القس. أيمن لويس
بقلم: القس. أيمن لويس
لم يصدمني كما صدم الكثيرين ذلك البيان المؤسف الذي خرج من قادة الكنيسة الإنجيلية عقب مقابلتهم لمحافظ الأقصر، بخصوص موضوع أرض كنيسة الأقصر، والتي تم ابتلاعها، كما تم انتهاك كرامة راعيها وزوجته، وهو رمز لرعيته وللطائفة الإنجيلية، وتعرضه للإساءة هو إهانة لهؤلاء جميعًا، وقد علمنا أن سيادته كان غاضبًا أثناء المقابلة بسبب "الجُرسة الإعلامية"، التي حدثت له نتيجة الأفعال والأقوال التي تمت في حق الكنيسة،، وعوضًا عن مناقشة كيفية استرداد الحقوق الضائعة، ومتى؟ كان النقاش حول كيفية استرضائه، وذلك بصدور بيان على هذا النحو المؤسف والمخزي، تكريسًا للمبدأ المغلوط الذي يُمارس كثيرًا في مجتمعنا بالمثل القائل: "ضربني وبكى، وسبقني واشتكى"!!
فعلاً.. شر البلية ما يُضحك، فعوضًا عن شعور بعض المسؤولين بالحرج -كما يحدث في سائر الدول المتحضرة- عند ممارسة الغطرسة والاستعلاء والاستغلال السيىء للسلطه من قِبلهم، أو ممَنْ يعملون تحت قيادتهم مع المواطنين، نجدهم بكل جرأة يستاءون ويزدادون قساوة، عندما يجدون صاحب الحق تجرأ وأخذ في المطالبة بحقوقه بصوت مسموع، وما يزيد الأمور مشقة على صاحب الحق الضائع، أنه إذا أراد الصمت تجنبًا لإثارة المسؤولين، أو خوفًا مما يمكن أن يحدث له ولا يُحمد عقباه، نجده يقع فريسة لألم الضمير بسبب إحساسه بالتقصير في القيام بواجبه، وقد تتصاعد التفاعلات، فيشعر بفقدان جزء من احترامه لذاته بسبب جُبنه وضعفه، أما أذا كان الإنسان لم يصل بعد إلى هذا المستوى من الوعي والرقي، فأقلها أنه لن ينجو من معايرة المجتمع له بالجُبن، وما يترتب عليه من طمع الأخرين فيه، واستحلال الاعتداء على حقوقه وأعز ما يملك.
إن سبب عدم صدمتي من صدور مثل هذا البيان، هو توقعي أن تنتهي الأمورعلى هذا النحو المعتاد، وهو نفس رد الفعل لما سوف يحدث من أحداث في المستقبل، وهذا التوقع يرجع لسببين؛ الأول هو "خبراتنا" من خلال تحليل المواقف السابقة التي حدثت فيها تجاوزات تجاه المسيحيين، وارتضى فيها عموم المسيحيين الجلسات العرفية والتهاون والتفريط في الحصول على الحقوق العادلة، والثاني هو "عِلمي"، ونجده لدى علماء علم النفس، وبخاصةٍ ما يُعرف بعلم النفس الاجتماعي.
فمثل هذا السلوك مصنف لديهم ومعروف ضمن حالات الظواهر النفسية، وتُسمى بـ "متلازمة ستوكهولم"، وقد سُميت بهذا الاسم عندما تم التعرف على هذا العرض، أو هذا السلوك السلبي في مدينة "ستوكهولم" عاصمة السويد، عندما سطت مجموعة من اللصوص على بنك سنة 1973م، وقاموا باحتجاز مجموعة من الأفراد والموظفين كرهائن لعدة أيام، وخلال هذه الفترة التي قضاها الرهائن تحت سيطرة اللصوص، بدأ الرهائن يشعرون بأُلفة مع الوضع، وبالتالي تَغيُّر في المشاعر العاطفيه تجاه الجناة، لدرجة أنه عندما تم تحريرهم بواسطة رجال الشرطة بعد القبض على اللصوص، لوحظ أثناء التحقيقات أن أقوال المحتجزين تحمل دفاعًا عن الجناة، والتماس التبريرات والأعذار لما ارتكبوه من جُرم.
ولما كان هذا السلوك من المحتجزين بمثابة صدمة للمجتمع المتحضر، الذي يؤمن بالعلم وقيمته، فكان لا بد من اللجوء والاستعانه بالمتخصصين في العلوم الإنسانية والطب النفسي، وبعد الدراسة والبحث لهذا السلوك الغريب، توصلوا إلى أنه عندما تكون الضحيه تحت ضغط نفسي نتيجة هيمنة كاملة للجاني، فإن نفسه تبدأ -لا إراديًا- بصنع آلية نفسية للدفاع عن النفس، وذلك بخلق إقتناع داخلي للاطمئنان للجاني، خاصة إذا أبدى الجاني أي حركة تنم عن حنان أو اهتمام، حتى لو كان صغيرًا جدًا، فتبدأ الضحية لا إراديًا في تضخيم الحدث، وتبدو له كالشيىء الكبير، (وهذا يفسر الخضة، وأحيانًا مظاهر الفرح التي تحدث لبعض القيادات الدينية، لمجرد مقابلة المسؤول الفلانى!!، أو زيارة المسؤول الفلاني للكنيسة!!!).
وفي أحيانٍ أخرى يتفاعل الأمر بأفكار منطقية، مثل تفكير الضحية في خطورة محاولة المقاومة، أو حتى طلب الإنقاذ، وأن هذا الأمر من الممكن أن يسبب له الأذى، مما يزيد المجني عليه اقتناعًا بالتعلق بالجاني، وهذا ما تأكد للعلماء من وجوده وشيوعه، ويظهر بوضوح في حالات العنف والاستغلال والاغتصاب، وبخاصةٍ عند الأطفال، فنجدهم يتعلقون بالجناة، ولاسيما من زويهم، رغم الإساءة لهم.
إن الوضع على هذا النحو يعتبر مشكلة حقيقية، فالأمر إذن حالة مرضية، وهناك احتياج للعلاج والعلاجات النفسيه تحتاج لتوافر بعض العناصرلتحقيق الشفاء، أهمها؛ إبعاد المريض عن المسبب الذي جعله يُصاب بهذه الحالة، ثم مساعدته على إدراك حالته، ثم وضعه في بيئة صحية تساعده على إعادة التأهيل، والتكيف على التفكير الموضوعي، والنضج العاطفي، والثبات الانفعالي، وهذه متطلبات يصعب توافرها ولا توجد فرصة لتحقيقها، ولا إراده لذلك أيضًا.
وما يؤكد هذا التحليل، ما نجده من اختلاف في الطريقة والأسلوب والتصرفات من أبناءنا في بلاد المهجر، عن نظرائهم من أبناء الداخل في معظم الأمور، طبقًا لما استاقوه من ثقافات وممارسات، هيأت لهم مساحة من مناخ الصحة النفسية، جعلتهم يتعاملون مع المواقف بنضج عاطفي، ولا يستجيبوا لأساليب الابتزاز، وإن كانت الظروف غير مهيأة اليوم لتوافر كل عناصر الشفاء من متلازمة ستوكهولم، فعلى الأقل يكفينا ما وصلنا إليه من تحقيق أول خطوة من خطوات العلاج، وهي تحديد الحالة وإدراكها، وهذا في حد ذاته مرحلة هامة، كما علينا ألا نتخلى أبدًا عن أحد أركان إيماننا المسيحي، وهو التمسك بالرجاء والثقة في استجابة الله لصلواتنا ودعواتنا حتى تتغير الأحوال.
http://www.copts-united.com/article.php?A=18893&I=467