى ودوره فى حركة النهضة المصرية ، ومن أحدث هذه الكتب وأكثرها تميزا عملان أحدهما مسرحية بعنوان " بشير التقدم " لكاتب المسرح الكبير الراحل نعمان عاشور والتى عرضها المسرح المصرى فى السبعينات ، وفيها يركز نعمان عاشور على ابراز دور الطهطاوى فى التعليم والتنوير وتحرير المرأة بل والدعوة ألى مساواتها بصورة كاملة مع الرجل . أما الكتاب الثانى فهو " عودة رفاعة الطهطاوى" الذى صدر فى تونس 1997، للدكتور أنور لوقا . والكتاب يقدم للباحثين فى الأدب والفكر  نموذجا رائعا فى الدراسات المقارنة، لأنه لا يحصر نفسه فى حياة الطهطاوى بل فى دراسة تأثيره الفكرية فى مصر وتونس وامتداده الى بلاد أخرى .

هذا كتاب جاء فى أوانه ، ليزيل كثيراً من اللبث والغموض الذى علق بأفكار التنوير من جراء ما تثيره قوى الظلام والتخلف من أكاذيب وافتراءات تحاول بها تضليل الشباب وتشويه أعلام التنوير جميعاً من رفاعة الطهطاوى إلى طه حسين وعلى عبد الرازق ولطفى السيد و سلامة موسى حتى لويس عوض. وكتاب " عودة الطهطاوى " للدكتور أنور لوقا هو كتاب مرجعى شامل عن رائد حركة التنوير وعن أصوله الفكرية وطموحاته الوطنية لإنهاض شعب مصر والأمة العربية الإسلامية من ظلام الحكم العثمانى وظلام العصور الوسطى الذى عاشت فيه حوالى أربعة قرون، انقطعت  فيه تماما عن العالم الخارجى وعن أنوار النهضة الأوربية التى أخذت تتلألأ على الشاطئء الأخر للبحر المتوسط ، دون أن ندرى بها .
والكتور أنور لوقا من أقدار الباحثين على الخوض فى هذا الموضوع. فقد حصل على دكتوراه الدولة من السربون سنة 1957 فى الأدب المقارن برسالة رئيسية عنوانها :
" الرحالة والكتاب المصريون فى فرنسا أثناء القرن التاسع عشر " ورسالة تكميلية هى " دراسة تأصلية للنص الطهطاوى – تخليص الإبريز فى تلخيص باريس ، مع ترجمة فرنسية له " كما ترجم إلى الفرنسية كتاب أستاذه طه حسين " الفتنة الكبرى – عثمان " ،ثم كتاب " الأيام " الجزء الثالث ، ونقل إلى العربية عدداً من روائع الأدب الفرنسى الكلاسيكى والحديث .

عمل بالتدريس فى جامعتى القاهرة وعين شمس بمصر ، وفى مدينة جينيف قام بالتدريس فى "معهد الترجمة " و " معهد المكتبات " وشغل فى الجامعات الفرنسية – " بروفانس " و" ليون الثانية " منصب أستاذ اللغة العربية وادبها .
وكتاب " عودة رفاعة الطهطاوى " الصادر عن دار المعارف للطباعة والنشر بتونس عام (1997 ) هو طبعة جديدة منقحة لكتاب " ربع قارن مع رفاعة الطهطاوى الذى نشر  فى سلسلة " اقرأ " سنة 1985 عن دار المعارف بمصر ، وقد أضاف المؤلف إلى هذه الطبعة فصلين هامين هما : المقدمة والخاتمة – نهاية المطاف ؟ - بالاضافة لمقدمة الناشر التونسى الاستاذ منجى الشملى وهو أستاذ متميز للأدب المقارن بجامعة تونس الأولى .
ثم تتولى فصول الكتاب على النحو التالى :
1- بعثة وإمام
2- موعد مع التاريخ
3- صدمة الحداثة
4- أبواب الرحلة
5- بناء النص : تخليص وتلخيص
6- النهضة من منظور اللغة : شطح اللفظ وتحرير الأسلوب
7- الطهطاوى فى ميزان معاصريه
8- مولد الأدب الحديث
9- رفاعة الطهطاوى وطه حسين يكتبان " الأيام "
10- نهاية المطاف : من القاعدة إلى الاستثناء وبالعكس،

ونظرة عابرة على هذه العناوين تكشف لنا بوضوح أهمية الموضوعات التى يتطرق إليها الكاتب فى هذا السفر الهام .
فعنوان الكتاب ذاته يحمل عدة دلالات عميقة .. فما معنى هذه العودة ؟ إنها عودة جديدة من خلال الأدب المقارن تكشف لنا أن رحلة الطهطاوى .. لم تكن مجرد رحلة فى المكان .. من باريس إلى القاهرة .. وإنما هى أيضا رحلة فى الزمان .. من الحداثة إلى التراث ... يقول د . لوقا.
" يعود إلينا رفاعة الطهطاوى ( 1801 – 1873 ) لا من رحلة المكان فحسب – بعثته الشهيرة إلى باريس – بل من رحلة الزمان أيضا ، بعد أن اجتاز فى استكشاف الحداثة خضم القرن الماضى ، واصبح رائدنا اليوم فى حركة العبور المزدوج من التراث إلى المعاصرة ومن المعاصرة إلى التراث ونحن نتجمع – ولو تشرزمنا – على ساحل القرن الحادى والعشرين "

هذا هو المعنى الحقيقى لحركة التنوير من الطهطاوى حتى الآن فلم تكن الاستنارة التى عاد بها الطهطاوى إلى مصر هى مجرد استجلاب أفكار التحرير ومناهج العلوم الحديثة من فرنسا إلى مصر ... بل الاستفاده أيضا بهذه الأفكار والمناهج فى فهم تراثنا وغربلته وكشف ما فيه  من غث وثمين.

" فقد أحيل الطهطاوى وأعضاء البعثة – قبل السماح لهم بدخول فرنسا – إلى الحجر الصحى بميناء مرسيليا ،مما أثار ارتيابه بل وتسأءله ، أليس فى فرض مثل هذه الوقاية من المرض افتئات على قضاء الله وقدره ؟
لم يكن علماء الأزهر بالقاهرة قد فطنوا اطلاقا إلى هذه المسألة التى يطرحها الطب الحديث ، ولكن علماء تونس تنبهوا إليها وأصدروا جوابهم بوضوح . فقد أفتى  الشيخ المناعى المالكى بتحريم ذلك الحجر الصحى وأفتى الشيخ محمد بيرم الحنفى بإباحته بل وبوجوبه . والغريب أن كلا منهما احتج لاثبات فتواه بالكتاب والسنة "

إذن لم يكن الطهطاوى عند خروجه فى هذه البعثه العلمية خاوى العقل أو ساذجاً كما يردد البعض، وإنما كان على وعى بتراث أمته وقيمها الدينية ، بالإضافة إلى إلمام واسع بفتاوى المجتهدين من فقهاء مصر وتونس الشقيقة . فإيراده لهذين الرأيين النقيضين إعجاب ضمنى لا بالسبق وحده عند المجتهدين فى تونس ، بل بحرية " المحاورة " بينهما " حيث يعلو الرأى ويعلو الرأى الأخر " .

لقد ولد رفاعة رافع الطهطاوى مع مطلع القرن التاسع عشر ودفعته الأقدار فى الثانية عشرة من عمره، إلى مغادرة مسقط رآسة وراء أبيه الذى فر إلى قنا وفرشوط من الضائقة الاقتصادية التى أصابت الأسرة فى طهطا ، فلما بلغ السادسة عشر من عمره ، صحبته الأقدار ليدرس فى الأزهر، اقتداء بأخواله العلماء الشيخ فراج الأنصارى والشيخ محمد الانصارى، وهم الذين تولوا تربيته فى طهطا بعد وفاة والده.
   
 وفى الأزهر شاءت الأقدار أن يتتلمذ الفتى الصعيدى على رجل رحالة وأديب مرموق هو الشيخ حسن العطار (1777-  1835 ) الذى كان يمتاز من بين أساتذة ذلك العهد بعقلية تقدمية تستطلع الجديد وتؤمن بالتطور . لقد حل التفكير فى تدريسه محل الحفظ ، واحتلت الحركة فى حياته مكان الجمود. وكان قد اتصل به بعض ضباط نابليون ليتعلموا اللغة العربية، فلم يحتقرهم ولم ينبذهم، بل جاورهم وحاورهم، وعلمهم وتعلم منهم وفطن إلى أهمية منهجهم المتحرر من منطق القرون الوسطى ، وبساطتهم المباشرة فى التعبير عن أفكارهم فأحس وتنبأ بضرورة تجديد الحياة العقلية . وكان مولعا بالجغرافية وبالترحال فقد جال فى فلسطين وتركيا وأقام طويلا فى دمشق . ( منطق العور الوسطى                  )=
     
  وشأءت الأقدار أن يؤدى هذا الرائد أخطر دور فى حياة رفاعة . لقد بلغ رفاعة عام 1826 الخامسة والعشرين من عمره وبلغ أيضا أقصى ما يستطيع أن يناله فى مصر فتى مثله، فتصدى للتدريس بالأزهر ، واشتغل إماماً لبعض فرق الجيش .

وفى ربيع ذلك العام، انتهز محمد على" فرصة مرور السفينة الحربية الفرنسية " لاترويت " فكلف قبطانها "روبيار " أن يحمل معه إلى مرسيليا أربعين شابا ليدرسوا فى باريس . وينبغى أن نذكر فى وضوح أن رفاعة رافع الطهطاوى لم يرسله إلى فرنسا محمد على وإنما أرسله الشيخ حسن العطار .
ويوضح الدكتور لوقا أن محمد على لم يكن يثق بالمصريين، وكان يتخذ اعوانه من الأجانب يشتريهم صغاراً كما كانت تشترى المماليك ، ويسلمهم فى القلعة إلى رجل موصلى يدعى " حسن افندى الدرويش " ومن بعده إلى شخص أخر تركى يدعى " روح الدين افندى " ليتعلموا الخط والحساب واللغة التركية إلى جانب التمرينات العسكرية، وذلك من أجل تكوين طبقة أرستقراطية مشتراة بالمال، تدين له وحده بالولاء ، ويحكم بواسطتها البلاد .

 لم يدخل مدرسة اللغة إذن إلا عدد محدود من الصبية الأتراك والشراكسة و الجيورجيين والأكراد والأرمن . ومن هذا الخليط العثمانى انتخب محمد على معظم أعضاء بعثته . لم يكن بينهم من المصريين إلا خمسة، وحينما أوشكت البعثة على السفر، أشارالشيخ حسن العطار على الوالى بأن يضيف إلى الطلبة إماماً يسهر على شئون دينهم فى تلك البلاد البعيدة، ولم يستطع محمد على أن يرفض هذا الاقتراح . وهكذا عين حسن العطار تلميذه رفاعة  الطهطاوى إماماٌ للبعثة .

 وفى باريس اهتم جومار ، مدير البعثة ، بالشيخ الإمام ، وجعله موضوع عنايته الخاصة. كان جومار مهندساً جغرافياً من علماء الحملة الفرنسية الذين اصطحبهم " بونوبارت إلى ضفاف النيل ، وهو الذى اشرف فيما بعد على نشر موسوعة " وصف مصر " وقد أصبح جومار رئيسا للجمعية الجغرافية وعضوا فى " المعهد الفرنسى " ومحركاً لكثير من الهيئات الثقافية والتربوية. ولم ينقطع اهتمامه بمصر، بل اتصل مراراً بواليها الجديد محمد على وافلح فى اجتذاب بعثاته إلى باريس وكانت قد اتجهت فى أول الأمر إلى إيطاليا .

توسم " جومار " فى رفاعة  الطهطاوى الذكاء ، فوجهه إلى الإفادة من رحلته بدراسة اللغة الفرنسية، وترجمة مبادىء العلوم ، وإنشاء كتاب عن مشاهداته فى باريس، لعل هذا الفتى الصعيدى أن يصير همزة الوصل المنشودة بين ثقافة الغرب وعقلية الشرق .

 وبعد أن أمضى رفاعة فى باريس خمسة أعوام ، عاد إلى وطنه سنة 1831 زاخر النفس بمعانى حياة جديدة، متحفزاً لعمل خطير هو إصلاح المجتمع المصرى بتعليم الشعب وتنوير العقول . عاد ليعلم ويترجم وينشئء المدارس ويعد المدرسين والمترجمين. يهدم الآراء الفاسدة ويبث أفكار التقدم عن طريق نشر الكتب والصحف والخطب ،دون كلل فى نشاطه على الرغم من القيود التى كان يفرضها عليه محمد على ، ودون أن تفتر همته حتى نفاه عباس إلى السودان . لكنه واصل رسالة الارتقاء التى أمن بها حتى وافته المنية سنة 1873 . إنه رائد عملاق لولاه ولولا الفريق الذى رباه لظلت مصر متخلفة  قرونا عن ركب التاريخ .
   
 ينتهى الدكتور لوقا فى تحليله لهذه الرحلة إلى القول :
" تتجلى فى خبرة رفاعة الطهطاوى تلك الظاهرة الكبرى التى يمتاز بها تاريخ مصر والعالم العربى فى القرن التاسع عشر، ألا وهى الاتصال المحتوم بالحضارة الغربية. إن رحلة رفاعة إلى باريس هى أول علاقة مثمرة بين الشرق والغرب فى العصر الحديث. لقد تبادل الشرق وأوربا التجارة والسفراء فى السابق، ولم تنتج عن تلك العلاقات قط امتزاجاً إنسانياً عميق الأثرإذ دخلت مصر مرحلة الظلام وانطوت على نفسها، حين داهمها الأتراك فى القرن السادس عشر، فباتت فى ظلامها تجهل أنوار الفجر الجديد الذى طلع إذ ذاك على أوربا. وامتد سباتنا  زمنا  طويلا حتى أيقظتنا فى أواخر القرن الثامن عشر طلقات مدافع نابليون  بونابرت " والحملة الفرنسية على مصر.

يقرر المؤلف أن الحملة الفرنسية كانت " لقاء عنيفا بين أبناء الغرب وأبناء الشرق، ولم يتح لها قصر الأجل و لا روح المقاومة الشعبية من الاستقرار ما يؤدى إلى اتصال جليل النفع . وللرد على المبالغات بعض المؤرخين فى تقدير النتائج المباشرة لتلك الحملة على مصر يكفينا أن نذكر الجبرتى ، فإن هذا الرجل الذى يعتبر من أكبر علماء عصره لم يستطع أن يدرك من علوم الفرنسيين شيئا، بل إنه لم يحاول أن يتفهم ما شهد من تجاربهم الكيميائية والطبيعية البسيطة، وقنع أخر الأمر بإبداء دهشته وعجزه، إذ يقول : ولهم فيه أمور و أحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا "

 لقد خطت مصر خطوتها التالية حين تفتحت عينا رفاعة على بلاد " الإفرنج " ووضعه " جومار " فى مركز المعارف الجديدة، فأقبل عليها بشغف ونهم  فأفاد أكبر فائدة من التوفيق الذى حظى به، فأصبحت رحلته هى أول صورة كاملة للقاء بين الشرق والغرب، وأتحفتنا تجربته بجميع نتائج الاخصاب، لأنها أتت فى ظروف مواتية .

لهذه التجربة الفريدة سجل ثمين ـ كتبه بطلها نفسه فى أثناء إجرائها فسماه " الديوان النفيس " بعد أن عنونه " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " ثم نشره وفى أول صفحة منه تقريظ الشيخ حسن العطار ، شيخ الأزهر الذى يؤكد..." بأنه سعيد بأن يقدم للجمهور عمل تلميذه. والكتاب صورة مصغرة لصاحبه " وكما يقول الدكتور أنور لوقا : 
" إنه رجل تربى فى الأزهر ثم انتقل إلى باريس، فاحتفظ بالتقاليد الإسلامية وأضاف إليها التحليل العقلى الذى تتميز به الثقافة الفرنسية والذى يفرض على تفكيره منطق الملاحظة والتجربة . لقد عاد الطهطاوى من باريس سنة 1931 ليقوم بالتعليم والترجمة وإعداد الشباب لأصلاح المجتمع المصرى وتنويره. أما هذه العودة الجديدةة فهى تتجسد فى تلاميذه ومحبيه ومن يحملون مسئولية الدعوة إلى الإصلاح السياسى والاجتماعى والثقافى فى كل من تونس ومصر على السواء .

" يعود إلينا الطهطاوى هذه المرة عبر طريق تونس – و لا غرابة فى إيثار هذا الاتجاه – فقد احتفى به التونسيون ، وتلقف مصلحوهم – من قابادوا وخير الدين وحسين إلى ابن أبى الضياف والسنوسى – كتابه التأسيسى ( تلخيص الإبريز فى تلخيص باريز ) وتابعوا بحثه عن أصالة الإحياء العربى فى منعطف العصر الحديث "

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع