جراح وأفراح

القس. سامي بشاره

بقلم: القس سامي بشارة جيد
1.   جراح الصليب:
ما أقسى الجراح عندما تكون عميقة، وما أعمق الألم عندما يكون ليس بسبب شخصي بل بسبب خطأ شخص آخر، وما أبلغ الأثر حينما تكون الجراح متعددة ومتنوعة وغائرة تأبى الشفاء وتستعصي على الالتئام تترك ندوباً تعلن دون كلام وتنشر الذكريات الحزينة في صمت أبلغ من كل حديث، وكما هو معروف عن الصليب فهو لعنة وهو خزي وهو عار، وكما هو مكتوب عن يسوع أنه رجل أوجاع ومختبر الحزن وأنه مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره (جراحاته) قد شفينا (أشعياء 53: 4–5).

وفي حالة يسوع المصلوب وفي وضع كالصلب يصعب أن نَصف الألم ويستحيل أن نعبّر عن المعاناة، فالجروح جداً بليغة والسبب ليس البعيدين لكنهم الأقرباء، فهناك جرح الخيانة والمتسبب ليس بعدو بعيد لكنه تلميذ قريب عن يسار المسيح، فقد اعتاد الخائن أن يتكئ قريباً ليعرف أكثر وليخطط أدق ولينتهز المناسبة وليتحين الفرصة في مكر ودهاء وروحانية مزيفة، وقد أصاب في مقتل وأتاه الشيطان سأل قلبه وما ظل يحلم به طيلة ثلاث سنين ونيف والثمن ثلاثون من الفضة وهو أجرة عامل في سنة وثمن مجرد عبد... وأمام جارية كان الجرح أحقر وأكبر وكان الأثر أعمق وأغور إذ أقسم بطرس ولعن وغدر إني لا أعرف الرجل، ونسى أو تناسى أنه ذات يوم أمشاه الرجل على المياه وجعله الموج يعبر وعلى جبل التجلي أراه موسى وإيليا وكان عجيب المنظر... وكان الجرح الآخر وليس بالأخير أن تركه الكل ولاذوا بالهرب، فلقد تملكهم الخوف واعتراهم الرعب وامتلأ عقلهم بالتوجس، فلقد ضُرب الراعي فتبدد القطيع واُعتقل الفادي وتشتت الجميع وبقى يسوع وحده في مواجهة رؤساء الكهنة في محاكمات ومماحكات فريسية، وأمطره هيرودس وبيلاطس باتهامات سياسية، وأصدر الجميع الحكم بأنه خير أن يموت واحد عن الأمة، ومن الأصوب والأقرب أن يُصلب البريء وأن يُطلق المجرم إذ أراد الجمع باراباس، وما أغرب ما يطلب الناس إذ كان باراباس لصاً وهذا ليس بغريب عن عالم الخطية وليس بمستغرب عن عالم الإثم والجريمة وانتهاك إنسانية الإنسان ولا بجديد عن دنيا انتهاك حقوق الإنسان واضطهاد الأقليات.

ثم يمضي قطار الجراح ويأمر من بيده أمر الأرض على خالق السماء والأرض بالجلد وتنزع عنه الثياب ليذوق مرار السياط أربعون إلا واحدة، لترسم خطوط الألم طريق الأمل ولتمهد نوراج الضربات بوابة الأبدية ولتفتح جراح الظهر طريق الولوج إلى السماء، فكل جلدة فتحت باباً وكل جلطة صنعت رجاءاً وكل قطرة دم كتبت اسم مفدياً وكل سوط أنبت جنيناً من رحم الموت وكل قطرة عرق أطفأت بعض من لهيب الجحيم.
على الصليب يا حبيبي كم لقيت آلام ممن تمادوا في ايذائك وقد غفرت آثام، وعلى الصليب ذقت الخل وارتويت بالمر وطُعنت بحربة الغدر، ويا له من منظر مريع أن تصلب بين لصين وأن تكتب يافطة الحكم عليك ملك اليهود، فأنت ملك ولكن بلا تاج إلا العار، وأنت مليك وليس مملكة إلا الخزي، وأنت محكوم عليك بالموت وأنت الوحيد بلا خطية وأنا وحدي الجاني، وأنا نفسي الخائن والناكر والهارب والتارك أليف صباي والناسي عهد نذري، وأنا من دققت المسمار وأنا من كنت السبب ومن جعلتك تُصلب وتُعذب وتكتوي بالألم وتتجرع الجراح جرحاً فجرح.

أنا يا سيدي ويا سندي يا ملكي ومالكي.. أنا من أهنتك واحتقرتك وجعلتك صغيراً بحجم البعوضة وأنت أكبر من أن أصفك وأعظم من أن تقترن بي، فسامحني واذكرني يارب متي جئت في ملكوتك واغفر لي خطاياي لأني لا أعرف ماذا بنفسي فعلت حين قدتك بجرمي إلى الصليب، وأحياناً بتعمدي أن أشرب من ماء البحر المالح، وقتلتك عمداً مع سبق الإصرار والترصد، وحينما قفلت الباب في وجهك لأفعل نزواتي وفتحت الباب على مصراعيه أمام شهواتي، وحين عشت حياتي بالطول والعرض وحين رسمت طريق الجلجثة سقطة سقطة كدرج السلم بجري وراء اخر، ثم تكتمل الجراح ولا تنتهي نارها وأنت من اكتوى بحرّها ولفحها.

وتبلغ المذبحة فصولها الأخيرة دون نهايتها إذ يسخر منك اللص الخائب وينتهره الآخر التائب ويحتقرك المار والذاهب، فهذا يسخر من ضعفك وأنت القوي وذاك يستقوي عليك وأنت في وضع الضعيف بالرغم من أن الجميع يتقوى منك ويقتدي بك.
سيدي ما أكثر جراحاتك فهي كثر.. فهذا يهوذا أسلمك وذاك بطرس أنكرك وهولاء تركوك وحدك ومضوا كل في طريق وأهل وطنك باعوك والغرباء صلبوك واللصوص عيروك فكان كل شيء فيك يحترق وكل جزء في جسدك ينزف وكل نبضة في شراينك تتأوه وكل دقة في قلبك تئن وتصرخ وكل عضو في جسمك يتألم.. فيا لها من جراح ويا لي من خاطئ أثيم.

2.   أفراح القيامة:
النسوة كن أول من جئن إلى القبر لينحن على يسوع المصلوب، ولكنهن لم يكنّ يدركن أن معرفة يسوع لا يدوم معها الحزن والبكاء، بل معرفة يسوع تحول الحزن إلى فرح والبكاء إلى ترنم واليأس إلى رجاء والموت إلى حياة والقبر إلى قارب نجاة... وكانت أول من جاءت باكراً والظلام باق مريم المجدلية، ومن يجيء مبكراً يجد بركة الباكورة وينال أول قطاف البشرى، فأسرعت تخبر سمعان بطرس ويوحنا الحبيب اللذين ركضا معاً، ومن يركض ينال حسب وعد الرب اركضوا لكي تنالوا، ويذكر يوحنا في بشارته أن يوحنا سبق بطرس.. ربما لفارق السن وربما لأن بطرس كان مثقلاً بالشعور بالخزي بسبب جرح الإنكار لأنه لو قابل الرب وجهاً لوجه ماذا سيقول له ولو نظر الرب في عينيه ماذا سيرى سوى الإنكسار وخيبة الأمل، ولكنه عندما وصل إلى القبر دخل.. ربما لأنه لما لم يجد الحجر على باب القبر تخيل يسوع يبتسم والحجر ينطق "لماذا تطلب الحي بين الأموات"، ولحظتها تذكر بطرس أنه ينبغي أن يقوم المسيح من بين الأموات، فليس للموت سلطان على من أقام لعازر وابن أرملة نايين، فنال بطرس رؤية القبر وهو فارغ حسب المكتوب "رأى فآمن" (يوحنا 20 : 8).

والإيمان فرحة ما بعدها فرحة وبسمة ليس مثيلها بسمة، ولقد قام يسوع لكي يسترد بطرس كما سبق ووعده بأنه طلب لأجله لكي لا يفنى إيمانه، فتضرع الرب لأجلنا يحمينا من فناء إيماننا، وأيضاً قيامة يسوع كانت تحمل لبطرس ذلك الصخرة رداً من نوع خاص وفرحاً من عينة جديدة، فلقد قام يسوع لكي يعود بطرس إلى مكانته الأولى، وفي مقابلة معه سأله الرب أتحبني؟ وكان ذلك علي ثلاث مرات فكان سؤال المحبة من قلب يسوع يسترد جواب الإنكار من قلب وحياة بطرس، وهذا هو الرب المقام الذي بقيامته استردنا من الإنكار والضياع والهزيمة وأعادنا إلى مكانتنا الأولى حيث النصرة والأمان وحب الله الذي لا يتغير ولا يتبدل.
لقد كانت قلوب الجميع متحيرة، وعندما تملكنا الحيرة في أمور الحياة علينا أن نصلي بكل قلوبنا لكي يفتح روح الله القدوس عيون أذهاننا فنصل إلى الإستنارة الروحية التي تمكنا بأن نختبر ليس فرحة القبر الفارغ بل في كل موقف نرى الرب بعيون الإيمان.

وأيضاً يمكن أن نرى فرحة القيامة في اختبار اثنين من تلاميذ الرب كانا منطلقين إلى قرية اسمها عمواس بعيدة عن أورشليم بحوالي 13 كم تقريباً (60 غلوة والغلوة تساوي 185م)، وبعيداً عن أورشليم نفقد أمان الموعد ونحصد طغيان الإحباط، أجمل ما نختبره في القيامة أن رب القيامة لا يتركنا أبداً لإحباطات الحياة حتى لو كنا بعيداً على الشاطئ نتصيد أو منشغلين عن قيامة الرب، لا عجب أن قيامة الرب توبخ غباء عدم الإيمان وبطيء القلب في أن يصدق ما قاله الله ولا يعيش أفراح الغفران بل يترك الرب لأجل مال زائل أو شهوة عابرة، ولكن ما لنا في القيامة أن الرب اقترب منهما فكل بعد من ناحيتنا يقابلة الرب المقام باقتراب منه، واتكأ معهما لأن بطيء إيمان كان يستلزم مجهوداً مضاعفاً من الرب فلا عجب أن ثقل خطايانا كلفت الرب أن يبذل نفسه وأن يقدم جسده فدية وكفارة لتغطية آثامنا وترضية لقداسة وعدالة الله الآب، وعندما ناولهما وفي ذلك إلى العشاء الرباني والمائدة المقدسة تذكار موت وقيامة الرب فانفتحت أعينهما، إن ما نختبره في القيامة هو فرح انفتاح القلب على المسيح الحي وفرح الإشتراك في جسد الرب ودمه وفي ذلك تأكيد لغفران خطايانا.

إن أفراح القيامة كثيرة وهي أيضاً جزيلة حتى أنها شملت نيقودموس ويوسف الرامي وتوما وسمعان القيرواني الذي نال شرف أن يحمل صليب المسيح لفترة قليلة، وغيرهم كثر لا يقوى على حسابهم العد أو الحصر، ولكن هناك فرح خاص في قلب كل مؤمن بيسوع وعمله المجيد على الصليب، فهناك تطويبة خاصة لكل من آمن ولم ير، فلقد جاء يسوع خصيصاً لتوما الشكاك ومنحه الرب فرحة القيامة ولكنه أعطى ومنح كل من لم ير السيد بالجسد -ومنهم أنا- هذه الهبة وهذه الفرحة التي غمرتني وأحاطتني وشملتني جسداً وروحاً ونفساً وقلباً وقالباً، عندما أقامني يسوع من ظلمة قبر الخطية وسلطة إبليس الجهنمية إلى حرية مجد أولاد الله وحياة النور، ومن حزن الكورة البعيدة إلى شركة القديسين الجديدة بفعل وفضل القيامة التي هي حقيقة ليست تاريخية فحسب بل هي شخصية في قلبي وليست علمية فقط بل عملية أيضاً في حياتي وحياة الملايين ممن اختبروا أفراح قيامة الرب يسوع المسيح.
فيا جراح الصليب اجرحيني فأُشفى.. ويا أفراح القيامة أدركيني فأصفى وأعفو عن الآخرين... آمين فآمين.
إن رسالة القيامة تؤكد حقيقة أن ما أكثر الجراح في عالم الأتراح وما أكبر الأفراح بقيامة أبي الأرواح، ومهما كانت جراح الصليب مؤلمة فأفراح القيامة مؤملة، ورغم أن آلام الصليب وقتية فنصرة القيامة نهائية، المسيح قام بالحقيقة قام.

أنا مجروح والصليب دوائي
أنا عليل والمسيح شفائي
أنا جريح والخطية دائي
أنا طريح وأنت عزائي
أنا مجرم والحكم نهائي
أنا آثم والقيامة بقائي
أنا سجين نزواتي وأهوائي
أنا طليق ويسوع حريتي وبهائي
أن كان الجرح يؤلمني
ففي قيامة يسوع فرحي وسمائي


القس: سامي بشارة جيد
راعي الكنيسة الانجيلية بابو حماد - شرقية
ماجستير الدراسات اللاهوتية

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع