عبد المنعم عبد العظيم
بقلم : عبد المنعم عبد العظيم
أعشق الفلاحة المصرية، تعجنى رشاقتها وهى تحمل البلاص وتتمخطر على الموردة ساعة العصارى مع رفيقاتها ..
أحيانًا لا يكون المنزل محتاجًا إلى الماء، ولكنها الرحلة اليومية التى تتنفس من خلالها الهواء وتتمتع بالنسيم وتقتل جو القرية الرتيب.
ويستهوينى أكثر زى الفلاحة الأسود الجرار، أتصوره ليلاً وهى فيه القمر،
ولكن الذى كان يستهوينى أكثر المنديل أبو آوية على رأس الفلاحة، بل وعند نساء الأحياء الشعبية مع الملاية اللف كنا نجلس أمام محل صديقى الرسام السيد "فرح" بشارع رأس التين نتفرج على بنات بحرى بالإسكندرية أيام دراستى هناك، وكان ثالثنا الفنان ورسام الكاريكاتير الدكتور "محمد عبدالمنعم حسن".
كنا نقف أمام لوحات فناننا العظيم "محمود سعيد" التى هى أروع من صور بنات بحرى ولوحات "سيف" و"أدهم وانلى."
وتمر الأيام فأسأل أين ذهب المنديل أبواويه غطاء الرأس التقليدى الجميل تاج المراة المصرية؟ ، وهل هو فى طريقه إلى الإندثار فى ظل إنتشار الحجاب والنقاب رغم أنه زى جميل ومحتشم أيضًا.
إننى أتغنى بما أبدعة الشعراء وغنّاه المطربين فى الزمن الجميل عن هذا المنديل الذى يجسّد فن الآوية أحد الفنون اليدوية التراثية وهو جزء أساسى من أشغال الإبرة.
وبالرغم من أن هذا الفن يُنسب بالدرجة الأولى إلى الأتراك، إلا أن تواجده عند قدماء المصريين كان أقدم، فقد وُجد لديهم ما يشبه أشغال الإبرة، حيث كان النساجون يصنعون أنسجة موشاة بصور ملونة، وكشفت الحفريات عن أقمشة كتانية موشاة بأسلاك من الذهب فى مقبرة "تحتمس" بطيبة وقطع مشغولة بالإبرة فى مقبرة "توت عنخ أمون" كانت تُعلق على جدران القصور فى منازل الأشراف.
كما وُجد فى الدير البحرى عينات من المنسوجات الكتانية المطرزة بما يشبه الحرير، وفى أحد قبور "سقارة" من العصر اليونانى الرومانى عُثر على رداء من الكتان المذهب مُحلى بمناظر من الأساطير الدينية، وفى العصر القبطى استمرت مزاولة غزل الكتان، وكانت زخارف المنسوجات منقوشة بطريق التايسترى، التى توارثها الأقباط عن الفراعنة وحافظوا عليها، وهى الطريقة التى سماها العرب القباطى.
و"الآوية" نوع من الدانتيلا الرقيقة، كانت تستعمل ككلفة لأطراف الإشغال المصنوعة من النسيج، كالفساتين، والقمصان الداخلية، والمناديل، والإيشاربات.
وقد اشتهرت بلاد الأناضول بصناعة ما يُسمى فى اللغة التركية "اويا" حيث كانت المراة التركية تطرز شريطًا طويلاً من القماش بإستخدام خيوط دقيقة من الحرير بالوان مختلفة، بحسب الأزهار التى تريد تطريزها وبإستخدام إبرة دقيقة لتزين به عنقها، وهذه الآوية صغيرة جدا وحجم كل زهرة فى الشريط بحجم حبة البسلة على الأكثر، ونرى فيه من الورد والفلفل الأحمر بإزهاره وثمره والليلك والبنفسج وما خلق الله من الأزهار.
كانت المراة التركية تُبدع فى تطريزه على شكل شريط حريرى لا تفنى أزهاره إذا هبت الريح الشديدة فى شتاء الأناضول البارد.
ويبدو أن فن الآوية قد انتقل من (تركيا) إلى البلاد العربية التى فتحها العثمانيون بعد السلاجقة فى القرن الرابع عشر الميلادى.
وبإنتقال فن الأوية لمصر تقلص إستخدامه فى نطاق منديل الرأس، الذى يطلق عليه اسم القرطة فى محافظة "دمياط" واسم الحردة فى "الصعيد"، وفى القاهرة وباقى المحافظات أُشتهر بالمنديل أبو آوية.
ولأسباب دينية التزمت المرأة بتغطية رأسها بالمنديل؛ عملاً بالتعاليم الدينية التى ترى أن شعر المرأة عورة، فهو أخف وأجمل من الطرحة ويناسب الجو الحار فى مصر.
لقد اندمج المنديل أبو آوية فى الزى القومى، وأصبج لباسًا شعبيًا وأرادته كل طبقات المجتمع المصرى وبجميع المستويات، ولكن كل طبقة اختلفت فى الخامات المستخدمة فى تنفيذه، و مستوى الجودة فى التنفيذ، ومستوى المودة التى يتطلبها هذا الزى.
لقد استخدمت المرأة الشرقية والمصرية على وجه الخصوص منديل الرأس أبو آوية، لكن المنديل اتخذ أحجامًا متباينة حسب المستوى الإجتماعى، فقد عمدت الطبقة الأرستقراطية عبر العصور إلى استخدام الآوية فى المنديل، إعتمادًا على الإنتقاء وعلى تكليف المنديل بالخامات التى تصل فى بعض الأحيان إلى استخدام الأحجار الكريمة والذهب، وبشغل الإبرة الذى يحتاج إلى صبر وجلد ووقت طويل ودقة متناهية .
ومالت الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى البساطة ورخص الثمن، وإلى الألوان الزاهية، أما الطبقات الأكثر يسرًا فأنها كانت تميل إلى الألوان الهادئة.
واستمدت الآوية، على وجه العموم، أشكالها وألوانها من الزهور الطبيعية،
وفى الماضى كان المنديل أبوآوية يمثل الزى الشعبى للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وبعد انتشار الحجاب والنقاب أصبح الزى المميز للطبقة الراقية.
أسماء الآوية
لقد أُطلق على الآوية عدة أسماء حتى أنهم يميزون فى مصر الغرزة عن الأخرى.
فمثلا "غرزة الزرافة" استخدمها الأتراك واليونانيون ثم الطبقة المصرية الراقية.
و"غرزة المكوك" والتى كانت تُصنع باستخدام عدد 2 مكوك من العظم أو الخشب، وهو مايُستخدم فى أوربا وإيطاليا فى عمل قماش الدانتيلا اليدوى، ويستخدم فى مصر بطريقة مبسطة.
أما "المقصقص" فهى أشهر طريقة فى مصر، وهى الطريقة المفضلة خاصة فى دمياط، وتندرج تحتها عدة أسماء مثل ( الفلا )، (اثنين بترتر) (مقمغ)، (حزمة الحطاب الشيخ على)، (الشيخ على تلاثة مقصقص)، (على عريجة مقصقص)، ( مروحة على خمسة ثم آوية الدبوس)، وهو نوع من آوية تُستخدم فيه الأسلاك اللينة.
كما توجد أنواع من الآوية تنفذ بإبرة الكروشيه.
وقد استهوى المنديل وما كان له من تأثير جمالى الكثير من الزجالين والشعراء والمغنين والرسامين، ذلك لأن المرأة المصرية تفننت فى ربط المنديل بما يتناسب مع شكل وجهها ولون شعرها، فلم يكن المنديل فى جميع الحالات يغطى الشعر كله بل أن بعض النساء كن يغطين بالمنديل جزء من الشعر مع الإبانة عن خصلة منه، مما كان يضفى جمالاً على وجه المرأة.
ولقد كانت الفتيات يتباهين بما لديهن من مناديل وبما فيها من آوية وكانت البنت قبل الزواج تجهّز نفسها وتبدأ بمناديل الرأس، وكان له فى نظرها مكانة هامة من بين ما كانت تجهّزه لزوجها من ملابس مختلفة.
وقد استحوذت محافظة (دمياط) على هذا الفن دون باقى المحافظات، وقامت الأستادة "بثينة عبدالجواد "، الأستاذة بالمعهد العالى للتربية الفنية بالزمالك، ببحث ميدانى بـ"دمياط" والعزب التى ينتشر بها هذا الفن، ولاحظت أن معظم المشتغلات بالآوية بدأن فى تعلمها فى سن صغيرة، وتم التعليم فى نطاق الأسرة، كما وجدت أن بالقاهرة من يقمن بهذا العمل فى الإحياء الشعبية مثل "الإمام الشافعى" و"درب البرابرة" و"مصر القديمة"، ودعت إلى إنشاء مدرسة مصرية تجمع أنواع الفنون الشعبية لحماية فنوننا الشعبية من الإندثار.
وبالمناسبة، فقد كانت كل أقاليم مصر تصنع هذا المنديل، وكان حرفة النساء فى البيوت، مثل حرف كثيرة طلّقتها البيوت المصرية مع التقدم الصناعى واستخدام الآلات فى التصنيع، ولكن يظل للأشغال اليدوية قيمتها الفنية والإبداعية.
لعل هذا المقال دعوة إلى الحفاظ على هذا التراث الجميل من الإندثار، حتى يعود للفلاحة المصرية وجهها الجميل، وزيها المميز ، حقيقةً أنها لن تستطيع أن تتمخطر على الموردة أو تشاغل الواد الأسمر من خلف المشربية، ولكننا بحاجة إلى الصورة الجميلة التى جذبت خيال المبدعين فى الزمن الجميل.
مدير مركز دراسات تراث الصعيد الاعلى
الأقصــر .......... مصـــر
http://www.copts-united.com/article.php?A=17727&I=440