بقلم: عصام عبدالله
حالة من الفوضي والخلط والالتباس تسود مناقشات النخبة المصرية الآن – فما بالك بالعامة والبسطاء - المنوط بها فصل المقال فيما بين السياسة والدين، والتحديد الدقيق للمفاهيم الملتبسة والغائمة والبين بين، هذا الخلط تجلي بوضوح في الأزمة الحالية التى سميت بالزواج الثانى للاقباط الأرثوذكس، أو أزمة سلطة الكنيسة وقوة القانون.
ويبدو أن هذه الأزمة مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر، علي مختلف الصعد والمجالات، ما لم نفض الإشتباك بين المفاهيم والسلطات معا، وأن نميز تمييزا دقيقا (وشجاعا) بين الدين والدولة، بين المقدس والمدنس، بين النص الدينى وبين النص القانونى، وأظن أن هذه العملية جديرة بأن نتدارسها (معا) من خلال بعض الملاحظات الأولية:
أولا: استغلال الدين في العمل السياسي أدى إلي عدم التوافق العام حول طبيعة الدولة المصرية ومقوماتها، منذ أن تأسست قبل قرنين علي أيدي محمد علي وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين: ما (ماهية) تلك الدولة، وهل هي حقا دولة مدنية أم دولة دينية؟، وحين يتوه الجميع في دوامة خلط المفاهيم يصبح المخرج الوحيد هو: "دولة مدنية ذات مرجعية دينية"، أو دولة دينية ذات غلاف مدني، وهو مخرج (مهادن) يضمن للجميع مساحات نفوذ متكافئة دون أن يؤدي إلى صدام، لكنه في الوقت نفسه لا يرسم الحدود الواضحة والفاصلة، ومن ثم أصبح المصدر الرئيسي للفتن والفوضي والاضطراب والتفكك.
ثانيا: في الدولة المدنية (الحقيقية) تعتبر الحرية الدينية جوهرية لسبب بسيط هو "أنها تدعم منظومة الحريات الأساسية الأخرى التي تشكل قوام حقوق الإنسان: حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع، وحق الاختلاف، وحق الخطأ"، وبالتالي فإن الحرية الدينية وحرية الضمير وحرية تغيير الدين (تتعايش) في الدولة المدنية لأن هذه الحريات محفورة في نظامها القانوني وتمارس عمليا في الواقع، أما إذا قيدت الدولة المدنية ممارسة الحرية الدينية، أو فرضت نوعا خاصا منها، أو تدخلت في شرائعها، فإنها بذلك تكون قد تعدت حدود صلاحيتها.
ثالثا: السلطة المدنية، حسب "جون لوك" (1632 – 1704)، المؤسس الأول لفلسفة حقوق الإنسان، لا ينبغي لها أن تفرض عقائد الإيمان بواسطة القانون المدني، سواء تعلق الأمر بالعقائد أو بالشرائع، ولا ينبغي علي الحاكم، كما يقول " فى رسالة التسامح "، أن يتدخل إلا في ما يضمن السلام المدني، لأن الدين أمر يخص الفرد وحده، وهو علاقة شخصية بينه وبين الله، وللحق لم يكن الغرب مستعدا للاستماع للوك إلا بعد أن أنهك دينيا ومدنيا، ولا أدري كم سنحتاج من الوقت والجهد حتي نشعر بالانهاك والانتهاك؟
رابعا: لم يسأل أحدنا أو يسائل نفسه بأمانة: هل نحن نقدس الحريات وحقوق الإنسان أكثر من الغرب؟، لماذا لم يفرض الغرب العلماني علي الكنيسة الكاثوليكية زواج المطلقين أو يلزمها بإستخراج تصاريح الزواج الثاني؟، لماذا لم تصدر المحاكم المدنية في الغرب ما يلزم الكنيسة الأرثوذكسية (القبطية) بذلك، وما أكثر مشاكل المهاجرين هناك؟، ولماذا لم تجرم المحاكم تعدد الزوجات لدى المسلمين المقيمين؟.. الإجابة ببساطة: لأن العلمانية تحفظ حقوق المؤسسة الدينية والدولة المدنية علي السواء، وتمنع في الوقت نفسه تدخل أحدهما في دائرة اختصاص الأخري ونفوذها.
خامسا: لم تجر (النخبة) عندنا مقاربة حقيقية (صريحة وشفافة) حول مفهوم القانون في عالمنا العربي الإسلامي ومفهوم القانون في الغرب: فالقانون عندنا يستلهم أحكام " الشريعة " الإسلامية، ولا يوجد استعداد لدينا حتي الآن للقبول بالمفهوم العصري للقانون، كما هو متبع في الدولة المدنية الحديثة، وهذا الاختلاف حول مفهوم واحد (للقانون وتطبيقاته)، يتجلى أساسا في القضاء... الزواج بالقضاء والطلاق بالقضاء والتكفير (الخروج من الملة) بالقضاء، والتفريق بين الرجل وزوجته (الحسبة) بالقضاء، وهو ما يجعلنا (نعمم) مفهومنا الخاص للقضاء (في الأحوال الشخصية) علي أصحاب العقائد الأخري وشركاء الوطن.
سادسا: تقتضي المواطـَنة في الدولة المدنية، التزام المواطن بواجبات ومسؤوليات تجاه المواطنين الآخرين، وتجاه المجتمع الذي ينتمي إليه. وأهم هذه الواجبات هو الاعتراف بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، بمعني أن يحترم كل مواطن (عقائد) الآخرين وخصوصياتهم، لكن يبدو أن المواطنة عندنا لها مدلول آخر! فقد سقط العلمانيون المؤيدون لموقف الكنيسة سقطة مريعة، من وجهة نظر بعض (المسلمين والمسيحيين)، إذ كيف لهم أن يدعوا بعد اليوم أنهم (علمانيون) ومن أنصار الدولة المدنية، إذا لم يتخذوا موقفا حازما من الكنيسة، وأن يعلنوا تأييدهم الصريح لحكم المحكمة (الأخير).
سابعا: لا خلاف علي أن الكنيسة هي إحدي مؤسسات الدولة المدنية ولابد أن تخضع لقانون هذه الدولة وسلطتها، وهو ما يجب التأكيد عليه وبقوة طالما أنها (دولة مدنية)، لكن هذا الخضوع يخص الأمور المدنية وليست الأمور العقائدية. لم تعارض الكنيسة الأرثوذكسية الزواج المدني (وهو تطور جديد)، بينما تدخل القضاء في شأن ديني وليس مدني.. يدفعنا إلي التساؤل مجددا: ما هي الحدود الواضحة بين سلطان الدولة المدنية وسلطة المؤسسة الدينية؟ وهل من صلاحيات المحكمة (المدنية) أن تفصل في الزواج الديني أم الزواج المدني؟
ثامنا: كشفت هذه الأزمة عن مفهوم ضيق جدا للعلمانية عند النخبة.. العلمانية ليست ضد الدين ولا تملك تغيير الشرائع الدينية، لكنها تفصل الدين (وشرائعه) عن الدولة، لا أن تتدخل في شأن من شئون الدين.
لقد شرع الغرب العلمانى قوانين مدنية موازية لمن يرغب فى الزواج و الطلاق، وبالتالي لم يصطدم القانون المدني بدائرة الإيمان والعقيدة، أو قل أنه لم يتجاوز حدود صلاحياته، ولم يسمح للكنيسة في الوقت نفسه بتجاوز دائرة سلطتها الروحية، لكن يبدو أنه كتب علينا (اختراع العجلة من جديد، والكهرباء أيضا).
تاسعا: في عصر حقوق الإنسان، أو ما أطلق عليه " دين حقوق الإنسان "، أصبح للفرد الحرية الكاملة في أن يتزوج حسب القانون المدنى أو حسب القانون الكنسي، ولا تستطيع أية قوة اليوم أن تعترض علي ذلك، وهو ما أستوعبته الكنيسة الأرثوذكسية جيدا، ناهيك عن أنها لا تملك أن تمنع من يريد أن يتزوج مدنيا أو أن تحجر علي من يريد أن يطلق عن طريق المحكمة، وبيان المجلس الملي الأخير الذي نشر في جريدة الأهرام يؤكد علي أن الكنيسة لن تقف فى طريق الزواج المدني (لكنها لن تباركه بالمعني اللاهوتي) وهذا حقها لأنه يدخل في صميم صلاحيتها...
لكن يبدو أن "البربرية – مازالت - تخلط، وأن المدنية – ماتزال - بعيدة المنال"... لأسباب مفهومة اليوم، وغير مفهومة غدا!
نقلا عن ايلاف
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=19188&I=474