محمد عبد الفتاح السرورى
بقلم: محمد عبد الفتاح السُروري
منذ عدة سنوات.. عندما كان التليفزيون يعرض مَشاهد منقولة من بعض شوارع أوروبا، وخاصًة في نشرات الأخبار -على سبيل المثال- كان بطبيعة الحال أن يَظهر بعض المارة في هذه المَشاهد، وكان هؤلاء المارة بمثابة عيِّنَة عشوائية من التركيبة البشرية التي تُشكِّل هذا المجتمع المنقولة منه هذه المَشاهِد، وكان ما يُلاحظ.. غياب أي تميُّز يُذكَر بين المارة بعضهم البعض، فهم يرتدون ملابس متباينة ومختلفة.
ولكن جميعها ينتمي للملابس اليومية العادية، وتَغيَّر الحال مع هذا المد السَلفي الذي كما طال مجتمعاتنا المكلومة، طال أيضًا الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش في الخارج، في ظل ثقافة ومنظومة اجتماعية أخرى، وأصبح الظاهر للعيان مدى وضوح وظهور النقاب، ومدى انتشاره فى شوارع أوروبا، وذلك عندما يظهر مراسل إخباري -على سبيل المثال- في أي قَناةٍ، وتكون خلفية المشهد في الطريق العام، فإذا بنا نُلاحظ -وبلا أدنى جهد فى النَظرِ- مدى تواجد المنقبات في شوارع أوروبا يسيرون ذهابًا وإيابًا.
إنه النقاب مرة أخرى.. هذا الزي الذي اقتحم حياتنا مرة أخرى وبقوة، فارضًا نفسه وثقافته التي يُمثلها علينا وعلى مجتمعات العالمين، دون أدنى اعتبار لمدى توافق هذا الزي مع المجتمعات التي ينتشر فيها.
والسؤال الذي يَطرح نفسه هنا: هل تَضطهِد أوروبا المُنقبَّات حينما تُصدِر الدول؛ الدولة تلو الأخرى تشريعات تُجرِّم ارتداء هذا الزي في الأماكن العامة؟؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي "النفي القاطع"، فأوروبا حينما تُسِنُّ تشريعًا ما تُحرِّم به ارتداء هذا الزي في الأماكن العامة، لهي بريئة تمامًا من أي شبهة اضطهاد، والدليل على ذلك هو تسامح المجتمع الأوروبي مع الحِجَاب، ومع ارتداء "الجلاليب" بالنسبة للرجال، فأوروبا هنا لم تجد أي غَضاضَة في أن ترتدي أي امرأة الحجاب، أو أن يرتدي أي رجل ما الجلباب والغترة على الرأس، حيث أن هذه الأزياء وإن كانت تتنافى وتتعارض مع الثقافة الأوروبية، إلا أنها لا تُمثِّل تهديدًا للأمن العام مثلما يمثله هذا النقاب.
فالمُحجبة لا يَمنع حِجابها من استبيان شخصيتها والتـأكد من هويتها، ولكن النقاب يمنع هذا، فبأي حقٍ تَرى المُنقبة ومَنْ يُناصرها أن من حقها أن تخفي شخصيتها عن المجتمع.. هناك فرق كبير بين سَتر الجسد وبين إخفاء الشخصية، فالحجاب يستر الجسم، لكنه لا يخفى شخصية صاحبته، ولهذا تَسامَح المجتمع الأوروبى مع الحجاب، ولكنه رفض النقاب، لأنه رأى فيه تهديدًا لأمنهِ القومي، ولأمن مواطنيه أيضًا.. إنني في الحقيقة في عجب من الذين يدافعون عن حق المنقبات في ارتداء النفاب فى أوروبا على وجه الخصوص، وارتداءه في أي مكان على وجه العموم.
في الواقع لقد قامت الدول الأوروبية بما لم نستطع نحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية القيام به، فتلك التشريعات التي تُشرِّعهَا الدول الأوروبية لمنع ارتداء النقاب في الأماكن العامة، نحن أَولىَ وفي أَمَّسْ الحاجة لأن يصدر لدينا مثل هذه القوانين التي تحفظ لهذا المجتمع الحد الادنى من حقه في الحفاظ على أمنه العام.
لقد جَفَّ حَلْقُ الكثيرين تَحدُّثًا وتبيانًا: "إن النقاب إبن لبيئته الصحراوية الترابية التي جاء منها، وأن هذا الزي هو زي اجتماعي في الأساس، وكان موجودًا في البيئة التي ظهر فيها الإسلام؛ أي أن الإسلام لم يأتِ به، ولم يبتدعه.
فما زالت النساء في المحافظات البدوية في مصر ترتدينه؛ مثل القاطنات في سيناء وسيوة والمناطق النائية من مرسى مطروح، وكم يبدو النقاب عليهن جميلاً لأنه متوافق تمامًا مع عموم البيئة، وطبيعة المكان، وثقافته العامة.
أما في المُدن.. فالأمر جَدُّ مختلف.. الثقافة مختلفة، طبيعة الحياة مختلفة، الحياة المدنية بكل تعقيداتها تستلزم الحد الأدنى من التواصل الإنساني، وهذا التواصل الذي يقف له النقاب بالمرصاد.
لا أحد يطلب ويسعى إلى السوقية والفجاجة في الملابس، ولكن المبالغة مكروهة في كل شيء، والنقاب زِىٌّ فيه مبالغة، ولا شك "مبالغة" تُجاوِز الواقع عن الحاجة إليها، ولكن ماذا نفعل مع أساطين السَلفية وما ملكوه من عقول وألبابٍ؟ فإذا كان المجتمع العربي والإسلامي مُصِرًا على تَقبُّل هذا الزي في منظومته العامة، فلا يجب علينا أن نحاول فرضه أيضًا على الأخر، هذا الأخر الذي يختلف عنا في كل شيء، وبخاصةٍ فيما يَخُصُ المرأة وأدميتها، هذه الأدمية التي يمتهنها النقاب، كـ"أشد ما يكون الامتهان."
http://www.copts-united.com/article.php?A=18308&I=454