لطيف شاكر
بقلم: لطيف شاكر
يقول المفكر الكبير والعالم الشهير كوستلي بندلي انه لخص عناصر اقتبستها من كتاب: " Martin Luther King, "، وهو كتاب بالغ التشويق يسرد فيه مارتن لوثر كينغ أولى حملات نضاله اللاعنفي الذي واصله طيلة 13 سنة، أي حتى اغتياله في عام 1968. ومع السرد ومن خلاله يتطرق إلى مبادئ النضال اللاعنفي والى أساليبه التي تبلورت عبر ممارسة أثبتت فعاليتها المذهلة. الجزء الأكبر من هذه العناصر، وهو الأكثر تفصيلاً، يتناول ظروف انطلاق المقاطعة ويروي سير العملية حتى اختتامها الظافر، وقد سبق نشره في كتابي "نضال عنفي أو لاعنفي؟ لإحقاق العدالة"،
وفي مقدمة هذا الكتاب، يقول انه يروي فيه الأحداث التي حوّلت، خلال بضع سنوات، مدينة صغيرة من مدن جنوب الولايات المتحدة الأميركية، ألا وهي مونتغومري، في ولاية ألاباما. ويوضح أنه يروي تلك الأحداث من منظاره الشخصي، ولذا اضطر أن يستعمل صيغة المتكلم، مع أن الموضوع، كما يقول، موضوع جماعي، كونه، حسب تعبيره، "مغامرة خمسين ألف أسود أميركي تبنوا مبادئ اللاعنف فتعلموا أن يناضلوا من أجل حقوقهم بأسلحة المحبة، وبذلك استعادوا اكتشاف قيمتهم ككائنات بشرية" .
إنها قصة قادة سود ينتمون إلى مذاهب وإيديولوجيات مختلفة، جمعتهم قضية كانوا يعرفونها عادلة، كما إنها قصة الذين تبعوهم والذي فضّلوا – رغم كون الكثيرون منهم مسنّين – أن يقطعوا كل يوم مسافة 17 كيلومتراً، طيلة أكثر من سنة، مشياً على الأقدام، في ذهابهم إلى عملهم وإيابهم منه، على أن يقبلوا الإهانة والإذلال الناتجين عن التفريق العنصري في الباصات، وقد أدركوا المعنى العميق لعملهم هذا، مما جعل عجوزاً منهم تجيب الذين سألوها إذا كانت لم تتعب بعد عدة أسابيع من المشي، بقولها: "إن قدميّ قد تعبا، ولكن نفسي مرتاحة".
تلك القصة، كما يشير المؤلف، تتعدى نطاق مدينة معيّنة، إنها حلقة من حلقات نضال السود الأميركيين اللاعنفي من أجل حقوقهم كبشر ومواطنين.
1- نشأة مارتن لوثر كينغ في الجنوب العنصري
في الفصل الأول من كتابه، يروي لنا المؤلف الظروف التي قادته إلى الإقامة في مونتغومري، تلك المدينة العريقة بمواقفها العنصرية إذ عُرفت تاريخياً على أنها مهد اتحاد الولايات الجنوبية التي أعلنت عام 1861 الانشقاق عن الولايات الشمالية بسبب إعلان أبراهام لنكولن تحرير العبيد.
نشأ مارتن لوثر كينغ في مدينة أطلانطا، في ولاية جاورجيا الجنوبية، وعانى فيها منذ طفولته من التفريق العنصري في المدارس والعيادات والمطاعم والمسارح ودور السينما والمساكن وسُبل المياه ووسائل النقل وقاعات الانتظار والمراحيض. وكان والده قسيساً لرعية معمدانية من أربعة آلاف نسمة، وقد رفض طيلة حياته التفريق العنصري وناضل ضده، وقد أخذ ولده عنه ذلك الموقف بالذات.
2– عودته إلى الجنوب بعد انتهاء دراسته (1954)
تابع مارتن لوثر كينغ دراسته في جامعة بوسطن وكان على وشك الحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. بقي عليه فقط أن يكتب أطروحته. كان متردداً بين القسوسية والتعليم. وقد طرحت عليه عروض مغرية في المجالين. فكانت رعيتان، إحداهما في ولاية ماساشوستس والثانية في نيويورك، ترغبان به راعياً لهما، كما أن ثلاث جامعات في الشمال قد عرضت عليه إحداها مركز أستاذ والثانية مركز عميد والثالثة مركزاً إدارياً.
في هذه الأثناء أعلمته رعية بشارع دكستر في مونتغومري أن مركز الراعي قد اصبح فيها شاغراً وأنها ترجوه أن يأتي ويلقي عظة فيها، وبالفعل أتى وألقى هذه العظة التي صادفت تجاوباً من السامعين. وعلى إثرها عُرض عليه أن يرعى تلك الرعية. فبحث في الأمر مع زوجته كورتا التي كان قد تزوج منها قبل ذلك بعام بعد أن تعرّف عليها في بوسطن عندما كانت تتخصص بالغناء في الكونسرفاتوار. تدارس الزوجان الأمر معاً وصلّيا. كان يصعب عليهما أن يعودا إلى الجنوب العنصري وأن يعيشا مجدداً في الجو المؤلم الذي عانيا منه في طفولتهما وشبابهما، بينما كانت تتفتح أمامهما مجالات عمل مغرية في الشمال حيث التفريق العنصري أقل حدّة. ولكنهما توصلا إلى القناعة بأن واجباً يترتب عليهما بأن يعودا إلى مسقط رأسهما بعد أن نعما بالدراسة في مناطق أكثر تحرراً وأن يساهما بواسطة ما أنشآه من علاقات وما حصلا عليه من خبرة، في إزالة التمييز العنصري الذي تألما منه.
بناءً عليه قرّر مارتن لوثر كينغ أن يقبل بعرض رعية شارع دكستر لبضع سنوات. فاستلم مسؤوليته في أيار 1954، ومارسها أولاً بشكل متقطع إلى أن أنهى أطروحته. بعد ذلك تسلّمها بشكل كامل ابتداءً من أول أيلول 1954. كان له آنذاك من العمر 25 عاماً.
3– وضع مونتغومري قبل حركة النضال اللاعنفي
يصف لنا الكاتب وضع مونتغومري على الصعيد الاجتماعي عندما بدأ يمارس فيها عمله الرعائي.
أ – التفريق العنصري:
فيصوّر لنا الهوّة التي كانت تفصل بين البيض والسود في المجال الاقتصادي. ففي سنة 1950 كان معدل دخل السكان البيض في مونتغومري (وعددهم 70 ألفاً)، 1730 دولاراً سنوياً. بينما معدّل دخل السكان السود (وعددهم 50 ألفاً) لم يكن يتجاوز 970 دولاراً. وكانت كل من الجماعتين البيضاء والسوداء منطوية على نفسها. فلكلّ منهما مدارسها الخاصة بها، رغم قرار المحكمة العليا للولايات المتحدة التي كانت قد منعت التمييز العنصري في المدارس. كانت هناك شركات تاكسي تقلّ البيض فقط وشركة تاكسي خاصة بالسود. أما الباصات فكان يصعد إليها البيض من الأمام والسود من الوراء، وتشغل كل من الفئتين نصف الحافلة دون أن يُسمح بأي اختلاط بينهما. ولم تكن هناك منظمات مهنية تجمع العنصرين على صعيد محليّ. حتى رجال الدين لم يكن بوسعهم أن يلتقي البيض منهم بالسود في إطار منظمة رسميّة.
ب– حرمان السود من حقهم في الانتخاب
وكانت ضغوط قانونية وإدارية تمارس على السود لحرمانهم أكثر ما يمكن من حقّهم في الانتخاب، وذلك بإقامة حواجز هائلة دون ممارستهم هذا الحقّ، لحملهم على التخلّي عنه. فقد كان على الأسود أن يسجّل اسمه على اللوائح الانتخابية ليتسنى له ممارسة حقه في الانتخاب، إلاّ أن شرائع ولاية آلاباما كانت تمنح صلاحيات مطلقة لموظفي مكاتب التسجيل، فكنت ترى في تلك المكاتب شباكين، أحدهما للبيض والآخر للسود. فالموظفون المكلفون بتسجيل السود كانوا يتعمّدون البطء في التعامل إلى حدّ أنه، إذا تقدّم خمسون أسوَداً في الصباح لم يكن يسجّل منهم سوى خمسة عشر حتى آخر النهار. بالإضافة إلى ذلك، كان على كل ناخب أن يملأ استمارة طويلة قبل تسجيله، فكان يطلب من السود أن يعيدوا هذه العملية عدة مرات بتواريخ مختلفة قبل أن يتم تسجيلهم. كل ذلك يفسّر كيف أنه، في سنة 1954، من أصل 30 ألف أسود راشد في دائرة مونتغومري، لم يكن مسجَّلاً سوى حوالي ألفين على اللوائح الانتخابية، وهذا بدوره يفسر كيف أنه لم يكن أسود واحد يشغل وظيفة عامة في مونتغومري.
ج – مواجهة مارتن لوثر كينغ للظلم العنصري
اهتم مارتن لوثر كينغ بتلك المشكلة. فألّف لجنة في رعيته سمّاها "لجنة العمل الاجتماعي والسياسي"، مهمتها إطلاع الرعية على التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في المحيط الذي تعيش فيه، وتوعية أبناء الرعية إلى ضرورة التسجيل على اللوائح الانتخابية والى أهمية مساندة "الاتحاد الوطني للدفاع عن غير البيض" (NAACP) الذي كان له فرع محلّي في مونتغومري – كما أن تلك اللجنة كانت تنظّم، في فترات الانتخابات، جمعيات عمومية تناقَش فيها قضايا الساعة. أصدرت تلك اللجنة نشرة أسبوعية كانت تُوزَّع على كل أبناء الرعية بقصد توعيتهم حول القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى، كما أنها أنشأت مركزاً لتدريب السود غير المسجَّلين في اللوائح الانتخابية على تخطي العقبات المنصوبة أمامهم. وقد حققت اللجنة بسرعة نتائج ملموسة وتسجّل بفضلها عدد كبير من السود في اللوائح الانتخابية.
د– مأساة عايشها
إنتسب مارتن لوثر كينغ إلى الفرع المحلّي للـ NAACP وساهم مساهمة فعّالة في نشاطه، وسرعان ما انتخب عضواً في لجنته التنفيذية. هكذا شارك في نضال المنظمة ضد الظلم العنصري، خاصة على صعيد القضاء.
ومن المآسي التي عايشها في هذا المجال، مأساة شاب أسود اسمه إرميا ريفز عمره 16 سنة، عازف في فرقة جاز، ألقي القبض عليه بتهمة اغتصاب فتاة بيضاء. بعد توقيفه أخذه أحد القضاة إلى غرفة الإعدام وهدّده بالكرسي الكهربائي إن لم يعترف بالحال. فاعترف تحت وطأة هذا التهديد، ولكنه عاد فيما بعد عن اعترافه ولبث طيلة السنوات السبع التي بقيت فيها قضيته قيد المحاكمة مصراً على إنكاره. تولت منظمة الـ NAACP مهمة توكيل محامين للدفاع عن ريفز ودفعت كل نفقات المحاكمة. وحُكم على ريفز بالإعدام، فاستُئنِفَت الدعوى عدة مرات أمام محاكم آلاباما ومرتين أمام المحكمة العليا للولايات المتحدة، التي نقضت الحكم في المرة الأولى ثم أعلنت عدم صلاحيتها في المرة الثانية مما سمح بتنفيذ الحكم، فأعدم ريفز على الكرسي الكهربائي في 28 آذار 1958. ومما يظهر التحيّز السافر الذي كانت تبديه محاكم الجنوب، أنه، في تلك السنوات عينها التي قضاها هذا الشاب في السجن منتظراً الموت، أتُهِمَ عدة بيض في الولاية نفسها بمحاولة اغتصاب نساء من السود، فكان يُلقى القبض عليهم في ما ندر، وإذا كان أن أوقفوا كان يُطلق سراحهم قبل المحاكمة. (اليس اليوم اشبه بالبارحة )
هـ– انتماؤه إلى مؤسّسة تجمع بيضاً وسوداً
في الوقت نفسه الذي انتسب فيه كينغ إلى "الاتحاد الوطني للدفاع عن غير البيض" – وكان مؤلفاً في مونتغومري من السود فقط - انتسب أيضاً إلى جماعة أخرى، كانت تتفرد بكونها تجمع بيضاً وسوداً في مؤسسة واحدة، ألا وهي "مجلس ألاباما للعلاقات الإنسانية". كان المبدأ الأساسي لهذا المجلس هو التالي، "خُلق البشر كلّهم متساوين أمام الله، هذا يعني، على صعيد حياتنا الوطنية، أن كلاً منهم له الحقّ أن يتمتع بنفس الفرص التي يتمتع بها الآخرون للمشاركة في حياة أمتنا. ولا يجوز لأي فرد أو جماعة أن يحدّ من هذا الحق."
كان يرأس هذا المجلس قسّ أبيض شاب نُقل في ما بعد إلى قرية صغيرة نائية لأن رعيته شكت من نضاله ضد التمييز العنصري. كانت خطة المجلس في هذا النضال، اعتماد الطرق التربوية من توعية وإقامة اتصالات بين العنصرين الأبيض والأسود بغية المساعدة على تخطّي الجهل الذي ينشئ الخوف وبالتالي الكراهية.
و- إيمانه بفاعلية الجمع بين التربية والتشريع: ساهم كينغ في هذا المجلس وانتخب نائب رئيس له. وقد تعجب الكثيرون من انتمائه بآن واحد إلى مؤسستين تعملان بموجب أساليب مختلفة. ففي حين أن "مجلس آلاباما للعلاقات الإنسانية" كان يعتمد بشكل رئيسي الوسائل التربوية، من أجل إزالة التمييز العنصري، كان "الاتحاد الوطني للدفاع عن غير البيض" يعمل بنوع خاص على صعيد القانون والتشريع. ولكن كينغ لم يجد عجباً في هذا الانتماء المزدوج وقد أوضح موقفه كما يلي:
"كنت مقتنعاً أن وجهتَي النظر متكاملتان وأن كليهما لا يُستغنى عنهما. فالطريقة الأولى من شأنها أن تغيّر مواقف الأفراد، أما الثانية فهي حريّة بأن تضع حداً للمظالم. فبالتربية، كنا نبغي تغيير المشاعر (من تصوّرات مسبقة وحقد وغير ذلك ...). أما بالعمل التشريعي والقانوني، فكنا نريد أن نمارس رقابة على النتائج الخارجية لتلك المشاعر. الطريقة الأولى كانت كفيلة بان تساعدنا على هدم الحواجز الروحية التي كانت لا تزال تعترض الدمج العنصري. أما الطريقة الثانية، فكان يُنتظَر منها أن تساعدنا على هدم الحواجز عينها على الصعيد المادّي".
ز– عوائق داخلية كانت تواجهها جماعة السود
هذا وقد اكتشف كينغ شيئاً فشيئاً ثغرات في الجماعة السوداء كانت تحول دون كل تقدّم اجتماعي لهذه الفئة المحرومة، ألا وهي:
- انقسام الجماعة إلى جمعيات عديدة غير متعاونة.
- لا مبالاة المثقفين. صحيح أن بعضاً من هؤلاء كانوا في طليعة النضال، إلا أن أغلبيتهم كانوا قابلين ضمناً بالوضع الراهن ولا يشاركون في أية حركة لتغييره. تلك السلبيّة كانت تعود، من جهة، إلى خوف المثقَّفين على مراكزهم، ومن جهة ثانية إلى الخمول الذي كان يؤدي إلى إحجامهم حتى عن ممارسة الحقوق المعترف لهم بها، كحقّ الانتخاب مثلاً.
- لا مبالاة رجال الدين السود. فقد كان بعضهم، وهم الأكثر حرارة واندفاعاً، يظهرون اهتماماً عميقاً بالقضايا الاجتماعية. ولكن كثيرين منهم كانوا يتجاهلون مسؤولياتهم في هذا الميدان، معتبرين أنه لا ينبغي للقسّ أن "يوسخ يديه" بقضايا أرضية دنيا كالتقدم الاقتصادي والاجتماعي، بل أن "يبشّر بالإنجيل" ويوّجه أفكار المؤمنين نحو "الحقائق السماوية". ينتقد القسّ مارتن لوثر كينغ هذا المفهوم الضيّق، المبتور، للدين، قائلاً:
"صحيح أن القيم الروحية لها أهمية رئيسية في كلّ دين جدير بهذا الاسم فالدين، بأسمى أشكاله، يهتمّ ليس فقط بحاجات الإنسان البدائية، بل بعطشه إلى اللانهاية أيضاً، ذلك العطش الذي لا يمكن للإنسان أن يتهرّب منه. فإذا نسي الدين هذا الواجب الأساسي، تحوّل إلى مجرّد أخلاق، ولم يعد الله بالنسبة إليه سوى نتاج الخيال الإنساني، لا معنى له.
"إلا أن الدين، الأمين لدعوته، عليه أن يهتمّ أيضاً بظروف الوجود الإنساني. إنه يهتمّ بمصير الإنسانية الأرضي كما يهتمّ بمصيرها الروحي، يهتمّ بالزمن كما بالأبدية. إنه يعمل، إذا صحّ التعبير، لا على الصعيد العمودي وحسب، بل على الصعيد الأفقي أيضاً إن كلّ دين يدّعي الاهتمام بالنفوس دون أن يهتمّ بالأكواخ القذرة التي تهلك فيها تلك النفوس، وبالبؤس الذي يخنقها، وبالوضع الاجتماعي الذي تذبل فيه، ليس سوى تحريف للدين.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=18780&I=465